فى التاسع من مارس من كل عام، تحتفل مصر بيوم الشهيد منذ عام 1969، تخليدا لذكرى الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب الجيش، الذى استشهد على الجبهة وسط ضباطه وجنوده، بقصف العدو، واختير هذا اليوم سنويا للاحتفال بشهدائنا بعد انتصارات حرب أكتوبر عام1973، حتى أصبح الفريق عبدالمنعم رياض أيقونة الشهداء، وما قبل عام 1969 وحتى الآن يقدم أبطال مصر أرواحهم فداء للوطن، ومنهم الشهيد أحمد خالد صلاح، الذى التقينا والدته العميد متقاعد سلوى بديع، لتكشف لنا عن أهم صفات أم الشهيد، وشخصية البطل التى تشبه كثيرا من زملائه الأبطال، فكان هذا الحوار. صورتها الثابتة، وهدوؤها، يجعلانك تدرك أنها أم شهيد غير عادية، فوالدة الرائد الشهيد أحمد خالد صلاح هى أيضا من صفوف الأبطال المقاتلين، أبهرتنى بقوة إيمانها وصبرها، رغم أنى لم أستطع حبس دموعى أمام روايتها لقصة استشهاد ابنها الأكبر، دروس نتعلمها ونتذكرها معا من قصص الشهداء وأمهاتهم، فى يوم الشهيد، وبين الشعور بالفخر، واعتصار الألم، تروى لنا العميد متقاعد سلوى بديع قصة استشهاد ابنها الأكبر الرائد أحمد خالد. من هو الشهيد البطل الرائد أحمد خالد صلاح؟ هو ابن عمرى، من مواليد16 من سبتمبر عام 1991، تخرج في الكلية الحربية عام 2011، فشهد كل أحداث 25 يناير، ودافع عن مصر من أعدائها بالداخل فى أكثر من موقع، وتعرض إلى محاولات قنص أثناء خدمته فى أحد المواقع، ولكن الله سلم، باختصار من يوم تخرجه وهو يحارب، لكن ب(قلب ميت) كما يقولون، ويتمتع بشجاعة وصلابة، كنت أظن أن ابنى وحده الذى يتمتع بهذه السمات، لكن بعد تجسيد بطولة أحمد منسى فى مسلسل (الاختيار)، اكتشفت أنهم كلهم منسى، منذ تخرجهم، يحملون راية مصر مرفوعة، وقبل سقوطهم شهداء، يخطفها بطل جديد أسعد الأوقات هل هو ابنك الوحيد؟ هو ابنى الأكبر، وله شقيقه الأصغر محمد خالد، وهو ضابط مقاتل فى الجيش المصرى أيضا، التحق بالكلية الحربية حبا فى أخيه أحمد، وتعلم منه الكثير، وهو متزوج وله ولد عمره عام تقريبا. مِمّن تتكون أسرته الصغيرة؟ تزوج أحمد قبل استشهاده بثلاثة أعوام فقط، ولديه ابنة جميلة، وزوجته كانت حاملا عند استشهاده، ووضعت ابنه الذى أسميناه أحمد على اسم والده، كان أسعد أوقاته خلال إجازاته القصيرة يقضيه فى اللعب مع ابنته، ورحل قبل أن يرى ابنه النور. من كان وراء التحاق الشهيد أحمد بالكلية الحربية والده أم والدته؟ والده رئيس قطاع فى أحد البنوك، كان متأثرا بى فعلا، لأنهم تقريبا عاشوا الحياة العسكرية معى فى البيت، وكان مهتما بمتابعة أخبار شغلى، ويحب الصيد وله بندقية رش منذ صغره ويخرج مع والده إلى الصيد، كان يحب استخدام البندقية، تقريبا بعض تفاصيل العسكرية تربى عليها، فكنت رئيس هيئة تمريض مستشفى الأورام بالمجمع الطبى العسكرى فى المعادى، كنت فى هذه المستشفى بعيدة عن استقبال حالات المصابين فى الحرب ضد التكفيريين فى سيناء الجارية حتى الآن،لأننى لا أعرف كيف سيكون حالى إذا فوجئت بابنى بين المصابين أمامى؟ ربنا يحفظ كل أولادنا وأبطالنا ويقوى كل أم لها شهيد. قناص محترف من أخبرك بأنه فى سيناء؟ لم يخبرنى أحد، ولم أعرف، الشهيد أحمد ابنى كان خفيف الظل وكتوما، فى إجازاته يضحك معنا ويشعرنا بالدفء الأسرى، كما لو كان رب الأسرة، فلم يخبرنى بتنقلاته، أو أماكن عمله بالتحديد خوفا عليّ من القلق، وكان يرفض تدخلى فى عمله أو دعمه بأى شكل، ولكنى أعلم بحكم عملى فى صفوف الجيش المصرى أن الدفاع عن الوطن واجب مقدس لدى كل أبطالنا وشرف، وابنى لن يتخلى أو يتراجع عن واجبه فى أى مكان يكلف بتأمينه، لذا كنت مؤمنة بقضاء الله، ودائمة الدعاء له ولكل أبطالنا بالنصر على أعداء الوطن، خصوصا أنه شارك فى تأمين حدود مصر المختلفة، وليس سيناء فقط، لأنه كان ضابط مشاة وقناصا محترفا، كبد التكفيريين خسائر كثيرة على مدى سنوات عمله، حتى أطلق عليه زملاؤه وجنوده (صائد التكفيريين)، وحقق نجاحات فى الرماية عديدة، وكان يُنتَدب للتدريب على الرماية فى أكثر من مكان، والتحق بمجموعة مكافحة الإرهاب، واجتاز فِرَقا تدريبية بامتياز، وهو بنفسه الذى طلب التوجه إلى سيناء للدفاع عنها والتصدى إلى التكفيريين. صاحب صاحبه كيف استشهد البطل الرائد أحمد خالد؟ ابنى استشهد فى فبراير عام 2020، منذ عام تقريبا، كان قائد أحد الكمائن فى سيناء، تصدى إلى التكفيريين منذ استلامه المكان، وحقق فيهم خسائر كسرتهم، فقرروا أن يستعدوا بشكل ضخم ومفاجئ فى يوم ممطر، والشبورة تعوق الرؤية، وفى الصباح الباكر، وكان أحمد ابنى مستعدا للقتال 24 ساعة تحت كل الظروف فهم مدربون على ذلك، فتعامل معهم باحتراف وسرعة، وأسقط منهم الكثير فى هذه المعركة، حتى أدركوا أنه قائد قوى لن يتخلى عن المكان بسهولة، فأطلقوا قذيفة هاون، دمرت المبنى، واستشهد ضابط زميله بالكمين، ولكنه لم يصب، لأنه كان خارج المبنى يتعامل معهم بشكل مباشر، وطلب أحمد الإمداد، وبالفعل وصلوا إليه بعد تعاملهم أيضا فى طريقهم مع التكفيريين، إلا أنه فى اللحظة التى وصل إليه ضابط زميله من قوة الإمداد، كانت رصاصة قناص غادرة من تكفيرى قد أصابت ابنى فى رقبته فمات على الفور، وقبل سقوطة على ركبتيه، التقطه زميله، وأخذ السلاح ليكمل المعركة مع قوات الإمداد، ليسلم ابنى روحه إلى بارئه، ويسلم الراية إلى بطل آخر، هذا المشهد بتفاصيله لم أشهده طبعا، ولكنّ زملاءه الناجين والمصابين من الجنود أخبرونى به بعد إقامة العزاء لابنى، كانوا حريصين على تهدئتى والاطمئنان عليّ، أخبرونى بأشياء كنت لا أعلمها عن ابنى، كان كريما مع جنوده وصديقا وأخا لهم، يتمتع بروح اجتماعية جميلة مع زملائه الضباط والجنود، باللفظ كما قالوا لى كان (صاحب صاحبه). رأيته مبتسما وكيف استقبلت خبر استشهاده؟ فى اليوم الذى استشهد فيه أحمد، كان يستعد إلى أخذ إجازة بعد فترة طويلة، وكان بين الحين والآخر، يحاول التواصل معنا بحذر شديد، وبمكالمة مبهمة وقصيرة جدا ليطمئننا عليه، وكنت أُحضر الأكلات التى يحبها وأنتظر وصوله على أذان المغرب أو العشاء تقريبا، ولم أشعر بأى انقباض، لأنى كنت أدعو له طوال الوقت بالنصر والسلامة، لكن والده كان يبدو عليه القلق ولم يصرح لى، حتى تلقيت اتصالا تليفونيا فى هذا اليوم من إحدى قريباتى، تبلغنى خبر استشهاده، فلم أصدقها وصرخت فيها وأغلقت الخط، وعدت أُصلى وأدعو له بسلامة العودة، افتقدته حيث كنت لم أره منذ شهر تقريبا، وأنتظر وصوله لأراه وأحتضنه وأشم رائحته الذكية، التى أعيش بها مع أنفاسى حتى الآن، وهنا توقفت أم البطل العميد متقاعد سلوى طويلا عن الكلام، أكثر من المرات السابقة خلال حوارها معى، فَصَمتُّ أنا أيضا خوفا من شعورها باختناق صوتى فتنفجر فى البكاء، وبعد هذا الصمت المشترك، وجدتها تستأنف الحديث، وتقول بتكرار: هو عند الله هو فى مكان أحسن، وتكرر الحمد والشكر لله، لتصرف تسلل الشيطان إلى روحها وهى تتذكر لحظات فَقْد أعز الناس لديها. انهيار زوجى تستكمل أم البطل حديثها عن لحظة حفرها الزمن فى قلبها فنزفت دما، قائلة: عاودت قريبتى الاتصال مرة أخرى بنا تليفونيا، وهى تهدئنى وتؤكد أن ابنى استشهد، فصرخت بصوت عالٍ رافضة ما تقوله، حتى سمع زوجى المكالمة فجاء يجرى منهارا، ويقول (أيوة ابنى استشهد أنا شفت الرؤية دي، وأعلم أنه سيستشهد، وانهار باكيا)، وأنا مازلت صامدة واقفة متحجرة كالتمثال رافضة كل ما أسمعه تماما، عادت تتصل بى مرة أخرى وتخبرنى بأنها ستساعدنى على إدراك الأمر، وهى طبيبة مسئولة، واقترحت علينا أن ننزل لاستقباله لنتأكد أنه استشهد، وأنا مازلت رافضة الأمر، وأقول لهم أكيد أنه مصاب أو فى غيبوبة فقط، وبالفعل نزلت مع زوجى، ولما وصلنا لم أستطع النزول والوقوف على قدمىَّ، متسمرة فى مكانى ومرتعشة، أتحسس خطواتى وصوت دقات قلبى يحجب كل الأصوات من حولى، فأمسك زوجى بيدى لنتوجه إلى رؤية الجثمان، وما إن رُفِع جزء من علم مصر الملفوف به عن وجهه، حتى تحولت إلى إنسان آخر، هدوء وسكينة، أنزلهما الله على قلبى، بعدما رأيت وجهه مشرقا ومبتسما، كما لو كان نائما فى هدوء وسلام، فى هذه اللحظة فقط أدركت أن ابنى استشهد، عدت إلى سيارتنا، والدموع تسيل دون شعورى بها، وزوجى دموعه تحجب عنه رؤية الطريق، ولكنه تماسك حتى وصلنا إلى منزلنا وأُقيمت له جنازة من مسجد السيدة نفيسة حتى مثواه الأخير، أنا أعيش مع ابنى حتى الآن تفاصيل حياته كلها، قدر الله لنا شفاعة أفراد عائلتنا يوم القيامة ربنا يلحقنا بهم على خير، فعم ابنى مقدم طيار شهيد منذ سنوات طويلة، وبنت عم زوجى اللواء شرطة شهيدة أحداث الإرهاب على كنيسة الإسكندرية خلال تأمينها لها، الحمد لله على تكريمه لنا دنيا وآخرة.