فى الوقت الذى ينتظر العالم كله موكب مومياوات ملوك مصر المهيب يليق بهم، لا يعلم كثيرون أنه وراء ذلك مجموعة متميزة جدا من شباب المرممين المصريين فى متحف الحضارة، والذين تصدوا بقوة وشجاعة لعملية صيانة المومياوات وترميمها وإعدادها للنقل، ونجحوا فى ذلك لدرجة أبهرت الجميع، مما دعانا لزيارة متحف الحضارة ولقاء الدكتور مصطفى إسماعيل مصطفى مدير مخزن المومياوات ورئيس معمل صيانة المومياء بالمتحف القومى للحضارة المصرية، وتعرفنا معه على قصة نجاح تضاف إلى سجل المصريين الناجحين فى حقل الآثار. فى البداية قال الدكتور مصطفى إسماعيل أن فريق العمل الذى قام بتغليف وصيانة المومياوات من متحف الحضارة، وفى متحف التحرير غلفنا المومياوات ووضعناها فى الفتارين وكبسولات النيتروجين بعد عمل الترميم والصيانة اللازمة، واستعنا بالدكتورة سامية الميرغنى وهى من افضل الشخصيات فى مصر فى مجالها، ومتخصصة فى البقايا الآدمية وكانت مساندة لنا، والفريق يضم مصطفى إسماعيل والدكتورة إيمان إبراهيم وولاء صلاح والدكتورة سامية الميرغنى، أما الفريق الذى قام بالتغليف وعمل الكبسولة مصطفى إسماعيل وإيمان ابراهيم وولاء صلاح ومحمود عبدالله.
تقارير حالة
وتابع: الناس تعتقد أن هذا الحدث سهل رغم أنه أخذ وقتا طويلا من العمل، وفى البداية كان لا بد من عمل تقارير حالة عن كل مومياء، لمعرفة مناطق القوة والضعف فى كل منها وتحديد من أين سيتم حملها، ومعرفة شكل كل جسم مومياء لاصنع له السرير المناسب تحته ومعرفة طبيعة العظام والجسد، والبيئة المحيطة والرطوبة والحرارة ودرجة التكثيف، وكنا فى حاجة لمعرفة كل هذا لأن التقارير التى كانت متوفرة لدينا عن المومياوات ترجع لعام 1886 م، والتقارير الحديثة لا تتناول الأثر بشكل كاف ولا تجاوب على الأسئلة التى لدى عن المومياوات كى تتم عملية النقل بشكل ناجح ودقيق، فالنقل يحتاج لمعرفة حالة كل جسم ومواطن الضعف والقوة والبيئة المحيطة وبيئة الأثر والموازنة بينهما، بحيث لا تحدث أى صدمة لجسد المومياء عند إخراجها من فاترينة عرضها.
مومياء مفككة
وهناك مومياء رمسيس السادس ريزنر نفسه برأ للمصريين من حالتها وقال إنه ساعة اكتشافها وعندما فك لفائفها هو وماسبيرو وجدا الفك عند الكاحل، أى أن المومياء كانت مفككة منذ القدم وهى 187 قطعة وكانت فى المخزن، كذلك مومياء أمنحتب الثانى أكثر من 170 قطعة،وبعض المومياوات المعروضة بها أجزاء منفصلة لكنها ليست ظاهرة للعين لأن المومياء ملفوفة، لكننى لا بد أن أضع هذا فى الإعتبار، وبعد السنة و8 شهور وضعنا خطة العمل وأخذنا آراء بعض خاصة فى المواد التى سنستخدمها، وأن تكون خالية من الحموضة تماما وهى المواد التى ستتلامس مع الأثر سواء فى الترميم أو التغليف، وتمت عمليات الصيانة والترميم لكل مومياء حسب حالتها.
مدرسة مصرية
وأكد أن كل الترميم الذى تم كان على أسس وقواعد المدرسة المصرية فى الترميم امتداداً لطريقة المصرى القديم، بأقل تدخل يعطى افضل نتائج لا تؤثر على المومياء أثناء النقل،ولتجميع الأجزاء بشكل آمن. المواد المستخدمة لا بد أن تكون استرجاعية بحيث تكون سهلة استرجاعها بعد فترة دون أى تأثير سلبى على الأثر، كما أن رفع الأثر له مواد معينة تستخدم فى ذلك وتكون وآمنة، والكبسولات كذلك والسرير الذى يتم وضع المومياء عليه ليمتص الاهتزازات، وهذا السرير له مواصفات وخصائص معينة ومواد يصنع منها، والصيانة لها مواد معينة، والنيتروجين المستخدم له خصائص ولم نستخدم النيتروجين العادي، بل أحضرنا جهازاً خاصا بالمواصفات التى أردناها وتتناسب مع حالة الأثر الذى لدينا، وهذا الجهاز تم تصنيعه خصيصا لنا بإمكانياتنا طبقا للدراسة التى قمنا بها، وكنا نسهر حتى الرابعة فجرا لنقوم بهذه الدراسة على أكمل وجه، وربنا أكرمنى وعملت تصميم الكبسولة نفسها وهى من جزئين الأول السرير الداخلى والثانى الجزء الخارجى بمثابة غلاف، وصندوق يتم فكه وتجميعه وتقفيله بحيث لا يضر ذلك بالكبسولة أو يؤدى إلى انفجارها.
دعم قوى
وقال: وزير السياحة والآثار يدعمنا بقوة فى كل ما نطلبه، والقيادة السياسية لولا دعمها وتقديرها للمتحف ضمن اهتمامها بالآثار لما نجح المشروع، من جانبنا أعددنا التقارير والدراسات اللازمة ولولا الإرادة السياسية لكان هذا كله مجرد ورق ولم يتحول إلى واقع، ومديرى المتحف بداية من المهندس محروس سعيد المدير العام الأسبق وحتى الدكتور أحمد غنيم الحالى، جميعهم وثقوا فينا وكانت هذه الثقة دعما كبيراً لنا، وقمنا بتهيئة درجات الحرارة لتتناسب فيما داخل فاترينة عرض المومياوات بالمتحف المصرى بالتحرير وما هو خارجها، بحيث عندما أخرجها لا تحدث لها صدمة ولو لم أضبط البيئة المناسبة لها لحدث لها تحل، وهنا كنا فى حاجة لفريق قوى من المتخصصين فى الميكروبيولوجى والحشري، وعلى رأس هذا الفريق كانت الدكتورة سامية الميرغنى ود.داليا المليجى، وكانوا يقومون بالتعقيم للمومياوات نفسها والا حدث لها تحلل أثناء العمل والتعقيم تم بمواد طبيعية كان المصرى القديم يستخدمها، وفريق للفحص بالأشعة لمعرفة حال العظام ومناطق الضعف والقوة، برئاسة د.زاهى حواس ود.سحر سليم رئيس قسم الأشعة فى طب القصر العينى ود.طارق عبد الأعلى وهو من المتخصصين المتمكنين فى مجاله، وفى آخر 2018 بدأ التعقيم وقام به مركز بحوث وصيانة الآثار برئاسة الدكتورة داليا المليجى، ثم بدأ فريق متحف الحضارة فى العمل بحالة كل مومياء على حدة.
معجزة مصرية
وما فعله فريق متحف الحضارة معجزة حرفيًا، وحاليا المومياوات داخل الكبسولات فى أمان، حيث استقدمنا جهازاً هو الاحدث فى العالم يعطينا نيتروجين آمن يحفظ المومياء فى كبسولتها لمدة خمس سنوات كاملة واستخدمنا أعلى تكنولوجيا فى العالم، ونسب ترطيب النيتروجين متوافقة مع محتوى كل مومياء وغير متصل تمامًا بالبيئة الخارجية مما سيحافظ على المومياء بشكل تام، وبلاستك الكبسولة 3 أضعاف الحماية المعتادة ويفصل تمامًا ما بين المومياء والبيئة الخارجية، وغلق الكبسولة بإحكام أكثر 15 مرة من العادى مما يعطى حماية مضاعفة، وهذا الإتقان فى العمل أعطى الارتياحية للقيادة السياسية أن تختار الموعد المناسب لنقل المومياوات الملكية، والذى سيكون له اعتبارات كثيرة منها عوامل الجو والظروف العالمية، ولن ينطلق الموكب إلا مع الظروف الملائمة التى تدرسها القيادة السياسية بمنتهى الدقة.
آخر الرحلة
وفريق ترميم وصيانة المومياوات قام بدراسة نقاط رفع كل مومياء بدقة، وسنستخدم نسيج قوى لا يضر المومياء بأى نسبة، وكل مومياء على السرير داخل الكبسولة تخرج من قاعة 55 بالمتحف المصرى بالتحرير حتى الباب الرئيسي، وسيتم تجهيز المدخل بمنصة توازى ارتفاع عربات النقل، والكبسولة داخل صندوق مجهز وعلى العربة سيكون الاثنان داخل صندوق مجهز بطريقة حصلنا منها على صفر صدمات، والفريق سيشرف على وضع المومياوات على العربات ويصاحبها طوال الطريق إلى المتحف القومى للحضارة المصرية، حيث ستوضع أولًا فى الحضانات ليتم تجهيز كل مومياء، وطبقًا للخطة، أول مرحلة فتح الكبسولة لإخراج المومياء، وسيتم تجهيز البيئة المحيطة لتناسب المومياء حتى لا يحدث للجسد صدمة، وتم عمل صيانة وقائية فى المتحف المصرى، وسيتم عمل صيانة دائمة فى الحضارة، وستستغرق من 10 إلى 15 يوما قبل أن توضع فى قاعة العرض النهائية.
نشأت وشوكت شريكان صامتان فى النجاح
أثناء حوارنا مع الدكتور مصطفى إسماعيل سألناه عن نشأت وشوكت الذى ذكرهما فى حديثه وكنا نعتقد أنهما من أعضاء الفريق، لكنه قال ضاحكاً:هما مجسم لهيكلين عظميين وقمنا بعمل كافة التجارب عليهما خاصة النقل وتحديد مواضع القوة والضعف، وساعدتنا تلك التجارب فى تحديد كافة النسب المناسبة ضمن خطة النقل، ونعتبرهما من أعضاء فريق العمل بالفعل.
عام ونصف العام
فى هذه الفترة كنت أنا وولاء وإيمان فقط واستغرق العمل فى الفحص وإعداد تقارير الحالة سنة و8 شهور، منها سنة كنت بمفردى، وهذه المدة بدأت اول عام 2017، وخلالها كنا فقط نجرى دراسة على ال 22 مومياء لإعداد تقارير الحالة فقط والتى بناء عليها تم إعداد خطة الترميم والنقل، واستعنت بإيمان وولاء لأنهما قويتان فى تخصصهما وهو ما كانت تتطلبه المعلومات التى نسعى لها لتكون بمنتهى الدقة، والمومياوات منها 18كانت معروضة و4 مومياوات فى المخازن ستعرض لأول مرة، وتقارير الحالة كنا نعدها لكل المومياوات سواء المعروضة أو المخزنة وهى مسألة صعبة جدا، خاصة أنه فى 1881 اكتشفوا خبيئة المومياوات وبعضها كانت منزوعا منها الأجزاء الذهبية ومقطوعا معها أجزاء من الجسم.
المخاطر صفر
ولأول مرة فى التاريخ يقوم مرمم آثار مصرى بترميم مومياء ويقوم بالعمل كله فريق مصرى كامل ولأول مرة يتم نقل مومياء فى كبسولة وحاول البعض من قبل لكنها لم تنجح، وقد حافظنا على الطبقات تحت جلد المومياوات وأعدنا مقاومة كل جسم لما كانت عليه، وقمنا بعمل الصناديق لتلائم جسد كل مومياء والا كان يحدث ضعف وانفصال فى بعض الأجزاء، والحمد لله نسبة المخاطر والخسائر أثناء النقل والتحرك وآية طوارئ صفر فى المية، وذلك بناء على دراسات الحالة التى قمنا بها فى السابق لكل مومياء، حيث كان السرير قابلا لامتصاص الصدمات الأفقية والرأسية، كذلك التثبيت بأحزمة مناسبة تماماً تمنع أى اهتزاز للمومياء والسرير الموضوعة عليه، وهذا السرير داخله صندوق مبطن ومدعم داخلياً ضد أى حركة أو اهتزاز، وكل سيارة بها وحدة اتزان تمنع الحركة الأفقية والرأسية مع التدعيم، وكل هذا أوصل لنسبة امان 300٪، وتعاملنا فى الخطة منذ البداية مع أسوأ الاحتمالات، ومنها نقل المومياوات على العجلات الحربية وهنا سيكون أعلى معدل صدمات،لذلك كانت الخطة تضمن نسبة أمان 300٪، وكان يهمنا المحافظة على أجدادنا وأثر لا يتكرر، كما أننا أمام ملوك عظام حكموا مصر وحققوا لها سيادة وصنعوا حضارة وتاريخ، مما جعلنا نضع فى الحسبان أن تكون نسبة المخاطر صفر. 3078 3079