كأنَّما أصابته أسطورة «لعنة الفراعنة»، وهي هذه المرة غير ما يشاع من أوبئة وأمراض، وإنما محبةٌ وافتتان وانجذاب إلى ذلك العالم الذي مضت عليه آلاف السنوات، لكنه يظل حاضراً. تلمس أنامل الشاب المصري، مصطفى إسماعيل أجساد ملوك الفراعنة، يتعامل معها بلطفٍ بالغ، فهم أجداده، وأصحاب تراث حضاري هو الأقدم، ما يزال يتكشَّف شيئاً فشيئا. ولأنه مسؤول عن صيانة وتغليف المومياوات الملكية التي ستنقل إلى المتحف القومي للحضارة، فقد عايشها لأكثر من 1000 يوم هي الأهم في حياته، وما بين «الغرفة 55» بالمتحف المصري، المعدة لعمليات الترميم، وغرفة التخزين بالمتحف القومي للحضارة، الكثير من التفاصيل التي ستظل عالقة في ذهنه. فيما ينتظر كثيرون حول العالم، وقائع نقل 22 مومياء ملكية، من المتحف المصري بالقاهرة، إلى المتحف القومي للحضارة المصرية بمنطقة الفسطاط، يقبع الشاب مصطفى في غرفة التخزين بالمتحف الأخير لتجهيزها لاستقبال ملوك وملكات حكموا مصر في الزمن القديم. هذا الاتصال بين الماضي والحاضر، كان الشاب جزءا أساسيا منه. كُلف بوضع خطة ودراسة لنقل المومياوات، انتهاء بصيانتها وتغليفها، وتحميله مسؤولية هذين الأمرين. بدءاً من «رمسيس السادس» انتهاءً ب«رمسيس الثاني» امتدت يد مصطفى، مدير مخزن المومياوات ورئيس معمل صيانة المومياوات بالمتحف القومي للحضارة المصرية، إلى أجساد ملوك الفراعنة. كان للأمر مهابته، وللأجساد المطروحة أمامه جلالها، يعرف أنه في حضرة الملوك، يلقي عليهم السلام، يفحصهم بعناية، يقع أسيرا في حبهم، ويصبحون شغله الشاغل على مدار أيام طوال، منذ بداية عام 2017، حين تم تكليفه بمعاينة 22 مومياء في المتحف المصري بالقاهرة، ودراسة حالتها، تمهيداً لنقلهم بعد ذلك: «ودي كانت أصعب فترة علي، فضلت سنة و8 شهور بدرس المومياوات عن قرب، بعرف نقاط الضعف والقوة، واكتشفت 9 حاجات لأول مرة هيتم الإعلان عنها قريب». هذه الدراسة كان من شأنها تسهيل عمل الشاب، الذي حصل على درجة الماجستير، وهو الآن على أعتاب حصوله على درجة الدكتوراة، عن بحث يتعلق بصيانة المومياوات. ساعده على الدراسة فترة فحصه للمومياوات. وخلال العشرين شهرا التي أخذها في عملية البحث والتعرف على تفاصيل كل مومياء، كان يدون مئات الملاحظات، ويخضع كل ما يدرسه لعشرات التجارب سواء في المتحف، أو داخل منزله بمعاونة من زوجته أزهار محمد، أخصائي الترميم. كان يومه يبدأ من المتحف في ال9 صباحا وحتى ال10 مساء، ثم يقضي بقية يومه في المنزل إما للتجارب أو للدراسة على نماذج تحاكي المومياوات الملكية: «وعندي 3 أطفال كانوا عارفين قد إيه أنا مشغول، وزوجتي كانت بتفهمهم طبيعة اللي كنت بعمله ده». اكتشافات جديدة وتفاصيل مبهرة، تعرف عليها الشاب خلال فترة الدراسة تلك، وكانت الفترة مهمة، لوضع كثير من الخطط، لعملية الصيانة والنقل، دون حدوث أي مشكلات: «وكان في كسور وقع فيها المصري القديم، وكان بيعالجها بدعامات ومواد طبيعية، وشفت ده في رأس كانت مفصولة تماما عن المومياء». بعد عام من دراسة حالة المومياوات وحده، انضمت له الدكتورة ولاء صلاح والدكتورة إيمان إبراهيم، ليساعداه في مهمته التي يعتبرها الأصعب في كل المراحل، فمن شأنها أن تسهل له عمله بعد ذلك أو تجعلها أكثر صعوبة، ما لم تكن الدراسة قوية: «وعشان كده مرحلة الصيانة والترميم كانت أسهل بالنسبة لي، لإني خلاص عرفت كل تفصيلة متعلقة بالمومياء اللي هتكون قدامي». عشرات التجارب قام بها الشاب رفقة معاونيه، لنقل المومياوات، التي كان التعامل معها في غاية الحذر، فبمجرد خروجها من البيئة المحيطة بها في الفتارين، تصبح معرضة للعوامل الخارجية، والتي من شأنها أن تصيبها بالعفونة أو التلف: «عشان كده عملية الدراسة حصلت وهي في الفتارين، بنوقف السيستم ونرفع الفاترينة، وكان بيبقى في حساسية كبيرة جدا ساعة الشغل عليها». تم إخضاع المومياوات بعد ذلك إلى صيانة وقائية، بمواد طبيعية لزجة، من شأنها أن تحافظ على المومياء لفترة تتراوح بين ال6 وال8 شهور، وكان ذلك بمعرفة عدد من العلماء المتخصصين في ذلك المجال: «دي زي مقاومة ليها، وخلال فترة محددة مفروض بقى إني أغلف المومياء عشان ميحصلش ليها أي مشكلة». في هذه المرحلة، وجد مصطفى نفسه أمام علوم نظرية سبق له أن تعلمها، وخبرة اكتسبها منذ التحاقه بالمتحف القومي للحضارة في 2011، وترميمه لعدد من المومياوات، لكن هذه المرة ستكون الأولى لمومياوات ملكية، تخضع لصيانة من شاب مصري، وهو ما أضاف على الشاب عبئا أكبر: «الموقف كله تاريخي، وحاجات بتحصل لأول مرة، في خبراء أجانب وأصدقاء قالولي اعتذر عن المهمة، بس أنا قلت هكمل» يحكي ذو ال35 عاما، والذي تم تسخير غرفة بالمتحف المصري له ولأعماله، يطلق عليها «غرفة 55» والتي جرى فيها كل أعمال الصيانة: «وأنا من ساعة ما دخلت الجامعة، كلية الآثار قسم الترميم، وإيدي في كل أنواع الترميم، خشب وفخار وخزف ومومياوات، وكان بيتم الإشادة بي دايما، ومع الدراسة أكتر والتجارب والبعثات اللي اشتغلت معاها، بقى الموضوع بالنسبة لي أسهل». لكن هذه السهولة التي عبر عنها الشاب كانت ثقيلة هذه المرة، وهو يقف أمام ملوك الفراعنة. في طفولته كان مصطفى يهوى قراءة التاريخ، ومعرفة حكايات الفراعنة، والأغاز المتعلقة بهم، والكواليس المتعلقة بفنونهم، حتى أتت له الفرصة للتعرف على عالمهم أقرب شيئا فشيئا، إلى أن قام بصيانة وترميم أجساد ملوكهم، وهم «رمسيس الثاني، رمسيس الثالث، رمسيس الرابع، رمسيس الخامس، رمسيس السادس، رمسيس التاسع، تحتمس الثاني، تحتمس الأول، تحتمس الثالث، تحتمس الرابع، سقنن رع، حتشبسوت، أمنحتب الأول، أمنحتب الثاني، أمنحتب الثالث، أحمس نفرتاري، ميريت آمون، سبتاح، مرنبتاح، الملكة تي، سيتي الأول وسيتي الثاني». وفقا لمصطفى فإن أصعب مومياء عمل على صيانتها، كانت رمسيس السادس، المنفصلة إلى عشرات القطع، وكان عليه تجميعها بشكل متقن، حتى تعرض المومياء كاملة، وكانت هي المومياء الأولى التي عمل عليها، وكانت آخر مومياء قدم لها الصيانة والترميم، مومياء الملك رمسيس الثاني، أحد أشهر ملوك الفراعنة في التاريخ المصري القديم، لكن المومياء التي نالت إعجابه تاريخيا كانت لرميسس الثالث: «إنت بتتعامل مع ملوك ليها احترامها وتاريخها، وعارف إن ده اللي عمل المعابد الفلانية، وده اللي خاض الحروب دي، ودي حتشبسوت بعظمتها، كنت بقولهم قبل ما أبدأ شغل صباح الخير، من كتر ما حاسس إني امتداد ليهم». ومع مرحلة الصيانة والترميم كانت المجموعة تزداد عددا، لتصل إلى أكثر من 20 شخصا. تعد هذه المرة الأولى لفريق مصري كامل، صيانة مومياوات ملكية، وبحسب الشاب فإن ذلك أحد دواعي الفخر، ويتسق الأمر مع منطقه: «لما بيكون في ميت أهله هم اللي بيدفنوه، طب دول أجدادي، أنا اللي أولى إني أعملهم عملية الصيانة والنقل». وخلال فترة الصيانة، كان الشاب يقضي أكثر اوقاته في المتحف المصري، يصفه أصدقاؤه بالمجنون، لتعلقه بالمومياوات، ولحديثه أكثر أوقاته عنها، ولاكتشافه أمورا مدهشة لم تكن معلنة من قبل، مثل عمليات ذبح رأى آثارها، لم تكن معروفة: «تفاصيل عجيبة جدا، هنعلن عنها بعد نقل الملوك، ولأول مرة في مومياوات هتتعرض كاملة، ولأول مرة النقل هيكون داخل نيتروجين، ولأول مرة برضه كل ده بأيادي مصرية». كانت عملية الترميم والصيانة تقع داخل الغرفة 55 بالمتحف المصري، ويتم التعامل مع المومياوات واحدة تلو أخرى، وحين يتم الانتهاء من واحدة، توضع في مكان مخصص لها بأحد جوانب الغرفة، حتى كانت مومياء الملك رمسيس الثاني، وكانت آخر ما قام الشاب بصيانته وترميمه: «كل مومياء ليها ظروف خاصة بيها، محتوى مائي مختلف، كسور مختلفة، محتاجة رطوبة معينة، ودرجة حرارة محددة، وحتى السرير اللي هتتحط عليه بنعمله بمقاس خاص بيها». داخل المتحف القومي للحضارة كان الشاب يجهز الصناديق الخشبية التي صممها بنفسه، ويجهز الأسرة الخاصة بكل مومياء بحسب حجمها، والقواعد التي ستسقر عليها الأسرة: «الصندوق عامل زي البازل كده 4 قطع بيتعشقوا في بعض، موجودة على وحدة متحركة، وقاعدتين واحدة داخلية وواحدة خارجية، وعملنا اختبارات عشان نضمن إنه صفر صدمات أو اهتزازات». بعد عملية الترميم والصيانة، بمواد طبيعية، استعان الشاب بها من دراسته لتاريخ الفراعنة وأدواتهم، ثم أضاف لها موادا أخرى، وتصوير كل تلك المراحل في توثيق يخدم العلم والدراسات الأكاديمية بعد ذلك، كان عليه أن يحفظ تلك المومياوات في بيئة لا تتأثر بظروفها، فكان الحل في كبسولة يتم وضع المومياء داخلها، ويتم حقنها بالنيتروجين، ولكل مومياء حالة خاصة بها، ثم تغلق بشكل محكم، وهذه البيئة بحسب الشاب تضمن للمومياء أن تظل على حالتها دون أي تأثر لمدة 5 سنوات، وهي فترة طويلة، بمواد خالية الحموضة، والمجال الكهربي بها صفر، كي لا تتأثر بأي شكل. حتى يتم عرضها داخل المتحف الذي ستستقر به أخيرا، بعد رحلة طويلة من نقلها لأكثر من مكان، منذ اكتشاف الخبيئة الأولى التي ضمت أكثر المومياوات عام 1981 بالأقصر. بوضع كل مومياء في كبسولة وإغلاقها، يقوم الشاب ب«ترصيص» كل مومياء، وهي عملية إغلاق الصندوق الذي يحتويها بالسرير الموضوعة عليه، وضمان عدم فتحها مرة أخرى، حتى نقلها ووصولها لمستقرها الجديد وعرضها بعد ذلك، وفي تلك المرحلة ينتهي عمله في المتحف المصري، ثم يبدأ في رحلة أخرى داخل المتحف القومي للحضارة، لتجهيز الحضانات أو غرف التخزين لاستقبال ملوك الفراعنة الذين سيصلون في موكب تستعد الدولة له، ليكون حدثا تاريخيا، حين يخرجون على عربات حربية تشبه تلك التي استعان بها المصري القديم، وبرفقة حراسة مشددة وتأمين واسع، ثم يمرون بميدان التحرير الذي تم تجهيزه ليكون متحفا مفتوحا، بما يضم من مسلة للملك رمسيس الثاني، و4 كباش فرعونية ضخمة، تم نقلها من معبد الكرنك بمحافظة الأقصر، وسيجوب الموكب شوارع القاهرة، حتى الوصول إلى المستقر الأخير بمنطقة الفسطاط: «ودلوقتي بنجهز غرفة التخزين لتكون الأولى في الشرق الأوسط المجهزة بالنيتروجين، وبعد كده هيتم عرض المومياوات في فتارين العرض». وضع حجر الأساس للمتحف القومي للحضارة المصرية، عام 2002، وتم افتتاحه جزئيا في عام 2017، ومن المفترض أن يكون مخصصا لآلاف القطع الأثرية التي توضح مراحل تطور الحضارة منذ العصر القديم وحتى الحديث، كما سيضم أبنية خدمية، وتجارية، وترفيهية، ومركزا بحثيا لعلوم المواد القديمة والترميم، ومقرا لاستضافة فعاليات كالمؤتمرات والمحاضرات والأنشطة الثقافية، بحسب موقع وزارة الآثار المصرية. ووفقا لمصطفى فإن الحضانة أو غرفة التخزين تتسع ل36 مومياء، لوجود مومياوات من البلاط الحاكم ستكون بها. ينتظر مصطفى يوم نقل المومياوات، الذي لم يعلن عنه بعد، سيكون المشهد للكثيرين حول العالم مبهرا، لكنه بالنسبة للشاب أكثر حميمية، كان جزءا مهما من ذلك الحدث، سيرويه فيما بعد لأبنائه ومن ثم أحفاده بعد ذلك. فترة يعتبرها الأهم في حياته: «أنا اشتغلت على مومياوات قبل كده، لكن دي مومياوات ملوك، هم أجدادي وأنا امتداد ليهم، وعلى قد ما الموضوع كان مقلق ومخيف، لكنه بيدعو للفخر».