يميل بعض المحللين التقليديين، الذين اعتادوا تشخيص الأزمات وتفسير التصرفات وفق طريق أو اثنين علي الأكثر، ولا يتسع خيالهم ولا تدريبهم لاستيعاب غيرها، لاختزال كل مشكلات الثورة الآن، أو كتلتها المدنية الثائرة والناشطة، في سببين: التعالي علي الشعب، والكلمة التي يحترق بها كل ثوب: «النخبوية». التفسير بعد اعتماد سبب منهما يصبح سهلا. إذ ينطلق المحلل الجهبذ، الذي لم يبرح مكانه المفضل قبل وبعد الثورة متدفئا بحرارة منبعثة من كنف النظام البوليسي، ينطلق في سرد كيف لا يفهم هؤلاء الثوار أن التغيير عملية طويلة- طول الأبد في وجهة نظره- وأن النزول للشارع (الكلمة السحرية) واجب حتي لا نترك شعبنا يفترس، وأن «النخبوية» التي نتكلم بها والتعالي الذي يقطر من خطابنا يجعل الناس تكرهنا، بل وتنفر من الثورة، علي عكس التيار الإسلامي، الذي كلامه حلو وبسيط، يصل لقلوب «البسطاء» ويؤثر فيهم ويغرقهم بالخدمات الحقيقية التي تمس حياتهم اليومية. تنتهي المقالات الناصحة المحللة المفسرة عند هذه النقطة. ويرتاح ضمير الكاتب الذي استعاد ما عنده آلاف المرات منذ عهد المخلوع إلي اليوم، ولم يجبنا بعد علي السؤال: كيف قامت الثورة؟ ومن قام بها؟ أليست الثورة في حد ذاتها رفضا لتلك الثنائيات المستهلكة حول نخبة «معزولة» وشعب «بسيط»؟ أليس أكثر ما يزعج هؤلاء في كل جحور السلطة، والمعتادين علي كسب الود بالكلام الحلو والرشوة بالخدمات الصغيرة، هو خروج تلك النخبة وسط شعبها خروجا كبيرا يبغي تغييرا حقيقيا؟ أليست كل محاولات التهام الثورة وتشويه نخبها بدليل كاف علي لهفة لعودة الجدار بين نخب بعينها والناس؟ لماذا لم تجب أيها المرتاح في مقعد رئيس مركز كذا، أو رئيس قسم كذا، أو صاحب العمود كذا، عن سؤال الساعة: لماذا يراد للناس أن تكره النخب وقيادات العمل الميداني الثوري إلي هذه الدرجة؟ يبدو أن ثمة تغييراً مخيفا قد كمن خلف هذه الثورة. إذ صار الوعي الشعبي يستوعب بأكثر كثيرا عديداً من المتغيرات علي التوازي ويربط بينها، السرعة الفائقة التي تطورت بها ثورة كامنة من 2005 ل 2011 وراءها بالطبع نخب وثوار وإعلام وإنترنت وعمل منظم وللعجب نزول للشارع. لا يستطيع صاحبنا أن يفهم أن هذه الصلة التي يظنها دائما منبتة بين شعب ونخب يحدث لها إعادة تعريف، وتذويب للحدود الحديدية التي بناها نظام عسكري ديكتاتوري علي مدي ستين عاما. وربما يثير خوفه الشديد هذا التعريف الجديد الذي يجعل «النخبوي» العاجز عن أن يكون «عضوي»- تماما كحال سيادته- ملفوظا وبلا دور، إلا لدي الأجهزة التي تستنير برأيه، الذي لم يعد يغني شيئا ولا يحمي نظاما. المعادلة انقلبت، فالشعب صار أكثر طلبا علي تبديل النخب وإحلال الأحق مكان من لا يستحق. ولكن هذا لا يعني أنه استغني عن النخب، بالعكس، هو يريد نخباً ناشطة حقيقية ديمقراطية، وهذه اللحمة بين نخب عضوية وناسها كانت هي تحديدا الشمس البازغة من التحرير إلي عموم مصر، والتي يسعي الجميع للتعتيم عليها ومنع أشعتها من الوصول للناس. يا سيدي الذي تمضغ خطابا لماذا فشلت ثورة عرابي، ولماذا لم تحقق ثورة 1919 أهدافها، لعلك يجب أن تنظر لنتيجة الحائط، وتفتح التليفزيون والكومبيوتر قليلا، ثم تتمختر في شوارع بها وقفات تطالب بحقوق هضمت منذ زمن، ثم تقرأ جيدا شعارات يرفعها من تسميهم «بسطاء» يعرفون جيدا ماذا يريدون، لأن وسطهم «نخب» لا ترتاح في موقع «القائد» ولكن في موقع «المنسق».