كتب: محيي الدين الصالح لعل مما تخطاه الزمن سرد ما حدث للنوبيين من مآس عند إنشاء خزان أسوان سنة 1902، وعند بناء السد العالي سنة 1963، وبين هذا وذاك أكثر من تعلية لخزان أسوان نتج عنها أكثر من مأساة للنوبيين تبعتها تضحيات غير مقدرة لا حصر لها، قدمها هذا المجتمع الوديع في صمت مريب، وكلها أحداث ستظل جروحاً غائرة في ذاكرة التاريخ. ولقد حرصت علي ألا أقتحم مجالات الحديث عن التضحيات النوبية من قبل، مكتفياً بما يقوم به كثير من قيادات النوبة ومثقفيها بمختلف توجهاتهم، علي اعتبار أن الأمر يوازي فروض الكفاية التي إذا قام بها البعض سقط عن الآخرين، كما أنني وجدت أن هؤلاء الناشطين في المسائل النوبية أقدر مني وأكثر دراية بأساليب مخاطبة الرأي العام والتفاعل معه بالشكل المناسب. ولقد راقبت عن كثب كل الأفعال ودورها وأساليب الطرح المتنوعة للقضية أو المشكلة أو المسألة النوبية «أيا كان المصطلح الأنسب» ولم أكن سلبياً في موقفي هذا، فقد كنت أصول وأجول في ميدان آخر يتعلق بالنوبة أيضاً منذ عام 1977م وإلي الآن بدون توقف وذلك من خلال الأدب والثقافة، حيث إن الساحة الأدبية هي الميدان الدائم لعرض الأمور وتوثيقها وحفظها للأجيال القادمة، علي عكس الصحافة التي تعد ميداناً مؤقتاً لها رغم أهميتها في هذا المجال، وكذلك الحال بالنسبة للتليفزيون وأجهزة الإعلام المختلفة التي تخاطب الرأي العام مرحلياً. إذن هي عملية تقسيم أدوار بين الجميع، كل فرد فيما يجيده وكل ميسر لما خلق له، فرؤساء الأندية والجمعيات والروابط النوبية يتصدرون للجوانب الاجتماعية، والمحامون النوبيون يتحركون في المجالات القانونية، ورجال الأعمال النوبيون للجوانب التنموية، والعمد والمشايخ والقيادات المختلفة في قري النوبة الجوانب كلها مجتمعة لأنهم في الشأن النوبي رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، وكل منهم يبذل جهده في مجاله واضعاً آمال النوبيين نصب عينيه، وهكذا ينبغي أن يكون، وما كان النوبيون لينفروا كافة في سبيل الحصول علي حقوقهم المهضومة منذ عشرات السنين اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وتاريخياً وأخيراً جغرافياً، وعند هذه النقطة الأخيرة «الحقوق المهضومة» أتوقف وأستوقفكم لإعادة مداولة الأمور إلي سيرتها الأولي، ولا أبدأ من حيث انتهي الآخرون كما هو المتعارف عليه عند طرح الأمور ذات الصلة ولكني سأسلك بكم درباً آخر وأعود القهقري لأبدأ مرة أخري من نقطة الصفر وربما قبل ذلك بكثير. فالحلقة المفرغة التي يدور فيها النوبيون طوال 110 سنوات ليست هي بيت القصيد ولا مربط الفرس في الهم النوبي، ولكن المسألة أبعد من ذلك، فمنذ دخول الإسلام إلي النوبة، سواء كان ذلك من خلال الهجرة الأولي التي أتي فيها أحد عشر صحابياً بعد خمس سنوات من بعث المصطفي صلي الله عليه وسلم والتي تلتها هجرة 72 صحابياً إلي المنطقة ذاتها حسب أرجح الأقوال، أم بعد ذلك، فإن علامات الاستفهام التي تحيط بهذه الأمور كثيرة وعميقة ومحيرة، وتنتج عنها علامات تعجب يتوقف عندها المتابع للشئون النوبية طويلاً. أولي علامات الاستفهام والتعجب نضعها حول بداية انتشار الإسلام في النوبة التي يحيط بها الغموض، فالمؤرخون الذين سجلوا كل صغيرة وكبيرة عن المد الإسلامي إلي بلاد العالم شرقه وغربه وأغفلوا التأريخ للنوبة في ذلك العصر، وتناولوا اتفاقيات ملوك النوبة مع العرب الفاتحين فيما أطلق عليه «اتفاقية البقط» وتناولوها بسطحية مخلة، وهذه الاتفاقية التي عقدت بين العرب والنوبة من أين جاءت باسم «البقط»؟، والمعروف أن الاتفاقيات تعنون بلغة أحد الطرفين المتعاقدين، فهل كلمة بقط عربية أم نوبية؟، وحسب بنود الاتفاقية كان يجب علي ملك النوبة تنظيف مسجد دنقلة والعناية به واسراجه، معني ذلك أن هناك مسجداً قبل وصول الجيش الإسلامي وبالتالي وجود آلاف المسلمين، فلماذا جاءت الجيوش؟، كما تم الاتفاق علي أن يسلم النوبيون سنوياً عدداً من العبيد! فهل جاء الإسلام ليحرر العبيد أم لاستعباد الناس؟! وربما أرخ الأقدمون لذلك بشكل لائق مناسب وتجاهلها المحدثون، إلا أن النتيجة واحدة تتمثل في عدم معرفة المهتمين بتفاصيل موثقة لتلك الأحداث. والعلامات ذاتها توضع عند الحديث عن المؤرخين الذين سجلوا الحضارة الفرعونية وكل الحضارات التي قامت في وادي النيل أو وفدت إليه من مناطق أخري في حوار الحضارات التي أفادت من الحضارة النوبية وتأثرت بها في مواضع كثيرة، وهناك بعض المصادر التاريخية التي تتحدث عن «اللغة المصرية القديمة» وتورد بعض المفردات لها وهي ذات المفردات المتداولة إلي الآن في اللغة النوبية، فهل اللغة النوبية هي التي تم الاصطلاح علي تسميتها بالمصرية القديمة؟ وإلا فما هي هذه اللغة؟ كذلك لم تتناول كتب التاريخ حروب الإبادة التي تعرض لها النوبيون في فترات متتالية علي أيدي سليم الأول أو الأيوبيين أو المماليك، والأدهي والأمر من كل ذلك تجاهل كتب التاريخ التي تدرس في مراحل التعليم المختلفة دور النوبيين عبر العصور المتلاحقة، لا في السراء ولا في الضراء، وكأنهم كانوا في هامش الحياة، أو راحوا علي الأرض وجاءوا كما دب عليها النمل حيناً وغاب، كما قال عمر الخيام. ولذلك فإن تجاهل الحكومات المتعاقبة منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتي يومنا هذا للنوبة وللنوبيين ليس سلوكاً عارضاً أو مستحدثاً، ولكنه امتداد لما بذره الأقدمون وسار عليه اللاحقون حذو النعل بالنعل، فقد ضاعت تضحيات النوبيين قديماً وحديثاً وتبخرت في تيه التجاهل، وذهبت تصفر أدراج الرياح، حتي البحيرة التي نشأت علي أرض النوبة أطلقوا عليها أسماء لا صلة لها بالمنطقة، حتي المنطقة البديلة التي تم تكديس النوبيين فيها سنة 1963 حملت اسماً لا رابط بينه وبين النوبة، وكأن هذا الاسم الذي أثار إعجاب القاصي قبل الداني أصبح عورة يجب إخفاؤها ولولا يقظة المهندس كامل يعقوب رحمه الله وقيامه بإضافة اسم النوبة إلي المكان وتسميتها «نصر النوبة» لضاعت معالم الطريق. ولم يكن الظلم الواقع علي النوبة في تاريخها فقط، ولا في جغرافيتها فقط بعد تفريغ المنطقة تحت دعاوي أثبت الزمن خطأها، ولكن الظلم طال ثقافة النوبة أيضاً، وأصابها ما أصاب تاريخها وجغرافيتها، ونظرات الشك والريبة التي تصاحب الثقافة النوبية أينما وجدت تجعلنا نشعر أننا هبطنا من كوكب آخر فألقي بنا الريح في مكان سحيق، مع أن النوبيين جزء أصيل من نسيج وادي النيل، يحمل بعضهم الجنسية المصرية وهم فخورون بانتمائهم وحريصون علي ذلك وهم يمثلون ربع المجتمع النوبي وكانوا يعيشون علي أرضهم في 44 قرية بطول 350 كيلومتراً تقريباً علي ضفتي النيل، وبعضهم الآخر يحمل الجنسية السودانية وهم أيضاً فخورون بانتمائهم وحريصون عليه وهم يمثلون ثلاثة أرباع النوبيين، يعيشون في 160 قرية بطول حوالي 700 كيلومتر حول نهر النيل. وكل أبناء النوبة سواء في مصر أو السودان يتحدثون بلغة واحدة وهي «اللغة النوبية» التي تتشكل من لهجتين فرعيتين متداخلتين متلازمتين متشابهتين إلي حد بعيد، وكلهم مرتبطون اجتماعياً ببعضهم البعض، ويتداولون ثقافة واحدة تجمعهم في نظرتهم للحياة من المنظور الأدبي والفني، ويمارسون العادات والتقاليد ذاتها في حياتهم اليومية والموسمية ومناسباتهم المتنوعة في أفراحهم وأتراحهم. وهناك أمر آخر يتعلق بالنوبة وتحيط بها علامات الاستفهام والتعجب، وهو أن كل النوبيين مسلمون متمسكون جداً بتعاليم الإسلام سلوكاً وعبادات، لكن هذا لا ينفي صلتهم التاريخية بالنصرانية ولا ينال ذلك من عقيدتهم إطلاقاً، وكانت هناك كنائس في بعض قري النوبة حتي 1963 غرقت ضمن ما غرق من آثار النوبة واجتاحها الطوفان ووضعها تحت بحيرة النوبة، ولقد رأيت بعيني رأس كنيسة قسطل وناقوسها الكبير في نجع «هسامن» فوق تل صغير علي مقربة من مجري النيل، فأين تاريخ كنائس النوبة وبياناتها في المحيط الثقافي، وهل يضر تماسك النسيج الوطني إظهار تلك الصلة ثقافياً، أقول هذا في الوقت الذي ترتفع فيه أصوات متباينة تتحدث عن الوحدة الوطنية في مصر.