أخبار مصر اليوم: سحب منخفضة على السواحل الشمالية والوجه البحري.. وزير العمل يصدر قرارًا لتنظيم تشغيل ذوي الهمم بالمنشآت.. إغلاق موقع إلكتروني مزور لبيع تذاكر المتحف المصري الكبير    واعظات الأوقاف يقدمن دعما نفسيا ودعويا ضمن فعاليات شهر التطوع    استمرار حملات إزالة التعديات على الأراضي الزراعية بكرداسة    زيلينسكي: بعض وثائق التسوية السلمية جاهزة وقضايا حساسة تتطلب مزيدا من العمل    ضياء رشوان: نتنياهو يحاول اختزال المرحلة الثانية من اتفاق غزة في نزع سلاح حماس وتغيير مهام قوة السلام    جيش الاحتلال: قتلنا شخصين اقتربا من الخط الأصفر في جنوب قطاع غزة    أمم إفريقيا - طالبي: آمل أن يستغل الركراكي قدراتي.. وعلينا أن نتعامل مع الضغط بإيجابية    مدرب مالي يكشف حقيقة تسرب الخوف في نفوس لاعبيه قبل مواجهة المغرب بأمم أفريقيا    بعد انتشال 8 جثامين و18 مصابا، انتهاء عمليات البحث عن ضحايا أسفل عقار إمبابة المنهار    جلا هشام: شخصية ناعومي في مسلسل ميد تيرم من أقرب الأدوار إلى قلبي    في وصمة عار ثقافية .. بلدوزر الجيش يحوّل مقبرة أمير الشعراء أحمد شوقي إلى أطلال    ياسمينا العبد: تفاجأت بتمثيل زياد ظاظا في ميد تيرم.. فنان بمعنى الكلمة    كجوك: طرح 3 استراتيجيات متوسطة المدى للدين والسياسات الضريبية والمالية العامة نهاية الشهر الجاري    مستشار شيخ الأزهر للوافدين: نُخرّج أطباء يحملون ضمير الأزهر قبل شهادة الطب    مصر تحصد 20 ميدالية جديدة بالبطولة العربية لرفع الأثقال في قطر    البابا ليو الرابع عشر يتضامن مع غزة في يوم عيد الميلاد    بالأسماء.. إصابة 7 أشخاص في حادث انقلاب سيارة جامبو بصحراوي البحيرة    دهس طفل تحت عجلات ميكروباص فوق كوبري الفيوم.. والسائق في قبضة الأمن    أوكرانيا تعلن استهداف أكبر منشأة روسية لمعالجة الغاز في أورينبورج    بدعوة حكيمى.. مبابى يصل الرباط مع عائلته لمساندة المغرب أمام مالى    تصعيد الصراع العسكري والإنساني.. آخر تطورات الأوضاع في السودان    مناسبة لأجواء الكريسماس، طريقة عمل كيك البرتقال بالخلاط بدون بيض    أخبار كفر الشيخ اليوم.. إعلان نتائج انتخابات مجلس النواب رسميًا    ضياء رشوان: نتنياهو يريد تجنب الانتقال للمرحلة الثانية من اتفاق غزة    تراجع جماعي لمؤشرات البورصة بختام تعاملات اليوم الخميس    هي تلبس غوايش وأنا ألبس الكلبش| انفعال محامي بسبب كتابة الذهب في قائمة المنقولات    «مؤسسة محمد جلال الخيرية» تكرم أكثر من 200 حافظة وحافظ للقرآن الكريم    تعيين محمد حلمي البنا عضوًا بمجلس أمناء الشيخ زايد    جراحة دقيقة بمستشفى الفيوم العام تنقذ حياة رضيع عمره 9 أيام    أخصائي يُحذر: نمط الحياة الكارثي وراء إصابة الشباب بشيخوخة العظام المبكرة    جمارك السلوم تحبط محاولة لتهريب كمية من البذور الزراعية الموقوف تصديرها    خبير: صناعة التعهيد خلقت فرص عمل كبيرة للشباب وجذبت استثمارات أجنبية لمصر    كيف نُصلِح الخلافات الزوجية بين الصم والبكم؟.. أمين الفتوى يجيب    ختام مبهج ل «الأقصر للتحطيب»    خبير تشريعات: جولة الإعادة أكدت صعود المستقلين وبروز ملامح البرلمان الجديد    بعد عام من الانفصال.. طلاق شريف سلامة وداليا مصطفى    برلمانية: الاستحقاق البرلماني الأخير يعكس تطورًا في إدارة العملية الانتخابية    صندوق التنمية الحضرية يعد قائمة ب 170 فرصة استثمارية في المحافظات    هل للصيام في رجب فضل عن غيره؟.. الأزهر يُجيب    إزالة مقبرة أحمد شوقي.. ماذا كُتب على شاهد قبر أمير الشعراء؟    وزير الخارجية: التزام مصر الراسخ بحماية حقوقها والحفاظ على استقرار الدول المجاورة    اتحاد الكرة يحذر من انتهاك حقوقه التجارية ويهدد باتخاذ إجراءات قانونية    بشير التابعي يشيد بدور إمام عاشور: عنصر حاسم في تشكيلة المنتخب    جامعة بدر تستضيف النسخة 52 من المؤتمر الدولي لرابطة العلماء المصريين بأمريكا وكندا    ادِّعاء خصومات وهمية على السلع بغرض سرعة بيعها.. الأزهر للفتوي يوضح    البابا تواضروس يهنئ بطريرك الكاثوليك بمناسبة عيد الميلاد    الوطنية للانتخابات: إبطال اللجنة 71 في بلبيس و26 و36 بالمنصورة و68 بميت غمر    التفاصيل الكاملة لافتتاح المركز النموذجي بالغرفة التجارية بالقليوبية    محافظ الجيزة يفتتح قسم رعاية المخ والأعصاب بمستشفى الوراق المركزي    كرة طائرة - بمشاركة 4 فرق.. الكشف عن جدول نهائي دوري المرتبط للسيدات    سيول وثلوج بدءاً من الغد.. منخفض جوى فى طريقه إلى لبنان    مصادرة 1000 لتر سولار مجهول المصدر و18 محضرا بحملة تموينية بالشرقية    نائب وزير الصحة تتفقد منشآت صحية بمحافظة الدقهلية    أمن القليوبية يكشف تفاصيل تداول فيديو لسيدة باعتداء 3 شباب على نجلها ببنها    وزيرا «التضامن» و«العمل» يقرران مضاعفة المساعدات لأسر حادثتي الفيوم ووادي النطرون    لليوم الثاني.. سفارة مصر بإيران تواصل فتح لجان التصويت بجولة الإعادة للدوائر ال19 الملغاة    الزمالك يواجه سموحة الليلة في اختبار جديد بكأس عاصمة مصر.. صراع الصدارة وحسابات التأهل    صراع النقاط الثلاث يشعل مواجهة بيراميدز والإسماعيلي في كأس عاصمة مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فاروق جويدة يكتب :النوبة.. مأساة عمرها مائة عام
نشر في الشروق الجديد يوم 11 - 04 - 2010

فى أحيان كثيرة نترك الأزمات تحاصرنا وتزداد الأحوال سوءا حتى يصبح الحل أمرا مستحيلا.. هناك قضايا كثيرة كان من الممكن علاجها بحسم عندما ظهرت ولكن السلبية والتكاسل والإهمال جعلت العلاج أمرا صعبا.. أنها أزمات تشبه الأمراض التى تهبط على الجسد ويتلكأ الإنسان فى علاجها وتحمله إلى أشياء أخطر وأسوأ..
منذ سنوات بعيدة وأنا أتابع باهتمام شديد مشكلة النوبة.. هذه القطعة العزيزة من أرض مصر وهذه الوجوه الطيبة التى نعرفها فى أى مكان نراها فيه حيث البساطة والتلقائية وسمرة نهر النيل وشموخه القديم..
تاريخ إنساني يسحر الأجانب
منطقة النوبة من المناطق المميزة جدا فى تاريخ مصر الحضاري والإنساني.. كثير من الأجانب الذين ذهبوا إلى أسوان سياحا وشاهدوا منطقة النوبة وما فيها من مظاهر الطبيعة الخلابة والنيل العملاق اختاروا أن يعيشوا فيها حياتهم ويتركوا بلادهم الأصلية فى شمال أوروبا..
أعرف عائلة سويدية تعيش فى النوبة منذ أكثر من خمسين عاما ولم تفكر فى العودة إلى بلادها بعد أن اختارت النوبة سكنا وموطنا..
وللنوبة صفحات كثيرة أضاءت تاريخنا..
من بلاد النوبة خرج أول فرعون مصرى وهو الملك مينا موحد القطرين وهو الذى تزوج الملكة نفرتارى وهى أيضا نوبية الأصل.. وفى التاريخ القديم استعان فرعون مصر الشهير أحمس بأهل النوبة فى حربه ضد الهكسوس وكانوا من أسباب النصر فى هذه الحروب.. وفى عصور مختلفة كان أهل النوبة من أشهر الصناع فى مصر وكان لهم دور كبير فى الصناعة المتقدمة فى عهد صلاح الدين الأيوبى..
وفى النوبة كانت أهم وأكبر مناجم الذهب الذى شيدوا به أركان المعابد والتوابيت والتيجان الفرعونية.. «والنوب» فى اللغة المصرية القديمة هو الذهب.. وهذا يعنى أن بلاد النوبة هى بلاد الذهب أن الذهب الحقيقى الذى بقى فى بلاد النوبة هو الإنسان النوبى بكل تراثه الإنسانى والتاريخى فقد حافظ أهل النوبة على ثقافتهم التى تمتد جذورها على وادى النيل مئات السنين.. ورغم المتغيرات الكثيرة التى شهدتها بلاد النوبة إلا أن أهلها لم يغيروا شيئا من تراثهم القديم..
هناك تراث حضارى وإنسانى كثير عصفت به أحداث الزمن وقد تكون هناك شواهد كثيرة لمتغيرات حضارية وسكانية فى شمال مصر أمام الغزوات الخارجية إلا أن أهل النوبة فى الجنوب كانوا بعيدين عن هذه الوفود الخارجية القادمة.. تغيرت أشياء كثيرة فى شمال مصر مع الغزوات التى اجتاحت الدلتا عبر عصور التاريخ فكان الهكسوس.. والتتار والعثمانيون والمماليك والفرنسيون والإنجليز.. كل جنس من هذه الأجناس ترك فى دلتا المحروسة أثرا إلا أن أهل النوبة ظلوا بعيدين عن هذه الأفواج البشرية التى غزت وسكنت وعاشت على ضفاف النيل..
كيف حفظت النوبة تراثها؟
كان تراث أهل النوبة جزءا مهما من حياتهم تجسد هذا التراث فى ثقافتهم التى انتقلت عبر الأجيال.. وفى لغتهم التى حافظوا عليها.. وفى عاداتهم التى لم تتغير ابتداء بطقوس الزواج وانتهاء بالعلاقات الإنسانية التى بقيت من أهم الروابط التى حافظوا عليها.. والغريب أن أهالى النوبة حافظوا على هذا التراث حتى وهم بعيدون عن بلادهم.. إن العادات النوبية موجودة فى كل مكان يوجد فيه أهل النوبة فى القاهرة وفى منطقة عابدين بالذات تجد أهالى النوبة يعيشون فى مناطق محددة ويتزوجون على طريقتهم وأسلوب حياتهم..
وفى الأفراح النوبية تجد الغناء والرقص والكلمات باللهجة النوبية.. حتى أنواع الطعام ابتداء بالخبز الشمسى وانتهاء بأنواع الحلوى.. فى كل مكان عاش فيه أهل النوبة سواء فى مصر أو خارجها حافظواعلى تراثهم بصورة غريبة فيها الكثير من الاعتزاز بالجذور والعادات والهوية..
ظلت النوبة بسكانها ومبانيها وطرازها المعمارى الفريد تعيش بعيدا عن الأزمات والمشاكل قرونا طويلة.. اختار سكانها هذا الجزء الوديع من الجنوب المصرى بحرارة الشمس فيه ودفء مياه النيل والأرض الصخرية أحيانا والزراعية أحيانا تعطى لهؤلاء السكان ما يكفيهم من الخيرات التى تعينهم على مسيرة الحياة.. من الصخور الصلبة صنعوا حضارة الفنون الفرعونية ومن طمى النيل أقاموا بيوتهم الطينية.. ومن مياه النيل كانت حياتهم بين الزراعة والأسماك..
التشبث بالنيل أقوى من الزمن
لم يكن رحيل أهل النوبة فكرة مقبولة عند الكثيرين منهم وإن كان البعض قد سافر شمالا بحثا عن رزق أو فرصة عمل أو طموحات فى العلم والثقافة.. بل إن منهم من سافر فى عصور مبكرة إلى الغرب حيث عاش هناك ولم يرجع وإن بقى محافظا على ذاكرته وتراثه..
كان الرحيل آخر ما يفكر فيه أهل النوبة فقد كان ارتباطهم بالأرض والنيل والتاريخ أقوى من كل رغبات السفر أو التغيير.. وكيف يسافر هؤلاء وحياتهم جزء من هذه الأرض.. وأقصى أحلامهم فى هذا النهر الخالد.. كما أن حياتهم تجسدت فى هذا المخزون الحضارى الرهيب من تاريخ مصر القديم وهم أهله وصانعوه وحراسه..
ومنذ مائة عام بدأت رحلة الألم والعذاب فى حياة أهل النوبة كان من أهم مميزات منطقة النوبة هذا النموذج المعمارى الجميل على شواطئ النيل جنوب أسوان.. المساكن البيضاء المزركشة ببعض الرسوم يتسلل من نوافذها هواء بارد فى صيف أسوان القاسى.. وعلى بعد أمتار من هذه المساكن تجرى مياه النيل وتخضر الأراضى وتسجد الصخور وتسير الحياة بالناس وهم أكثر قناعة واكتفاء وسعادة..
تمتد مساكن أهل النوبة على امتداد 350 كيلومترا جنوب أسوان فى 39 قرية تضم 535 نجعا وهى تمتاز بنماذج معمارية خاصة كان أفضل من عبر عنها واستفاد منها المهندس المعمارى الشهير حسن فتحى فى تصميماته الهندسية الرائعة..
كانت هذه المساكن تقع كلها على النيل فى مناطق صخرية وعلى ارتفاعات تضمن هواء نقيا طوال اليوم ليلا ومساء..
خزان أسوان يفرض الشتات
بدأت المشكلة فى عام 1902 عند إنشاء خزان أسوان.. كان الخزان بشير خير لمصر فى الصعيد والدلتا حيث وفر كميات من المياه تكفى احتياجات الزراعة المصرية فى الوادى طوال العام.. وبقدر ما كان بناء الخزان يمثل خيرا وفيرا لمصر كان بداية أزمة حقيقية لأهالى النوبة.. لقد ارتفع منسوب المياه أمام الخزان حتى وصل إلى ارتفاع 106 أمتار وترتب على ذلك أن اجتاحت مياه النيل مناطق كثيرة فى النوبة أغرقت 10 قرى كاملة منها قرى دابود وهميت وكلابشة وامبركاب وقرشة وأبوهور والدكة..
هنا بدأ رحيل أول فوج من سكان النوبة إلى مناطق أكثر أمنا بعيدا عن مياه النهر التى أغرقت قراهم وشردت أسرهم.. فى هذه الفترة كان من الطبيعى أن تتجه مواكب الهاربين من مياه النهر إلى مناطق أخرى مع ذويهم واستطاعت الأسر والعائلات النوبية أن تستوعب ما حدث وأن تقوم بتسكين هذه الأعداد التى توافدت بعد غرق قراها..
لم يمض وقت طويل وبالتحديد فى عام 1912 حيث تمت التعلية الثانية لخزان أسوان فقد ارتفع منسوب المياه إلى 114 مترا وأغرق 18 قرية من بينها السيالة والمحرقة والسبوع ووادى العرب.. وبدأ رحيل أهل النوبة عن قراهم الغارقة مرة أخرى وبدأ البحث عن مأوى فى أماكن أخرى..
هنا بدأت رحلة الشتات فى حياة أهل النوبة خاصة بعد أن تمت التعلية الثانية لخزان أسوان فى عام 1932 وهنا أيضا غرقت مجموعة أخرى من القرى كان من أشهرها قرى المالكى.. وأبو حنضل والديوان وابريم وعافية..
طوال ثلاثين عاما لم تفكر حكومات ما قبل ثورة يوليو فى تعويض أهالى النوبة عن بيوتهم الغارقة وأراضيهم التى فروا هاربين منها أمام سيول المياه المتدفقة.. ورغم صدور قرارات وتشريعات لوضع ضمانات لحماية حقوق هؤلاء المواطنين إلا أن الإهمال والبيروقراطية حالت دون تنفيذ هذه القرارات ولم يحصل أهالى النوبة على أية تعويضات سواء بالنسبة لمساكنهم أو أراضيهم الزراعية التى أغرقتها المياه.. وما بين إنشاء خزان أسوان وتعليته مرتين وما بين المهاجرين فى البداية والراحلين فى النهاية زادت أزمة أهالى النوبة تعقيدا.
السد العالي يزيد الكارثة
وفى عام 1960 كان الإنجاز التاريخى بإنشاء السد العالى.. وذهبت مصر كلها إلى هناك فى أسوان لتشهد هذه المعجزة التاريخية.. وبقدر ما كان السد العالى إنجازا عبقريا لأهل الشمال كان كارثة مدوية لأهالى النوبة.. لقد حمل السد أكثر من 16 ألف أسرة تضم 100 ألف مواطن من أهالى النوبة تم ترحيلهم فى أيام قليلة إلى أماكن صحراوية فى كوم امبو وإسنا حيث لا زرع ولا ماء ولا مساكن ولا حياة.. كان بناء السد العالى آخر حلقات الرحيل والشتات فى حياة أهالى النوبة.. ودع أهالى النوبة ما بقى من أطلال مساكنهم بالدموع وفى كل شبر من هذه القرى التى ابتلعتها المياه توارى عمر من الذكريات..
اهتمت الحكومة يومها بإنقاذ آثار النوبة من المعابد والأماكن السياحية وقامت حملة دولية من خلال منظمة اليونسكو تدعو دول العالم لإنقاذ تاريخ مصر الحضارى فى هذه المنطقة.. وبالفعل تم إنقاذ معابد فيله وأبوسنبل وكل المناطق التى غرقت فى المياه.. بقدر ما كان الاهتمام كبيرا بآثار النوبة عالميا ومحليا بقدر ما كان التجاهل واضحا بالنسبة لسكان النوبة الذين توارت منازلهم وضاعت ذكرياتهم..
انتقل سكان النوبة إلى مناطق خلفية بعيدة فى الصحراء.. وفى تكدس البيوت التى أقامتها الدولة تحولت حياة أهالى النوبة إلى جحيم ما بين الشمس الحارقة والرمال السوداء والصفراء والأراضى القاحلة دخلت قضية النوبة منعطفا جديدا.. بعد كارثة خزان أسوان وموسم الرحيل والهجرة جاءت كارثة الرحيل مع بناء السد العالى.. والغريب أن الحكومات جميعها اتفقت على إهمال هذه القضية وتصور البعض أن سكان النوبة يمكن أن ينسوا ما حدث لهم ولكن بقى أهالى النوبة يحفظون تاريخهم الذى حملته المياه فى ساعات وداع حزينة.. كانت لحظة الوداع بين البشر والأرض والنيل قصة من القصص الدامية التى بقيت فى ذاكرة أهالى النوبة.
لقد انتشرت مساكنهم بين التلال والصحارى فى جنوب أسوان ولم تستطع حكومة من الحكومات طوال العهد الملكى أو العهد الثورى أن تجد حلا لأهالى النوبة.. ورحلت أجيال منهم وجاءت أجيال أخرى والقضية واحدة..
ترحيل مغلف بالإهمال
لم تقرر الدولة التعويضات المناسبة للأراضى الزراعية التى تركها سكان النوبة وأغرقتها مياه السد العالى وخزان أسوان..
لم تقرر الدولة التعويضات المطلوبة عن قطعان الماشية التى كان يملكها أهالى النوبة وطاردتهم الحكومة وخرجوا من منازلهم لا يحملون شيئا بما فى ذلك الماشية وأثاث البيوت..
بقيت مشكلة التعويضات أهم وأخطر ما يطالب به أهالى النوبة..
إن الأغرب من ذلك كله أن الدولة لم تكن جادة فى إقامة المساكن المناسبة لأهالى النوبة لقد أقامت لهم منشآت غريبة فى قلب الصحراء ورفضت تسليمهم مساحات من الأراضى الصالحة للزراعة لكى يبدأوا فيها حياتهم من جديد.. وتشرد سكان النوبة فى مناطق عديدة منهم من أقام ومنهم من رحل إلى شمال الوادى ومنهم من هاجر من مصر ولم يعد..
وبقيت قضية النوبة واحدة من أخطر القضايا التى تجد صدى واسعا فى مصر وخارج مصر.. فى مناسبات كثيرة كانت القضية مطروحة للنقاش سواء فى دورات متعاقبة لمجلس الشعب أو فى سياسات حكومات مختلفة اتفقت جميعها على حجم المشكلة واتفقت أكثر على تجاهلها..
قامت الدولة بترحيل آلاف الأسر من دلتا مصر إلى الأراضى المحيطة ببحيرة ناصر ووزعت عليهم هذه الأراضى وكان الأولى بها أهالى النوبة الذين يموتون من حر الصحراء.. كان موقفا غريبا ومريبا من الدولة أن تحرم أهالى النوبة من أراضيهم وترفض تعويضهم عنها أو تسليمهم أراضى أخرى بديلة.. وكان أهالى النوبة هم الأحق بأن يعودوا إلى أراضيهم حول بحيرة ناصر على ضفاف النيل الذى حرمتهم الدولة منه.. وتمادت الدولة فى إهمالها لقضية النوبة حتى تصاعدت ووصلت إلى مؤسسات دولية وأصبحت قضية عالمية أمام مؤسسات حقوق الإنسان فى العالم وكانت الدولة هى المسئولة عن هذا التطور فى القضية..
وعود الدولة لم تر النور
وحمل عدد من النوبيين المميزين فى العلوم والفنون والثقافة والسياسية قضية أرضهم إلى ساحات دولية مؤثرة وأصبحت قضية أهالى النوبة واحدة من قضايا الأقليات فى العالم..
والغريب فى الأمر أن الحكومات المتتالية منحت وعودا كثيرة لأهالى النوبة.. كانت هناك وعود بمساكن جديدة.. ولم تنفذ.. وكانت هناك وعود بمساحات من الأراضى الصالحة للزراعة ولم تتحقق.. وفى العام الماضى أمر الرئيس حسنى مبارك ببناء مساكن جديدة لأهالى النوبة وتوزيع الأراضى عليهم حول بحيرة ناصر وحتى الآن لم يتم شىء من ذلك كله..
لقد غضبت الدولة على عدد من رموز أهالى النوبة الذين حملوا قضيتهم خارج حدود مصر ولكن هؤلاء ذهبوا للخارج بعد أن يئسوا من حلها فى الداخل فلا مجلس الشعب تبنى قضيتهم بجدية.. ولا الحكومة نفذت ما وعدت به.. حتى أوامر رئيس الدولة لا تنفذها المؤسسات المسئولة..
هذه هى قصة النوبة هذا الجزء العزيز من مصر الذى ضحى بكل شىء بالأرض والسكن والحياة ليتحقق رخاء مصر فى سدها العالى وخزان أسوان وكان الجحود هو الثمن الذى قدمته حكومات مصر لهذا الجزء العزيز وبقيت مأساة النوبة مائة عام تبحث عن حل أمام حكومات لم تدرك حق المواطن ومسئولية الوطن..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.