شهدت مصر خلال القرن «13 هجرى/ 19 ميلادى» وجود عدد كبير من الجاليات الأوروبية، وذلك نظراً لتمتعهم بالامتيازات الأجنبية التى أعطاها محمد على باشا للأوروبيين، حيث اعتمد عليهم فى تطوير مؤسساته، لذا فقد شهدت البلاد هجرة الآلاف من الأوروبيين إليها لطلب الرزق الدائم بها، فقدم إليها المعمارى والطبيب والصحفى ورجل الأعمال لخدمة الحكومة أو للعمل الحر. ونتيجة لاستقرار أعداد كبيرة من الجاليات الأوروبية فى مصر وتغلغلهم فى الحياة المصرية، اتجهت تلك الجاليات إلى تطبيق الاتجاهات والأفكار والطرز المعمارية، واتجه عدد كبير منهم لاستثمار أموالهم فى إنشاء شركات المقاولات والبناء، وأدى ذلك كله إلى إحداث تغيرات جذرية فى شخصية المعمار الأوروبى فى مصر, وهو ما كشفته الباحثة كريمة حسين أحمد نصر فى رسالة بعنوان»واجهات منشآت المعمارى أنطونيو لاشياك الباقية بالقاهرةوالإسكندرية»، وحصلت بها على الماجستير بامتياز من كلية الآداب بجامعة عين شمس شعبة الآثار الإسلامية. تناولت الدراسة واجهات المعمارى أنطونيو لاشاك الباقية بالقاهرةوالإسكندرية، منها 10 منشآت بالإسكندرية و15 منشأة بالقاهرة، وقامت الباحثة بتصوير جميع المنشآت القائمة، كما قامت برفع 12 منشأة بالقاهرةوالإسكندرية بالأوتوكاد و9 منشآت منها تنشر لأول مرة، وخرائط مساحية لتحديد موقع كل منشأة والشوارع المحيطة بها، كما تضمنت الرسالة دراسة أثرية لثلاث منشآت لم تسبق دراستها، وهي قصر نعمة الله كمال «مبنى وزارة الخارجية الآن»، وفيلا المحامى ديبالجرو سابقًا»سفارة الهند بالزمالك حاليًا»، وعمارة عائلة جرين ونشر الصور الفوتوغرافية لها لأول مرة. وطبقا للدراسة، فقد بدأت ظاهرة تحويل القصور التاريخية إلى مؤسسات حكومية أو متاحف، فى الانتشار بمصر بعد ثورة 1952م وقد صادرت الحكومة المصرية هذه القصور لتصبح مخصصة للزيارة وتُعرض فيها القطع الفنية المختلفة التى كانت موجودة داخل القصر، ودشنت وزارة الثقافة هذه السياسة التى تستهدف تحويل القصور التاريخية إلى مراكز ثقافية وتعليمية لإتاحة الفرصة أمام الجمهور للتعرف عليها كتراث معمارى مهم. وقد حصرت الدراسة أمثلة القصور التى تحولت لمتاحف مثل قصر فاطمة حيدر»متحف المجوهرات الملكية بالإسكندرية»، أما القصور التى تحولت إلى مؤسسات حكومية منها قصر عابدين وقصر الطاهرة»رئاسة الجمهورية»، وقصر الأميرة شويكار»مقر مجلس رئاسة الوزراء»، وقصر نعمة الله كمال»مقر وزارة الخارجية»، وقصر سعيد حليم»مدرسة الناصرية الثانوية» وقصر يوسف كمال»معهد بحوث الصحراء»، وفيلا لوران بالإسكندرية»مدرسة لوران الثانوية»، وقصر الزعفران»مقر جامعة عين شمس»، أما السفارات فقد تحولت منشآت مثل فيلا القاضى ديبالجرو بالزمالك إلى»سفارة الهند». مهندس الباشوات الباحثة قالت فى رسالتها:من خلال دراستى للجانب التاريخى لمنشآت لاشاك، اتضح أن بعض مالكيها من الأجانب الذين استوطنوا مصر فى تلك الفترة وأطلق عليهم اسم رعايا، وكل رعية تقع تحت حماية دولة سواء كانت دولتهم الأصلية أو دولة أخرى فيطلق عليهم اسم قنصل، لذا صارت منشآتهم نحو الطرز المعمارية السائدة فى بلدانهم الأصلية، ونلاحظ تمسك بعض العائلات والعملاء بأنطونيو لاشاك، حيث بنى للأمير يوسف كمال قصره بالمطرية وصمم تخطيط لضريحه، وأيضًا صمم لوالده أحمد كمال باشا عمارتين، وكما صمم لمظلوم باشا فيلتين إحداهما بالقاهرة والأخرى بالإسكندرية، لكنهما هدما مع الأسف. الدراسة كشفت أن لاشياك تعامل مع الجالية اليهودية كثيرًا، فأنشأ لهم العديد من المنشآت خاصة بالإسكندرية مثل عمارة عائلة جرين، وعمارة الجالية اليهودية وعمارة أجيون ووكالة منشا وضريح سوارس، أما بالقاهرة فأنشأ لهم عمارة سوارس بوسط المدينة، فيما تعد الكنيسة البطرسية بالعباسية هى المنشأة الدينية الوحيدة التى صممها ضمن أعماله بمصر. باريس الشرق ومن خلال فترة الدراسة يمكن إيجاز النتاج العمرانى والمعمارى للمجتمع المصرى بالقاهرة، فمن حيث النتاج العمرانى الذى ظهر منذ عصر إسماعيل وتمثل فى ظهور النزعة الأوروبية بوضع مشروع تخطيط القاهرة«باريس الشرق»، توسيع الشوارع وإنارتها بالغاز وردم البرك، إنشاء الحدائق، إنشاء عدة إحياء جديدة، إنشاء الكبارى، تحويل مجرى النيل الأصلى، وضع تماثيل للشخصيات الهامة فى الميادين . ليس هذا فقط، بل كشفت الدراسة إلمام لاشياك بالطرز المعمارية المختلفة، لاسيما طراز الكلاسيكية المستحدثة، والنهضة المستحدثة، والباروك والركوكو المستحدث، كذلك تأثره بالطرز المحلية الموروثة، كما فى تخطيط الوكالة التركية التى بنيت على أساسها وكالة منشا، وأيضا عنصر رأس أبو الهول فى واحة محطة مصر بالإسكندرية، وعمارة بيت جلال بالقاهرة، كما ظهر تأثره بمفردات العمارة الإسلامية فى التكوين المعمارى لقصر فاطمة الزهراء، بوجود سلاملك بالجناح الشرقى والحرملك بالجناح الغربى، وأيضًا واجهة عمارة التأمين، وعمارة بنك مصر بالقاهرة . وقد أوضحت الدراسة سيادة الطراز الإسلامى ولمسات بسيطة من الطراز الفرعونى فى بداية القرن العشرين الميلادي، خاصة فى عصر الخديو عباس حلمى الثانى ونشوب الحرب العالمية الأولى 1914م، ولعل السبب فى ذلك هو الشعور الوطنى المتزايد فى هذه الفترة، فيما ظلت مدينة الإسكندرية محتفظة بطابعها المتأثر بالاتجاهات الغربية حتى منتصف القرن العشرين، رغم أوامر عثمان محرم وزير الأشغال العامة – نتيجة تمركز الجاليات الأجنبية بالمدينة والسلطات الإدارية لتلك الجاليات، مما أضعف المقاومة الوطنية بها سواء الاتجاه الفرعونى أو الإسلامى المستحدث. خطة إنقاذ وبقدر ما كانت أهمية الدراسة جاءت أهمية التوصيات التى انتهت إليها، وفى مقدمتها تكملة رصد وتسجيل العمائر ذات الواجهات المميزة فى مصر بصفة عامة بالتصوير الفوتوغرافى والرفع المعمارى الدقيق للعناصر المعمارية والزخرفية، وتقديم المزيد والاستمرار فى مشروع التوثيق ليشمل جميع مناطق ومحافظات مصر والإستعانة بالباحثين المتخصصين فى هذا المجال لسرعة التنفيذ . كما أوصت الدراسة بتنفيذ مقترح بالنسبة لقصر سعيد حليم قدمته د.جليلة القاضى أستاذ العمارة بكلية الهندسة جامعة القاهرة ومدير مركز الأبحاث الفرنسى من أجل التنمية - مشروع القاهرة الخديوية، بتحويل القصر لمتحف بمدينة القاهرة، وهى فكرة نوعية تنفذ لأول مرة فى مصر أسوة بمتحف لندن بإنجلترا، بينما تبقى ملكية المكان كما تذكر القاضى عائقًا يمكن حله، بتكرار تجربة قصر البارون وتقديم بديل للمالك ليتنازل عنه لصالح الدولة، والقصر الآن مهجور تمامًا لا يعلم أحد بمصيره، وناشدت الباحثة وزارتى الاثار والثقافة النظر فى أمره، فهو قيمة كبيرة تستحق الترميم وإعادة رونقه وزخارفه، وهو مشروع عظيم أؤيده بشدة والذى قدم منذ أكثر من عشر سنوات، بدعم عالمى وخبرات دولية ومصرية جديرة بإعادة النظر فيه. وأوصت الدراسة أيضا بضرورة ألا يقوم المجلس الأعلى للآثار المصرية بتسجيل أى أثر جديد غير مسجل فى تعداد الآثار، إلا إذا كان ضامنًا أن هذا الآثر بعد تسجيله سيكون خاضعًا تمامًا لإشرافه دون مشاركة من أية جهة أخرى تشغل الأثر، وشددت على التوصية بضرورة تسجيل المجلس الأعلى للآثار للكنيسة البطرسية والواقعة بحرم الكاتدرائية القبطية بالعباسية، وذلك لما تمثله عناصرها المعمارية والزخرفية من قيمة جمالية وأثرية وتاريخية. تشوه بصرى وأوضحت أن بناء منشآت شاهقة الارتفاع بجوار القصور ذات الارتفاع المنخفض وإشغالات المحال والمقاهى بجوار المبانى التراثية أو بالطوابق الأرضية منها، أوتعليق لافتات إعلانات على الواجهات بشكل عشوائي، كل هذا أدى لحجب بعض العناصر المعمارية والزخرفية للمبانى وتشوه بصرى فى محيطها، وفى بعض الأحيان نتيجة للإهمال أو لتحقيق المتطلبات المعيشية للساكن، يتم إجراء تعديلات ومعالجات على المنشآت والتى لاتراعى جمال وقيمة المبنى التراثية، مما أدى إلى محو جزء هام من أجزاء المرجع الفنى والتاريخى ربما لايُعوض لعدم تكراره فى المبنى أو عدم وجود مثيل له فى مبنى آخر. وشددت الباحثة ضمن توصيات دراستها على العمل على سياسة تثقيفية إعلامية لزيادة وعى لدى الجماهير بالقيمة التراثية للمبانى الأثرية أو ذات الطراز المميز والقيمة المعمارية، ووضع قوانين حاسمة تمنع عمليات الإضافة والإلغاء أو التغيير لأى عنصر من عناصر التشكيل المعمارى للواجهات باعتبارها أرث ذات قيمة كبيرة، وخضوع هذه المبانى لعمليات الترميم السليم والمدروس بحرفية من قبل متخصصين، وليس محاولة تجميل العمائر بالدهانات غير المناسبة للواجهات والتى تغير من الشكل الواقعى للمبنى، كما حدث فى (العمارات الخديوية) كمثال حقيقى من الدراسة. واختتمت الدراسة توصياتها بحقيقة مثيرة قد لا يعلمها كثيرون رغم أهمية المكان، حيث إنه يوجد متحف للسكك الحديدية بمبنى محطة مصر غير معروف عنه شيء، وقالت الدراسة أن هذا المتحف يعرض تاريخ النقل وتاريخ نشأة السكك الحديدية والعربات والقطارات الملكية، وقد تم تشييده فى 26 أكتوبر 1932، وافتتح لاستقبال الزوار فى 15 يناير 1933، ويضم المتحف بين جدرانه ما يقرب من سبعمائة نموذج ومعروض، ومجموعة من الوثائق والخرائط والبيانات الإحصائية وجميعها تبين تطور النقل والسكك الحديدية.