يبدأ تشكيل الوعى والإدراك لدى الإنسان فى السنوات الأولى من عمره، وتظل تلك المواقف والذكريات التى تمر بالإنسان فى سنوات عمره الأولى حاضرة فى فكره ووجدانه، بل يمتد تأثيرها فى تشكيل الكثير من وعيه وإدراكه وسلوكه طوال حياته، لذلك فإن مراحل التعليم الأولى عند الإنسان، خاصة مراحل التعليم الثلاث الأولى « رياض الأطفال، الابتدائية، الإعدادية «، تظل من أهم مراحل بناء الشخصية السلوكية داخل الإنسان، فالتعليم فى الصغر كالنقش على الحجر». الانتماء، والوفاء، والإخلاص، والتضحية من أجل الوطن، والمحافظة على المرافق العامة، والسلوك السوى الذى يكسب الشخصية صفات المودة والتسامح والجنوح نحو الاعتدال، وغيرها من الخصال والشيم قد غابت عن النشء والشباب فى السنوات الأخيرة، الأمر الذى انعكس على المجتمع بصورة كبيرة، فانتشرت الفوضى، والفساد، والتلوث المادى بكل أشكاله، والانحراف الأخلاقى، كالكذب والألفاظ الجارحة، والتحرش، وساد جو من اللامبالاة، وظهرت فى المجتمع جرائم لم يكن يعرفها من قبل كالقتل غير المبرر والسرقة والأعمال العدوانية، والعنف، وغيرها من الظواهر الغريبة على ثقافتنا والتى تتناقض مع جوهر ديننا الحنيف الذى يدعو إلى المودة والسلام والتحلى بمكارم الأخلاق. كان للمدرسة دورها المهم فى تربية النشء، فقد كانت شخصية المعلم بسلوكه وأخلاقياته تلازم الإنسان طوال حياته، حيث كان يمثل القدوة التى يتمنى كل تلميذ أن يكون مثل معلمه فى المستقبل، لأنه كان يرى فيه صورة الشخصية المثالية المتكاملة، وقد كان الآباء والأمهات يسرون عندما يجدون المعلم قد كتب فى كراسة ما كلمة إعجاب وتقدير بابنهم أو ابنتهم، مثل كلمة «ممتاز، جيد، حسن، مجتهد»، وغيرها من الكلمات التى كانت تمثل وساما وتقديراً من شخص يكن له المجتمع بأكمله كل التقدير والاحترام. لقد غابت القدوة الحسنة عن أعين وأسماع النشء، عندما تم تشويه صورة المعلم فى وسائل الإعلام، وعدم وجود التقدير والاحترام المادى والمعنوى من المجتمع للمعلم، ففقد المجتمع الهدف الذى يسمو ويسعى إليه، وهو تنشئة أجيال بمواصفات وطنية صالحة، فكبر هذا النشء على عادات وتقاليد وقيم وأخلاق غريبة عن المجتمع، ومن ثم أصبح المجتمع غريباً وبعيداً عن عاداته وتقاليده وقيمه ومثله التى بنى حضارته العريقة على أسسها. أصبح الكثير يعتقد أن دور المعلم، ودور المدرسة هو تلقين بعض من المعلومات، من أجل الحصول على ورقة فى نهاية العام الدراسى تفيد انتقال التلميذ من صف إلى صف آخر، أو من مرحلة تعليمية إلى مرحلة أخرى، وهرول الجميع إلى الإنفاق ببذخ على هوامش التعليم المتمثلة فى الدروس الخصوصية، ولم يهتموا بجوهر العملية التعليمية وهى المؤسسة التعليمية التى تحتضن أبناءهم «المدرسة»، وفى وسط كل هذه الأجواء أساء الجميع أيضاً إلى عماد العملية التعليمية وهو المعلم، فتناسوا دور المعلم ودور المدرسة فى بناء المجتمع من خلال غرس القيم والمثل العليا فى نفوس النشء الذين سوف تقوم على أكتافهم نهضة الوطن ورفعته وتقدمه وازدهاره. بنظرة سريعة إلى الدول المتقدمة نجد أنها لم تصل إلى المكانة التى وصلت إليها إلا بالتعليم الجيد، فإذا كانت الدول والشعوب تسعى للاستثمار من أجل التقدم والازدهار، فإن أهم القطاع الذى يستحق حشد كل الجهود والطاقات من أجله، هو الاستثمار فى التعليم، الذى يقود البلاد نحو النهضة الشاملة فى مختلف المجالات، فالعلم يرفع بيوتاً لا عماد لها، والجهل يهدم بيوت العز والكرم.. ولن يتحقق أمن الوطن واستقراره وتقدمه وازدهاره، إلا بأبنائه المسلحين بالعلم قبل السلاح، وبالفضيلة والقيم والمبادئ الأصيلة قبل الثروة والمال. الوعى والحس الوطنى، وحب الوطن ليست شعارات ترفع أو جملًا تصاغ، أو عبارات يهتف بها هنا وهناك، بل الانتماء والوطنية تعنى التفانى والإخلاص من أجل هذا الوطن، كل فى عمله وموقعه، مهما كان هذا العمل صغيراً أو كبيراً، فكلها أدوار تكمل بعضها البعض، لتنسج بناء متكامل، يستحيل على الأعداء الاقتراب منه، وهذا الإخلاص والتفانى للوطن لا يتولد ولا ينشأ ولا يترعرع إلا فى بيئة صحية سليمة، أساسها البيت والمدرسة، فالبيت له دوره فى توفير البيئة الصحية التى ينشأ فيها الإنسان الراقى بأخلاقه القائمة على الاحترام والتقدير، والمدرسة لها دورها المهم فى التربية واختيار القدوة الصالحة، وغرس قيم الفضيلة والتضحية فى نفوس التلاميذ، قبل تعليمهم القراءة والكتابة والحساب والعلوم الأخرى، ومن ثم تنشأ الأجيال وهى محصنة بالقيم والمثل العليا التى تضع فى أولوية اهتمامها التفانى والتضحية من أجل الوطن، الذى بدوره يرتقى ويتطور ويزدهر بجهود أبنائه الصالحين المخلصين.