عندما نوقش موضوع التعليم فى مؤتمر الشباب الذى عقد مؤخرا فى شرم الشيخ كان تعليق الرئيس عبدالفتاح السيسى كرجل دولة، تواجهه أزمات ومتطلبات ملحة لا يمكن تأجيلها، ومن ثم التركيز على قضية التعليم وحدها قرار من الصعب اتخاذه على أهميته، وطلب الرئيس ممن يدعون إلى معالجة تلك القضية الوطنية والشائكة أن يضعوا فى حساباتهم التكلفة المادية للاصلاح وطريقة تدبير الموارد المالية اللازمة لذلك. وكمواطن مهتم ومهموم بقضية التعليم فى مصر وأعمل فى هذا المجال لسنوات طويلة أستطيع أن أفهم صعوبة تدبير الموارد المالية اللازمة وأعرف ما يصرف على التعليم سواء من خزانة الدولة أو من جيوب المواطنين كثير، ولكنه بدون عائد إيجابى حقيقى بل يصل الأمر إلى أن يكون العائد سلبيا على حركة التنمية بل وعلى منظومة القيم والسلوكيات ومفهوم الانتماء. ومن نافلة القول أن كل تأخير فى إصلاح تلك المنظومة يجعلنا ندفع أثمانا باهظة أقلها وضع أجيال من الشباب فى مهب رياح اليأس والتطرف وفقدان الانتماء وكلها مخاطر تدخلنا إلى نفق مظلم لا قدر الله. وإذا كنا نسابق الزمن لبناء وإصلاح البنية التحتية لتساعدنا على الانطلاق إلى تنمية مستدامة فإن مكوناً أساسياً لهذه البنية هو إعداد كوادر بشرية تستطيع قيادة وإدارة عملية التنمية ولا أعتقد أن فلسفة منظومة التعليم بوضعها الحالى تؤدى إلى الوصول لهذه النتيجة، وحتى نخرج من عنق الزجاجة، دعونا نتفق على أنه بدون تعليم جيد فكأننا نحرث فى البحر، عندما نتحدث عن تنمية مستدامة على جميع الأصعدة، اجتماعية واقتصادية وبالضرورة سياسية، ومع تقديرنا لحسابات الرئيس وأولوياته، فإن قضية التعليم فى مصر لا يمكن أن ينظر إليها من الجانب المادى فقط على أهميته، ومن ثم فإن إصلاح التعليم فى مصر يجب أن يراعى فيها وبشكل عاجل، أن تعطى الأولوية لعدد من الاعتبارات لا تتطلب زيادة فى الإنفاق ولكنها تشكل المدخل الحقيقى لإصلاح منظومة التعليم. أولا: العملية التعليمية فى جوهرها تشكل مثلثا يتكون من المدرس والمدرسة والطالب وفى وسطه المناهج الدراسية، ووفقا لما آلت إليه المنظومة الحالية فقد تفسخت العلاقة بين تلك الأضلاع فلا المدرس أعطيت له الفرصة لتربية جيل من المتعلمين وضاعت هيبته لعوامل كثيرة يطول شرحها ولا أصبحت المدرسة تقوم برسالتها الحقيقية من توفير بيئة تعليمية واجتماعية ترسخ مفاهيم وقيم المجتمع ومصنعا لتفريخ قيادات للمستقبل وكنتيجة حتمية عزف الطالب عن المدرسة واستبدلها بالمراكز التعليمية تدربه على حرفية الحفظ لاجتياز الامتحانات بمجاميع خيالية غير مسبوقة ولا تعنى أى نوع من التفوق الحقيقى كما وقع الطالب ضحية لمناهج تضع غمامة كثيفة على قدراته العقلية بل تصل إلى أنها توقف عقله عن مجرد التفكير ناهيك عن الإبداع. لقد آن الأوان لقرار جرىء يوقف تلك المهزلة ويقضى بإغلاق فورى لتلك المراكز التعليمية وإعادة الطالب إلى المدرسة مع إعادة تأهيلها لتمارس دورها التعليمى والحضارى وتمكينها من غرس قيم إيجابية على أن يتوازى ذلك مع تكثيف برامج إعلامية لإعادة هيبة المدرس فكما ساهمت تلك البرامج طويلا فى كسر تلك الهيبة فقد أصبح لزاما عليها إصلاح ما أفسدته خلال العقود الماضية. ثانيا: يغيب عن بالنا أن تعلم الانتماء للوطن يبدأ فى مرحلة ما قبل المدرسة، ومرورا بمراحل التعليم المختلفة حتى التخرج من الجامعة، واعتقد أن عودة الطالب إلى المدرسة ليمارس فيها أنشطته الثقافية والرياضية ومن ثم ارتباطه بها وبمعلمين يشكلون قدوة كفيل بترسيخ الانتماء للوطن وهذا يجرنا أيضا إلى الانتباه إلى تشتت أبناؤنا على نوعيات مختلفة من المدارس العامة والخاصة والدولية، بهويات وطنية وأجنبية، وهو ما لا نجده فى أى دولة تريد أن تنمو وأن تتميز ولا غرو فى أن نتائج هذا الخليط من الثقافات لم ولن يؤدى إلى تجانس بين الأجيال أو حتى داخل الجيل الواحد، وأصبحت كل مجموعة من الشباب تتعلم وتأخذ قدوتها من ثقافة مختلفة فهذه فى مدرسة أمريكية والأخرى فى مدرسة فرنسية وهكذا خلقنا جزراً منعزلة داخل المجتمع وحولنا ولاء أجيال لقيم وثقافات أجنبية فانفصلت بالتدريج عن مجتمعها. ونظرا لأن ذلك الخليط من المدارس أصبح واقعا فإن إيقاف إنشاء مدارس جديدة أو حتى جامعات بهويات أجنبية خطوة أولى يتبعها قرار جرىء آخر يقضى بتوحيد المناهج الدراسية فى نوعى التعليم الوطنى منه والأجنبى حتى يتخرج طلابنا بمفاهيم وقيم واحدة على أن نترك لتلك المدارس والجامعات تطوير توصيل المعلومة للطالب وباللغة التى تختارها بشرط أن تظل المعلومة موحدة، ناهيك عن فرض تعلم اللغة العربية والدين على نفس مستوى التعليم الحكومى. كم تكلفنا تلك القرارات؟ لا شىء ولكن مردودها يمكن أن يغير مستقبل شبابنا ومجتمعنا.