من الدراسات التربوية التي بدأت في الانتشار حديثا تلك التي تتناول ظاهرة أبناء الثقافة الثالثة، وهو مصطلح يطلق علي أي شخص قضي جزءا من نشأته، مرحلة الطفولة في الفترة بين1- 18 سنة، في ثقافة مغايرة عن الثقافة الأم، حيث يرفض الشخص الثقافة الأم (الأولي) وعدم تمكنه من الثقافة المغايرة (الثانية) فيتبني ثقافة ثالثة خاصة به مما يؤدي إلي تأثر هويته الثقافية بصورة كبيرة في المراحل العمرية التالية. تشير جميع الدراسات والبحوث الميدانية التي تم إجراؤها علي أبناء الثقافة الثالثة إلي أنهم يتميزون بكثير من الصفات المشتركة أهمها، عدم الانتماء إلي دولة محددة أو ثقافة محددة, تعرض الهوية الثقافية لكثير من المشكلات ويطلق عليهم «أطفال بلا جذور» بسبب وجود مشاعر غامضة ومتناقضة تجاه الهوية الثقافية أو الثقافة الأم وتجاه الجذور، وعادة ما تكون هويتهم مؤسسة علي أهدافهم وطموحهم الشخصي لا علي خلفيتهم الثقافية. استعنت بهذه المقدمة لسببين، الأول لإثبات صحة بحوثنا المصرية عن التعليم الدولي التي توصلت لنفس النتائج ولم يلتفت إليها أحد، والسبب الثاني هو توجه الدولة الحالي للتوسع في هذا النوع من التعليم وتبني بعض أعضاء مجلس النواب الدفاع عنه نظرا لتميز أبنائهم في هذه المدارس، بل إن الكل أصبح ينظر إلي التطوير علي أنه استيراد نظم تعليم أجنبية. والسؤال هنا هل المدارس الدولية في مصر ينطبق عليها ما ينطبق علي المدارس الدولية في شرق آسيا التي أجريت عليها البحوث السابقة؟ هل تؤثر هذه المدارس سلباً علي الهوية الثقافية والانتماء لهؤلاء الأطفال في المستقبل؟ الإجابة نعم، فالمدارس الدولية متشابهة في كل دول العالم النامي. إن الثقافة لا تدرس ولا توجد في كتاب ولكن لا توجد منظومة تعليمية بدون إطار ثقافي، فلكل نظام تعليمي ثقافته وفلسفته التي تتجلي في الأهداف التي تضعها المؤسسة كي تتحقق في تربية هؤلاء الأطفال، فالمنهج وطرق التدريس وسلوك المعلمين هي انعكاسات مباشرة للقيم الثقافية ومعتقدات المجتمع التي تجعل الأطفال يؤمنون بها وهي المسئول الأول عن الانتماء ونمط التفكير والقيم والمعتقدات التي تمثل مصادر الهوية الثقافية المشتركة، وهذا ما يفتقده الأطفال المصريون الذين يلتحقون بمدارس دولية في مرحلة التعليم الأساسي فكل ما يقدم في هذه المدارس من مناهج وأنشطة ولغة ومعلمين ذوي خلفيات ثقافية متعددة تمثل بالنسبة للطلاب بيئة ثقافية مغايرة ، فهذه المدارس لا تمثل ثقافة البيئة التي يعيشون فيها أو نظام بلادهم. ولا هي تمثل نموذجا حقيقيا لثقافة الدولة الأجنبية التي تتبني نظامها التعليمي، فهي مدرسة دولية في بيئة محلية لا تمثل أي ثقافة أصلية، فإذا كانت المدرسة مكانا لتعليم القيم والسلوك، فماذا يحدث للأطفال الذين يذهبون بخلفية ثقافية مختلفة؟ يتوحدون مع ثقافة مجتمعهم التعليمي وتستغرقهم وتبهرهم هذه الثقافات الأجنبية، وهذا يدعمه أيضا انبهار المجتمع المحلي والوالدين بثقافة المدارس الدولية علي اعتبار أنها الأعلي والأرقي وهنا يشعر الفرد بأنه لا ينتسب لجماعته الأساسية ولا يرضي عنها ولا يشعر بالفخر بها، ويرفض القيم والثقافة الخاصة بمجتمعه، وينظر نظرة دونية لكل ما هو محلي اللغة والعادات والتقاليد. ويؤدي ذلك بالتبعية إلي التأثير سلباً علي انتماء الفرد لجماعته ومن ثم المجتمع الذي يعيش فيه، ويتم تنشئة جيل ينتمي إلي ثقافة ثالثة بمباركة من الجميع، قد يتميز هذا الجيل بدرجة عالية من المرونة في أساليب التفكير والاتجاهات بما يتلاءم مع متطلبات العصر الحديث ومتغيراته، لكن هذه الكفاءات من النوعية المطلوبة للدول التي وضعت هذه المناهج حسب احتياجاتها وأهدافها بدلا من إنتاج كفاءات تتواءم مع الاحتياجات والموارد المتاحة للاقتصاد المحلي. وقد أشار تقرير اليونسكو إلي أن الأفراد الذين يتلقون تعليما لا يتضمن بيئتهم المحلية في المنهج الذي يدرسونه يؤدي ذلك إلي التمرد علي هذا الواقع والشعور بالاغتراب تجاه بيئتهم ومجتمعاتهم، ولذلك فهم لا يرون قيمة كبيرة لكثير من الأهداف والمفاهيم التي يتبناها المجتمع، خاصة عندما يتولون المناصب العليا. وقد يؤدي إلي الامتناع طواعية عن المشاركة في تغيير أو تنمية المجتمع والتعالي عن المساهمة في الإنتاج.كلمة أخيرة للمدافعين عن المدارس الدولية نظرا لتميز أبنائهم فيها، يجب أن نعلم أنه لا يجب التعامل مع قضية التعليم من منطلق تجارب شخصية أو كمشكلة تتطلب حلولا فردية، وإنما هو مستقبل وطن ذي طبيعة خاصة يحتاج إلي تربية أجيال قادرة علي تحمل الأمانة والحفاظ عليها. لمزيد من مقالات د. بثينة عبد الرؤوف رمضان