لا يمكن أن نتوقع أن يكون هناك انتماء لهذا الوطن من خلال النظام التعليمي الحالي خاصة في المدارس، فالنظام التعليمي الذي يجمع كل هذه الشهادات الأجنبية ويسمح لأبنائه بالحصول عليها لدخول الجامعات في مصر كيف أن نتوقع منه أن يؤدي إلي أي نوع من الانتماء لهذا الوطن المسكين الذي تتعرض أفضل عناصره إلي أشكال مختلفة ومتناقضة من التعليم. فإذا ما نظرنا حولنا نجد أن هناك عدة شهادات أجنبية تمثل كل واحدة منها ثقافة البلد الذي تنتمي إليه. فال Lgcse تمثل إنجلترا وال HSD تمثل أمريكا والابتيور تمثل ألمانيا وال IB تمثل أوروبا وال FB تمثل فرنسا إلخ. أصبحت المدارس الخاصة لا تمنح سوي هذه الشهادات فانهارت الثانوية العامة وأصبح لا قيمة لها إلا لمن لا يستطيع ماديا أن يلتحق بإحدي المدارس التي تمنح هذه الشهادات الأجنبية. وما يشغلني ليس انهيار الثانوية العامة أو انتهاء هيبة التعليم المصري بقدر ما يشغلني هذا الانقسام الرهيب بين الأجيال الحالية وعدم قدرتها علي التواصل ومخاطبة بعضهم البعض. فالكل ينتمي لثقافة الشهادة التي تعرض لها في مدرسته الخاصة سواء كانت فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية أو أمريكية. وقد أدي ذلك إلي تباعد رهيب وانفصال تام عن ثقافتهم المصرية ناهيك عن مستوي اللغة العربية فهما وكتابة بين هذه الأجيال الذي انهار تماما إلي درجة العدم. فأنا أتحديأن أي شاب يعيش في الخارج ولا يتحدث العربية إطلاقا أنه لن يغلب في أن يجد وظيفة محترمة في القاهرة حيث إن المعرفة باللغة العربية اليوم لم تعد ضرورة للعمل في مصر! وفي هذه الحالة كيف لنا أن نتوقع أنه في ظل هذا الانقسام وعدم التواصل أن يكون هناك هدفا قوميا يتفهمه الشعب المختلفة في هذا البلد ويتفوق عليه. كيف لنا أن نتوقع أن يكون هناك لغة حوار مشتركة بين الأجيال الجديدة فلا شيء يجمعهم بداية من المناهج وحتي الإعلام الغريب الذي لا يتعرضون فيه لأي شيد يخص ثقافتهم المصرية. غاب مفهوم الوطنية في المدارس بل وصل الأمر لعدم احترام علم البلاد ونشيدها الذي قد يحفظه بعض التلاميذ بصورة خاطئة في بعض ألفاظه. أما البعض الآخر من المنتمين للمدارس الأجنبية غير الخاضعة لوزارة التربية والتعليم فهو لا يحفظه علي الإطلاق لأنه لا يسمعه ولا يتفني به كل صباح نتيجة ولاء المدرسة لنظام بلدهم الأم وعدم رؤية حاجة للتغني بالنشيد المصري علي أرض أجنبية من وجهة نظرها!! وإن كنا نخطو خطي الدول المتقدمة ونقلدهم في كل شيء فإن نفس هذه الدول نفسها تحترم شهاداتها وثقافتها ولا تسمح لأبنائها المقيمين داخلها إلا بالحصول علي هذه الشهادات الوطنية ثم إقامة المعادلات العلمية فيما بعد إذا ما رغب أحدهم في الدراسة خارج البلاد في دولة أخري ونظام آخر، فلا نري طالبا أمريكيا يدرس النظام الفرنسي لدخول الجامعة في بلاده "أمريكا" أو العكس ولا نري طالبا يابانيا يدرس النظام الألماني لدخول الجامعة في اليابان! كنا في الماضي حينما ننتهي من العام الدراسي ونتقابل مع أصدقائنا في الإجازة الصيفية من مدارس أخري سواء كانت حكومية أو خاصة أو لغات نجد أننا تعرضنا لنفس المناهج والفارق الوحيد أن مدارس اللغات كانت تدرس مواد معينة مثل الرياضيات والعلوم باللغة الأجنبية ولكن في النهاية هو نفس المنهج، ذلك بالإضافة إلي أن منهج اللغة العربية كان إجباريا في كل المدارس الخاصة والحكومية واللغات من الصف الأول الابتدائي وحتي الثانوية العامة وكذلك مناهج التاريخ والجغرافيا. ومن هنا نجد أن الجميع كان يتحدث لغة واحدة ويري بعين واحدة وله عدو واحد ونفس الأصدقاء، كان الجميع يلتقي فكريا ومعنويا ولكن أتحدي الآن أن تأتي بطفل في الثالثة عشرة من عمره يدرس في إحدي المدارس الخاصة الأجنبية والتي ليس لها أي علاقة بالمناهج المصرية وطفل آخر من مدرسة حكومية وتحاول أن تجد أي شيء مشترك بينهما. ستجدهما يتحدثان لغتين مختلفتين تماما وأن الاتصال والتواصل بينهما شبه مستحيل. لا شيء يمكن أن يجمعهما سوي جواز السفر المصري أو التهليل المشترك من خلال تشجيع الفريق القومي لكرة القدم. ولكن بالقطع فإن فهمهما للأمور وإحساسهما بالأشياء وأحلامهما وطموحاتهما ستكون مختلفة تماما. أعتقد أن فكرة الانتماء تبدأ من هذه النقطة ألا وهي التعليم والمناهج الواحدة. إن التقدم التكنولوجي الذي أدي إلي كون العالم أصبح قرية صغيرة يزيد من خطورة عدم الانتماء فإن لم تلتفت الدولة إلي هذا النوع من الانقسام الخطير بين الأجيال الصاعدة أشك كل الشك أن إنجازاً ضخماً يمكن أن يتحقق لأن هذه الأجيال المنقسمة غير المرتبطة من قريب أو من بعيد سوف تقود البلاد في يوم من الأيام وهذا اليوم قريب وستصبح مسئولة مسئولية تامة عن هذا البلد وتقدمه وأمنه. فكيف يمكن في ظل غياب هذا التواصل أن تتحدث عن التقدم والديمقراطية والإصلاح. كيف يمكن لبلد لا يعرف نصفها نصفها الآخر أن يناقش الديمقراطية حيث إن الوعي التعليمي هو الوحيد القادر علي إذابة الفوارق أتمني أن أري قريبا وزارة تربية وتعليم قوية ومسئولة عن كل المدارس علي أرض مصر سواء كانت أجنبية أو تابعة لسفارات دول أخري. أو مدارس خاصة إلخ. أتمني أن أري وزارة قوية تفرض سيطرتها علي التعليم في مصر علي أنه الأمل الوحيد في التقدم والرخاء وذلك من خلال مناهج واحدة مدروسة ومتطورة مبنية علي مزيج من التجارب المحلية والدولية تخلق بوابة واحدة لكل المصريين المقيمين في مصر لدخول الجامعات. ومن يرد لأبنائه دراسة المناهج الأجنبية أن يبعثهم إلي الخارج للحصول علي الشهادة الأجنبية من بلد المصدر ولا أري عيبا في ذلك علي الإطلاق. وأخيرا أتمني أن أري ثانوية عامة قوية يدرسها جميع المصريين المقيمين في مصر.. هذا في رأيي هو الحل الوحيد لإعادة بناء الإنسان المصري الذي بدونه لن نصل لأي إصلاح سواء كان اقتصاديا أو سياسيا أو اجتماعيا أو أخلاقيا ويقول د. علاء الأسواني في ختام مقالاته إن "الديمقراطية هي الحل" فأنا أقول أن "التعليم هو الحل" فلا أمل في ديمقراطية بدون تعليم.