مهداء لروح الشاعرة العراقية نازك الملائكة أحمد محمد جلبي اختلفت كثيرًا جدًا عن صورتها الأصلية المنطبعة علي أغلفة الكتب والذاكرة، كانت تعرف أنني أطل من النافذة الزجاجية التي تفصل غرفة العناية المركزة عن الممرات خارج الغرف فرغم قناع التنفس الذي ألصقوه علي وجهها، التفت مرتين إلي حيث كنت أقف، اترقب الدكتور والمساعد وهما يقومان بالعناية بها، كانت هيئتي الرسمية كضابط وكاب الشرطة علي رأسي، لا يدعان مجالاً للشك في أنني أقوم بواجب رسمي تجاه شخصية شهيرة مثلها علي الأقل مشهورة بالنسبة لي، فلا أحد تقريبًا في مصر يعرفها وهكذا الشعراء في عالمنا اليوم لا يعرفهم تقريبًا أحد، ابتسمت وأنا أتذكر قائد حرس مستشفي الشرطة وهو يقول لي مزمجرًا: أرجو ألا تعتبرني جاهلاً من هي نازك الملائكة حتي يعين لها حراسة خاصة طوال وجودها هنا.. اخبرته، إلا أنه ظل غير مقتنع، أنه لا يعرفها ولم يسمع بها أنه لم يرها قط قبل اليوم كانت مريضة في العراق... بلدها محتل ينزف والتفجيرات في الشوارع والأسواق، الأدوية نفدت والأطفال تموت والنساء وهي تقاوم، روحها وقدرها أن تأتي هنا ظلت في ذاكرتي عمرًا بأكمله، أعرفها، نعم منذ الإعدادية منذ كانوا يسمونها في الرياض حيث درست سنين من عمري، عاشقة الليل التصق بها الاسم منذ الديوان الأول، حتي الآن أتذكرها ما قالت وما روت أتذكر أبيات رددتها خلف مقاعد الدراسة هناك وحين التحقت بالشرطة وحين عينت بالصعيد في مهام ليلية دامسة الظلام: هي ياليل، فتاة شهد الوادي سُراها، أقبل الليل عليها فأفاقت مقلتاها، ومضت تستقبل الوادي بألحان أساها، ليت آفاقك تدري ما تُغني شفتاها.. آه ياليل وياليتك تدري ما مُناها، حين انتهي الطبيب وغادر الغرفة التف حوله العديد من مثقفي بلدها، مثلها جاءوا إلي القاهرة، خلف زجاج النافذة الفظة خلف الباب، بادرة تزحف ساحبة ضجري المرتاب، أنها النهاية، نهاية السلم... انكسرت العيون ورغم ثقل اللهجة العراقية علي أذني، أدركت أنه لا فائدة، في أي وقت من الآن: مرت أيام لم نلتق، أنت هناك وراء مدي الأحلام، في آفق حف به المجهول، وأنا أمشي وأري، وأنام، أستنفد أيامي وأجر غدي المعسول، فيفر إلي الماضي المفقود، أيامي تأكلها الآهات متي ستعود، تنقلت بين الغرف والمرضي والزائرين، جاء كثيرون ممن سمحت لهم وظائفهم المرموقة بالحضور، لم يلتقوا بها نظروا إليها من خلف الزجاج، وقفت معهم، في كل مرة أري العيون ترصد لحظات الحياة الباقية في جسدها الرقيق الهش كنتف الثلج أصوات النهاية تفصح عن كلمات: يا مصري شعوري مزقه ما فعل الموت الصدر يعلو ويهبط، والأنفاس تتقطع، حياة حافلة.. جلست حتي انهارت الأحلام العربية في البعث من جديد، أحضرت أكثر من ديوان لها، حتي يمكن لرأسي أن يتعرف عليها، لم يكن شغوفًا مثلي بقراءة الشعر، إلا أنني لمحت في هزات رأسه.. رضا بما فعلت... ترك الدواوين بين يدي وقت الخدمة الليلية وهو يقول ربما أحببت أن تستعيد الأيام الماضية أطمئن علي أن كل شيء تمام.. وانصرف، بين الطرقات، جلست علي حواف عالمنا وعالمها المجهول قرأت قصائدها، كترانيم وأناشيد طقوس، ابنه بابل في رحاب معبدنا، تمشي ببطء وسط بهو الأساطين، جاءت مرات أمس ومرات من قبل ومرت من هذا الباب فتحتهُ أطلت علي وأنا غارق في قصائدها الشعرية: إن أكن عاشقة الليل فكأسي مشرق بالضوء والحب الوريق، وجمال الليل قد طهر نفسي بالدجي والهمس والصمت العميق، أبدًا يملأ أوهامي وحسي بمعاني الروح والشعر الرقيق، فدعوا لي ليل أحلامي ويأسي ولكم أنتم تباشير الشروق قالت لي الممرضة بعد أن خرجت من غرفتها كما لو أنها أرادت أن تبادئني الحديث: أبدلت المحاليل واطمئنيت علي كل شيء.. انتظرت حتي تري في عيني ردي ولما لم يحدث قالت: اتقرأ لها مثلي.. تنبهت أنها تحادثني وعلي عادة رجال الشرطة تفحصتها من أخمص قدميها.. ثم قلت: نعم الكي في الشعر أنت أيضًا، بل أحفظ لها ولغيرها.. ولم تشأ أن تضيع الفرصة فأخذت تقول هامسة جزءًا من قصيدة غسلا للعار: «ياجارات الحارة، يا فتيات القرية الخبزُ سنعجنه بدموع مآقينا، سنقص جدائلنا وسنسلخ أيدينا، لتظل ثيابهم بيض اللون نقية، لا بسمة، لا فرحة، لا لفتة فالمدية ترقبنا في قبضة والدنا وأخينا وغدًا من يدري أي قفار ستوارينا غسلاً للعار».. دون أن أشعر مددت لها يدي حتي أجلستها إلي جواري، ولم تزل تنشد حتي مرت ساعة عندها تنبهت إلي أنني يجب أن أقوم بجولة في المستشفي علي من هم تحت أمرتي، قمنا ومضي كل منا في طريق يخالف الآخر، قالوا أنها أفاقت.. وتعرفت علي من وما حولها.. وقالت كلمات، أشياء لذويها ومن حضر من الأطباء.. لم يكن هناك الكثيرون. حولها ممن عرفه شبابها وصباها، فلقد عمرت إلي ما بعد الثمانين.. قالت لي الممرضة أنها بدت سعيدة باسمه.. تقرأ في وجوه الآخرين شيئًا ما.. لم تتغن به أبدًا في أشعارها.. وحين رحلت وخلت الغرفة استعدنا في ختام حديثنا عنها أبيات قولها «فوداعًا من قلب عاشقة الليل وداعًا وأنت يا موت هيا، هكذا تذبل الحياة ويخبو لحن أحزانها علي شفتيا».. أغلقنا الباب ومضينا سويًا نتبادل الذكريات، رماد وشظايا الأمس.