صعود مؤشرات الأسهم اليابانية في جلسة التعاملات الصباحية    فلسطين.. طائرات الاحتلال تنفذ غارات على مخيم البريج وسط قطاع غزة    ضياء السيد: مواجهة الأهلي والترجي صعبة.. وتجديد عقد معلول "موقف معتاد"    طلاب الشهادة الإعدادية بالإسماعيلية يؤدون امتحان مادتي العلوم والتربية الفنية    الاحتلال الإسرائيلي يشن غارات كثيفة شرقي مدينة رفح الفلسطينية جنوبي قطاع غزة    مندوب فلسطين أمام مجلس الأمن: إسرائيل تمنع إيصال المساعدات إلى غزة لتجويع القطاع    فرصة للشراء.. تراجع كبير في أسعار الأضاحي اليوم الثلاثاء 21-5-2024    مندوب مصر بالأمم المتحدة: العملية العسكرية في رفح الفلسطينية مرفوضة    تفاصيل طقس الأيام المقبلة.. ظاهرة جوية تسيطر على أغلب أنحاء البلاد.. عاجل    أحمد حلمي يتغزل في منى زكي بأغنية «اظهر وبان ياقمر»    وزير الصحة: 700 مستشفى قطاع خاص تشارك في منظومة التأمين الصحي الحالي    مساعد وزير الخارجية الإماراتي: لا حلول عسكرية في غزة.. يجب وقف الحرب والبدء بحل الدولتين    مفاجأة.. شركات النقل الذكي «أوبر وكريم وديدي وإن درايفر» تعمل بدون ترخيص    الصحة: منظومة التأمين الصحي الحالية متعاقدة مع 700 مستشفى قطاع خاص    وزير الصحة: العزوف عن مهنة الطب عالميا.. وهجرة الأطباء ليست في مصر فقط    الطيران المسيّر الإسرائيلي يستهدف دراجة نارية في قضاء صور جنوب لبنان    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    اعرف موعد نتيجة الشهادة الإعدادية 2024 محافظة المنيا    محمود محيي الدين: الأوضاع غاية في التعاسة وزيادة تنافسية البلاد النامية هي الحل    أحمد حلمي يغازل منى زكي برومانسية طريفة.. ماذا فعل؟    «في حاجة مش صح».. يوسف الحسيني يعلق على تنبؤات ليلى عبداللطيف (فيديو)    هل يرحل زيزو عن الزمالك بعد التتويج بالكونفدرالية؟ حسين لبيب يجيب    «بيتهان وهو بيبطل».. تعليق ناري من نجم الزمالك السابق على انتقادات الجماهير ل شيكابالا    خط ملاحى جديد بين ميناء الإسكندرية وإيطاليا.. تفاصيل    «سلومة» يعقد اجتماعًا مع مسئولي الملاعب لسرعة الانتهاء من أعمال الصيانة    مبدعات تحت القصف.. مهرجان إيزيس: إلقاء الضوء حول تأثير الحروب على النساء من خلال الفن    مصطفى أبوزيد: احتياطات مصر النقدية وصلت إلى أكثر 45 مليار دولار فى 2018    7 مسلسلات وفيلم حصيلة أعمال سمير غانم مع ابنتيه دنيا وايمي    سائق توك توك ينهي حياة صاحب شركة بسبب حادث تصادم في الهرم    الأنبا إرميا يرد على «تكوين»: نرفض إنكار السنة المشرفة    الاحتلال يعتقل الأسيرة المحررة "ياسمين تيسير" من قرية الجلمة شمال جنين    التصريح بدفن جثمان طفل صدمته سيارة نقل بكرداسة    وكيل "صحة مطروح" يزور وحدة فوكة ويحيل المتغيبين للتحقيق    بعد ارتفاعها ل800 جنيها.. أسعار استمارة بطاقة الرقم القومي «عادي ومستعجل» الجديدة    وزير الصحة: 5600 مولود يوميًا ونحو 4 مواليد كل دقيقة في مصر    "رياضة النواب" تطالب بحل إشكالية عدم إشهار22 نادي شعبي بالإسكندرية    ميدو: غيرت مستقبل حسام غالي من آرسنال ل توتنهام    وزير الرياضة يهنئ منتخب مصر بتأهله إلي دور الثمانية بالبطولة الأفريقية للساق الواحدة    موعد عيد الأضحى 2024 في مصر ورسائل قصيرة للتهنئة عند قدومه    دعاء في جوف الليل: اللهم ابسط علينا من بركتك ورحمتك وجميل رزقك    طبيب الزمالك: إصابة أحمد حمدي بالرباط الصليبي؟ أمر وارد    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي بقصد النصب على المواطنين في الإسكندرية    الدوري الإيطالي.. حفل أهداف في تعادل بولونيا ويوفنتوس    إجازة كبيرة رسمية.. عدد أيام عطلة عيد الأضحى 2024 ووقفة عرفات لموظفين القطاع العام والخاص    كيف أثرت الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي؟.. مصطفى أبوزيد يجيب    إيران تحدد موعد انتخاب خليفة «رئيسي»    أطعمة ومشروبات ينصح بتناولها خلال ارتفاع درجات الحرارة    على باب الوزير    «حماني من إصابة قوية».. دونجا يوجه رسالة شكر ل لاعب نهضة بركان    حظك اليوم برج الميزان الثلاثاء 21-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    سعر الدولار والريال السعودي مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية اليوم الثلاثاء 21 مايو 2024    بدون فرن.. طريقة تحضير كيكة الطاسة    وزير العدل: رحيل فتحي سرور خسارة فادحة لمصر (فيديو وصور)    مدبولي: الجامعات التكنولوجية تربط الدراسة بالتدريب والتأهيل وفق متطلبات سوق العمل    تأكيداً لانفرادنا.. «الشئون الإسلامية» تقرر إعداد موسوعة مصرية للسنة    الإفتاء توضح حكم سرقة الأفكار والإبداع    «دار الإفتاء» توضح ما يقال من الذكر والدعاء في شدة الحرّ    وكيل وزارة بالأوقاف يكشف فضل صيام التسع الأوائل من ذى الحجة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسبوع تحت الأرض
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 04 - 2011

كالعادة، قرب الفجر، وبينما أسترخي علي مقعد بجانب زوجتي أمام التليفزيون الذي يعرض فيلم »أيام السادات« علي قناته الأولي، ربما الثانية لا أذكر، وكلما ينتهي مشهد أستعرض أمامه معلوماتي السياسية والتاريخية، وهي مستسلمة للصمت بملامح غاضبة تمهيدا للثورة علي زوج ثرثار لا يمكّنها من متابعة العمل السينمائي الرائع في هدوء، والفرجة علي نجمها المفضل أحمد زكي.
جرس الباب المتواصل لن يتيح لنا مواصلة الفيلم الذي أوشك علي الانتهاء، وقلقي علي والدي المريض سيجعلني أظن أنه الخبر الذي لا يحتمل، فأخرج بملابسي الداخلية إلي الشرفة لأستطلع الأمر.
يبدو المشهد الواقعي الذي رأيته أشبه بتقليد للقطة سينمائية مكررة: ضابط بملابس مدنية، علي يمينه ويساره ضابطان بالزي الأسود وحولهما عشرات الجنود مدججين بالأسلحة والجميع يستعد للاقتحام.
- انت عبد الصبور؟
- أيوه!
صوب الجنود بنادقهم نحو هدف وحيد هو "أنا". شد أجزاء الرشاشات صنع منه سكون القرية أمام بيتي نوعا من صدي متناغم سرب إليّ هدوءا ورسم علي وجهي ابتسامة بلهاء وأنا أتخيل نفسي أمارس دور البطولة في فيلم رعب. شعرت لأول مرة بخطورتي علي النظام، وهو ما جعلني أتمسك بوجود شبه كربوني بين ما أشاهده وطريقة القبض علي السادات في الفيلم الذي لا أظن أن زوجتي تتابعه الآن باهتمام، أفتخرت بتاريخ سياسي يخصني يتم تدشينه، ويصنع مني نموذجا للسادات مرة واحدة. تمنيت أن يكون الوقت جهارا نهارا لتشاهد قريتي بطلها وينعم أبناء عمي بتسجيل اللحظة التاريخية. ولو أنني أجيد الكذب لتحدثت عن بطولات وهمية لنضالي، يمكنني أن أقرن السبب بالنتيجة عندما أصف كتيبة الأمن المركزي التي أتت لمحاصرة بيتي والإمساك بي، تمنيت لو أنني كنت حقا "عضو في خلية تهدف إلي قلب نظام الحكم". والحقيقة أنني لم أفعل شيئا، وكراهيتي للنظام لم أفصح عنها إلا من خلال أبطال قصص نشرتها ولم يلتفت إليها أحد.
اتساع ابتسامتي لم يكن الغرض منها إغاظة الضابط الذي يقف في المنتصف بقميصه الوردي، مما جعله يصرخ في وجهي آمرا أن أفتح الباب..
كانت الابتسامة لشخص آخر _ بالمناسبة هو أنا أيضا- يقف خارج المشهد يسخر من شاب يطل من الشرفة فتظهر فانلته الحمالات نحولته الواضحة للدرجة التي قد يظن من يراه أنه نموزج لمواطن يعاني من أنيميا حادة سببها النقص في كمية الطعام وليس نوعه، وكان يكفي للقبض عليه "شخطة" من أمين شرطة، بدلا من التصرف معه بشكل كاريكاتيري علي هذا النحو.
عدت لزوجة يقتلها الفضول، بزهو، وأنا أمارس هوايتي في عرض الخبر بشكل درامي، وصف الوجوه المتجهمة للضباط والنسبة التقريبية لأعداد الجنود والتي كان لابد من تضخيمها بالتأكيد. هل كنت غير مقنع لدرجة أن زوجتي اتهمتني بالكذب وأشاحت بوجهها لتتابع الفيلم؟
نصفني إعادة الضغط علي الجرس و"رزع" الباب بعنف، مما جعلها تشك في حكمها السابق، وتلاحقني بالأسئلة التي لم استطع الإجابة عن واحد منها لانشغالي بارتداء "الجلابية" ثم الهرولة علي السلم لأفتح الباب للضيوف.
-المكتبة فين؟
سؤال إجباري طبعا، خرج كطلقة مدفع من فوهة فم صاحب القميص الوردي، لكني كنت مستلذا بالإجابة عنه، خاصة أنا أعطيه نبذه تاريخية كمقدمة عن كوني كاتبا للقصة القصيرة حصل علي عدة جوائز وأنشر مقالاتي في الصحف.. نظرة الضيق التي أراها في عينيه ستجعلني أكف عن الاسترسال فأشير إلي حجرة المكتب مع تعقيب بسيط أنه سيصادف الكتب في كل مكان بالبيت..
هي أيه حكاية الأدب معايا النهارده؟
يقولها السيد الضابط وهو يلقي بأسماء مهمة موجودة - تتصدر أغلفة الكتب - علي الأرض بحثا عن شئ لم يصل إليه.
لا أعرف كيف انتشر الإخوة الأمناء والعساكر في أرجاء البيت فقد وجدتهم في في الممرات والغرف، وكلما أمسك الضابط بكتاب وقرأ محتويات الغلاف يلقيه بعيدا فأحس بتوجع كاتبه.
يجب أن أضيف بأن الضابط كان مؤدبا، عندما سمح لي بالصعود بمفردي لأمهد لزوجتي أنهم سيفتشون حجرة النوم فتتخذ جانبا.
نشط العساكر في فحص محتويات الغرفة وبعثرة أشيائها، وزوجتي لا تصرخ مما يحدث من خطر يهدد بالفوضي الكاملة في البيت، وهي التي كانت تزعق في وجهي للدرجة التي تجعل جيراننا يسمعون صياحها فيقفون تحت البيت يسترقون السمع، إذا فعلت شيئا صغيرا أفسدت به ترتيبها للمنزل مثل نقل وسادة، أو وضع طبق في غير مكانه.
لم يجدوا شيئا، طلب كبيرهم أن أذهب معه، ولم تفلح معرفتي بعم عبد العاطي المخبر الذي يسكن قرية مجاورة في أن يخبرني عن الجهة التي سأمضي إليها، أو المدة التي سأقضيها. وبدأ القلق يسيطر علي زوجتي الحامل في شهرها الخامس، مما جعلني الاحظ الرعشة التي سيطرت عليها.
قبل أن أغادر البيت كانت زوجتي تستأذن مني في أن تتوجه إلي منزل والدي الذي يبتعد خطوات من بيتي حتي لا تكون وحيدة، فرجوتها أن تظل هكذا حتي الصباح ولا توقظ رجلا تخطي الثمانين من عمره، فتخبره بأن ابنه في صحبة أمن الدولة وهو الأمر الذي قد يعيد إليه الإصابة بالجلطة التي حمدنا الله أنه شفي منها. آلمني ازدياد الرعشة في جسدها، وخفت علي الجنين الذي انتظرناه أن يجهض..
لا بد أن الشخص الآخر _ الذي هو أنا بالمناسبة- رآني ضئيل الحجم وأنا أتوسط اثنين من الجنود فارعي الطول وهما يسيران بي.
وجدت نفسي داخل صندوق سيارة الشرطة، بجانب الدكتور خليفة ( حصل علي درجة الدكتوراه في الأدب والنقد لكنه كان يعمل مدرسا بمعهد ساحل درواو الابتدائي الأزهري).. وهو ما جعلني أدرك ضائقة الضابط من الكتب الأدبية. لم يمر وقت طويل قبل أن يأتون بالشيخ عبد الجليل بلحيته الكثيفة (مدرس عربي) ويحمل الجنود في الخلفية أجولة مملؤة بالكتب الدينية والأشرطة..
ظهرت حدة عبد الجليل معي فاستنكر أن أكون رفيقا له في الرحلة بوصفي شيوعيا كما زعم.. وصمت قبل أن يكشف للدكتور _ ابن خالته- أنني صحفي معارض بدليل نشر صورة زفافي في جريدة الأسبوع!
انتقلت بنا السيارة إلي مركز شرطة نقادة، لأفاجأ بثلاثة من أبناء عمي في انتظاري: الشقيقان محمد وزكريا عبد الجواد (الأول إمام مسجد والثاني حاصل علي بكالوريوس تجارة استثمر دراسته في إدارة محل البقالة للأسرة) وعاطف يونس (محاسب)، فضلا عن عبد المعز محمود زوج أختي الذي استنجدت به زوجتي ليستفسر عما حدث لي فكانت طامته الكبري في لحيته التي جعلت الضباط يضمونه للقائمة.
ومن نقطة التجميع، تم اقتيادنا إلي سيارة الترحيلات المستطيلة، وقبل أن يغلق الباب ويظلم المشهد، كان أحد الضباط يوصي أمين الشرطة الذي سيجلس بيننا بأن يعاملنا معاملة طيبة لأننا "اولاد ناس" كما قال.
في حجرة الاستقبال داخل أمن الدولة بقنا كنا صفا واحدا أمام أمين الشرطة الذي طلب اثبات الشخصية. الدكتور خليفة تخطي الدور فتقدم ليؤكد أنه أمين تنظيم الحزب الوطني في المركز، وأعطاه الكارنيه الذي يثبت أنه حاصل علي الدكتوراه وحين نهره الأمين تراجع للخلف.. وأمر بأن يتم اقتيادنا إلي "تحت"
صرخ الشيخ عبد الجليل: بلاش تحت، فملأنا الرعب وسألناه في نفس واحد: هو فيه أيه تحت يا شيخ؟
قال: معرفش بس كل مرة بيحطوني في الأودة دي، وأشار إلي غرفة خلفية!
وقبل أن نبدأ رحلة "تحت" شكلوا منا طابورا وهم يضعون عصابات علي أعيننا ليتم اقتيادنا إلي جهة مجهولة، نمشي لمسافة، ثم ننزل علي سلالم.. ثم نسير مرة أخري، وسلالم جديدة، دون أن نسمع شيئا سوي صوت أنفاسنا المرعوبة واصطكاك أحذيتنا علي البلاط.
توقف بنا العساكر ليتم فك العصابات ونجد أنفسنا في ممر ضيق مظلم ، تجاهد فيه لمبة صغيرة معلقة في منتصف السقف من إثبات وجودها. شيئا فشيئا نتبين وجود زنازين بأبواب حديدية ضخمة يتم فتح إحداها فيلقي بالشيخ عبد الجليل ويتم اغلاق الباب بعنف..
قلت في نفسي: معقولة.. عبد الجليل، سيوضع بمفرده في تلك الغرفة.. وقبل أن أشفق عليه وجدت أمين الشرطة يأخذ واحدا واحدا ويضعه في غرفة بمفرده، وكنت آخر الصف خلف الدكتور الذي رفض أن يوضع في سجن انفرادي قال إنه يعاني من فوبيا الأماكن المظلمة، وقلبه الضعيف لن يحتمل، رجاهم أن يقيم أحدهم معه في الحجره، فكنت أنا.
عندما فتح باب زنزانتنا، وضعت كفي علي ما ظننته حائطا، لأجد يدي تهوي في فراغ، وكلما حاولت العثور علي حائط أفشل في ذلك، مما جعلني استخرج علبة الكبريت من جيبي لأتعرف علي ملامح الحجرة، طلبت من الأمين أن أشعل عودا من الثقاب وقبل أن يرفض كنت أشعلته، لأجد نفسي في حجرة رمادية تشبه في الحجم فصلا مدرسيا، تخلو من أي أثاث باستثناء كراتين مفرودة علي الأرض.
اغتصب مني الأمين الكبريت قبل أن يغلق الباب، وأسمع صوته في الخارج وهو يأمر زملاء السجن بأن يسلموا له "كبريتهم وولاعاتهم".. اقترب مني الدكتور خليفة وهو يهمس في أذني بأنه يمتلك علبة كبريت وطلب مني ألا أفتن عليه لأننا سنحتاجها سويا بوصفنا ندخن، طمأنته، ووعدته بكتمان السر لنفاجأ بالأمين وهو يطرق الباب ويتساءل من جديد عن كبريت موجود في حوزتنا فنسلمه، جاوبناه بالنفي، والدكتور ارتبك فخشخشت العلبة بين يديه، ليفتح الأمين الباب من جديد قائلا: اطلعولي!
كان مصباح الحجرة كافيا لإبراز عضلات الأمين من "التي شرت" وهو ما جعلنا نعرف أنه نفس الرجل الضخم الذي دون بياناتنا، ملامح وجهه كانت جادة في الانتقام أو هكذا تخيلتها، ذكرته أنني سلمت له العلبة الخاصة بي، وأضفت بأنني غير مسئول عن ظهور واحدة أخري، مما جعل الدكتور هو المتهم الوحيد!
بعد أن انتزع الأمين منه أعواد الثقاب سدد له لكمة قوية في صدره جعلته يخر علي ركبتيه يتوجع، سحبه من ياقة جلبابه ليعاود انتصابه ويسدد له اللكمة الثانية التي جعلت الدكتور يعتذر، ولكن اللكمة الثالثة أثبتت لي أنه لم يقبل اعتذاره.
ولم يبك الدكتور خليفة إلا بعد أن انصرف الأمين ، وهو ينعي حاله، ويتساءل عن سر وجوده هنا.
كانت التحقيقات انفرادية، جاء مساء اليوم التالي الذي تم فيه وضع العصابة من جديد علي أعيننا، تم اقتيادي في ممرات والصعود والهبوط إلي حيث لا أدري، وكان الرجل الذي يمسك بعضدي يسأل عن أرقام معينة فيقول مثلا : الاقي 65 فين، ويرد عليه الآخر عند 77. وهو ما جعلني أتبين أن ضباط أمن الدولة استبدلوا اسمائهم بأرقام الحجرات حتي لا نتمكن من التعرف علي شخصياتهم خوفا من استهدافهم فيما بعد.
ظننت صوت التكييف الهادر سلك كهربائي يتم تلميسه قبل أن يتم تعذيبي به، وسرعان ما شعرت بدرجة الحرارة المنخفضة التي لطفت من حالة الجو السئ، فضلا عن رائحة البخور التي تعبق الحجرة. سألني الضابط عن التزامي الديني -فخجلت من أن أقول له إنني لا أصلي- والكتب الدينية التي أقرأها، وكثف أسئلته علي علاقتي بالشيخ عبد الجليل.
لاحظت أنهم ينفذون لنا كل طلباتنا الخاصة بالطعام بدقة، الأنواع التي نختارها ومن نفس أسماء المطاعم التي نحددها.. أما الحمام الذي كان يسمح لنا بالتردد عليه مرتين في اليوم فكان أيضا بباب حديدي يشبه أبواب الزنازين، وتعجبت من وجود سخان بداخله..
كنا نظل في الزنازين طيلة اليوم، لا نفعل شيئا علي الإطلاق سوي الانتظار، أما الجرائد فكانت من قائمة الممنوعات، وهو ما جعلنا لا نعرف شيئا عما يحدث في الخارج، والأغرب هي المعاملة الطيبة من الأمناء الذين تصدقوا علينا بنيران ولاعاتهم لندخن، والسماح بتناول الشاي، خارج الزنازين ولكن بشرط ألا يتحدث أحدنا إلي الأخر فلا نسمع إلا صوت الرشفات.
كان الدكتور خليفة أكثرنا ارتباكا، ويتخيل أشياء يصورها لي طيلة اليوم مثل ترحيل بات وشيكا إلي سجن الخليفة، أو أحد المعتقلات، وهو ما كان يجعلني أترقب اللحظات التي تتمخض عن مفاجأة جديدة تضاف إلي دراما الأحداث.اغتاظ الدكتور حين عرف أنني أنظر إلي الوضع علي أنه موضوع للكتابة، ولا أشعر بالخطر القادم.
سألت أحد الأمناء عن سر المعاملة الطيبة، فضحك وهو يخبرني بأننا رهن التحري إلي أن يثبت علينا شئ، لتبدأ بعدها معاملة من نوع آخر. استفسرت عنها بفضول، فكان سعيدا وهو يشرح لي يومين كاملين أقضيها في البداية داخل غرفة مغلقة بلا سقف موجودة علي سطح المبني، وقبل أن يتم إيداعي بداخلها لا بد من نزع ملابسي بالكامل، فأظل 48 ساعة علي وحيدا وعاريا في حجرة بلا غطاء ممنوع من الطعام والشراب حتي أعترف!
ازداد فضولي لأعرف بقية وسائل التعذيب فأخبرني بما لم يدهشني من أدوات تقليدية سمعت عنها كثيرا مثل العروسة والجلد ونزع الأظافر والاعتداء الجنسي.
قلت للأمين أنني سأوفر عليكم كل هذه الرحلة الطويلة لأنني ببساطة سأعترف.
سألني بلؤم: تعترف بماذا؟..قلت له بأي شئ يطلب مني وسأوقع علي ورقة بيضاء ليتم فيها تدوين الاعترافات التي تروق لكم، بشرط عدم الإعتداء الجسدي علي بأي طريقة.. فضحك الأمين ظنا منه أنني أمزح!
كنا نتخاطب عن طريق طرق الجدران التي تفصل بيننا، وكان جاري زكريا، فكنت أعرف منه أخباره وأخبار الحجرة المجاورة التي يحصل عليها بدوره بنفس الطريقة، وهكذا علمت بالإفراج عن زوج أختي عبد المعز بعد يومين من وجودنا..
أسبوع مضي قبل أن نمتثل للتحقيق مرة أخري، جاء دوري بعد الدكتور، الذي فوجئت به متهللا وهو يخبرني بأمر الإفراج عنه، مرت الربع ساعة بعد خروجه كدهر، ليتم اصطحابي للتحقيق ويأمر بالإفراج عني علي أن أعود مرة أخري إلي المكان في الواحدة من ظهر السبت المقبل أي بعد أسبوع من خروجي.
تم نزع العصابة عن عيني فلم أر شيئا، كان الظلام يغرق المكان وطلبت من أحدهم أن يوصلني إلي خارج المبني لأن النور مقطوع (هكذا كنت أظن) ولكن الرجل نفي الحقيقة التي أشاهدها، سألني عن عدد الأيام التي قضيتها في السجن فأخبرته، فقال لي أنني كنت موجودا في سجن تحت الأرض لا تصل إليه شمس، وهو ما سيجعلني لا اتكيف بسهولة مع الضوء ووافق علي اصطحابي إلي الخارج بشرط ألا يتقدم ولو خطوة معي إلي ابعد من البوابة.
وأمام البوابة رأيت كتلا من الظلام، تتزاحم أمام عيني وكائنات تسبح في السواد، ونوبة هستيرية من الضحك انتابتني وزكريا ينادي علي وأنا لا أستطيع تحديد مكانه، فاستعنا ببوصلة الصوت ليلتقي كل منا بالآخر. كان لا بد أن نذهب في البداية إلي الحلاق لنهذب شعر الرأس الذي لم يذق طعم أسنان المشط أسبوعا كاملا فلا نبدوا لمن يقابلنا كأننا خارجين للتو من القبور.
اتصلت بصديقي السيناريست أحمد عبد الرحيم ( لم يخرج له عمل للنور بعد، رغم اشادة كل المخرجين الذين ذهب إليهم بأعماله ويبحث منذ 13 عاما، عمن يتوسط له لإقناع أي منتج يقبل منه ولو فيلم واحد من عشرات الأفلام التي كتبها)، وفي منزله اكتشفت أنني فقدت الكثير من وزني خاصة أننا كنا في نفس الحجم تقريبا، مما كان يسمح لنا بتبادل البنطلونات والقمصان، لكن بطلونه هذه المرة كان واسعا جدا عليّ وهو ما جعلني أداري العيب بإسدال القميص من الخارج، رغم أنني كنت متعودا علي حشوه داخل البنطلون..
لمدة أربعة أيام وأنا أشعر بأن ضوء الشمس تضاعف، ولا أقوي علي تفتيح عيني فيه، وهو ما جعلني ألجأ إلي الأماكن المغلقة حتي لا أرهق بصري، وفي البيت عرفت من زوجتي أنها كانت علي وشك الإجهاض لكن الله سلم.
صباح السبت اجتمعنا سويا لنستقل سيارة واحدة إلي قنا، أما سبب الزيارة هذه المرة فكان بغرض أخذ بصماتنا أصبع اصبع من كل يد ثم الكف كاملة.. وتم احضار مقعد نتبادل الجلوس عليه ليتم تصويرنا من مختلف الجهات ونحن نمسك بين أيدينا الرقم كما كان يفعل اللمبي في فيلم "اللي بالي باللك".
ومن يومها وحتي قيام الثورة كان يتم استدعاؤنا، في البداية بشكل منتظم، زيارة كل أسبوع، ثم مرة كل شهر، وأخيرا كلما يطلب منا، ولم يكن يتم التحقيق معنا في أي شئ كان مجرد أمر روتيني يثبت خضوعنا التام لسيدة مصر الاولي أمن الدولة، ويعرف السادة الضباط أننا تحت السيطرة ونقبل حبسنا في الوقت الذي يقررونه، وحينما بدأت أقيم في القاهرة بشكل دائم منذ ثلاث سنوات، كان يتم الاتصال بي للاطمئنان علي من حين لآخر، مع التأكيد علي أهمية تسليم نفسي إلي مبني أمن الدولة عند زيارتي لأسرتي في الصعيد.
اتهام ظل قائما لمدة ثماني سنوات رغم أنه لم يثبت علينا شئ، وإلا ما كانوا تركونا قبل أن نجرب مختلف وسائل التعذيب الجديدة والتقليدية.
أما ما يجعلني إلي الأبد أكره أمن الدولة وأطالب بمحاكمة كل من عمل فيها هو هذه الرعشة التي انتقلت من زوجتي إلي الجنين، ليصبح ابني »عمار« مصابا بها، خاصة حين أوقظه من النوم فألعن النظام كل صباح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.