اعرف كيفية الحصول على نتيجة كلية الشرطة لعام 2025/2026    غدا.. المصريون بالخارج يدلون بأصواتهم فى جولة الإعادة للمرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب 2025    لماذا لم يعلن "يمامة" ترشحه على رئاسة حزب الوفد حتى الآن؟    تداول 13 ألف طن و957 شاحنة بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    استمرار لقاءات رئيس شركة الصرف الصحي للاستماع لشكاوى العاملين ومقترحاتهم    وزير المالية للمديريات: «خليكم فاكرين دايما إحنا بنشتغل عند الناس وهدفنا خدمتهم»    «التموين» تؤكد توافر كميات كبيرة من زيوت الطعام بالأسواق والمنظومة التموينية    سعر الدولار مقابل الجنيه فى بداية تعاملات اليوم    تفاصيل اجتماع مجلس الأعمال المصري الأوكراني    وزير المالية: خليكم فاكرين دايمًا.. إحنا بنشتغل عند الناس وهدفنا خدمتهم    قافلة «زاد العزة» ال93 تدخل إلى الفلسطينيين في قطاع غزة    جوتيريش يحذر: استهداف قوات حفظ السلام في جنوب كردفان قد يُصنَّف جريمة حرب    الشرطة الأمريكية تلاحق مسلحا قتل شخصين وأصاب 9 آخرين في جامعة براون    كمبوديا تبدي استعدادها للمحادثات مع تايلاند لإنهاء القتال    ساسولو بوابة ميلان للابتعاد بصدارة الدوري الإيطالي    سداسي التحكيم المصري يطير إلى المغرب للمشاركة في أمم إفريقيا    محافظ الوادي الجديد يستقبل وزير الرياضة لافتتاح عدد من المشروعات    الاتحاد الدولي يختار عثمان ديمبيلي أفضل لاعب في العالم 2025    لماذا يرفض الأهلي إتمام صفقة انتقال حمزة عبدالكريم لبرشلونة ؟ اعرف الأسباب    الرياضية: جناح النصر لا يحتاج جراحة    رفع 41 سيارة ودراجة نارية متهالكة من الميادين    عملت نسخة من المفتاح، تطور جديد في اتهام خادمة بسرقة مشغولات ذهبية من شقة    السيطرة على حريق نشب بسيارة نقل ثقيل أعلى الطريق الدائري ببهتيم القليوبية    يسري نصر الله: أحمد السعدني أفضل ممثل في 2025    تعرف على إيرادات فيلم "الست" ل منى زكي ليلة أمس    فجر السعيد: عبلة كامل رمز من رموز القوة الناعمة المصرية    مجدي شاكر: اكتشاف نحو 255 تمثالًا في منطقة صان الحجر    «الصحة»: تقديم 19.2 مليون خدمة طبية بالمنشآت الطبية في محافظة القاهرة    فيروس أنفلونزا الخنازير يهدد المدارس| إجراءات هامة وعاجلة للوقاية منه    اليوم.. انطلاق اختبارات التقييم لطلاب الصفين الأول والثاني الابتدائي    محافظة القاهرة تخصص مكانًا لإيواء الكلاب الضالة    وزير الري يتابع موقف مشروعات الخطة الاستثمارية للعام المالى الحالى 2025 / 2026    وزيرا خارجية مصر ومالي يبحثان تطورات الأوضاع في منطقة الساحل    زلزال بقوة 5 درجات يضرب مدينة «كراتشي» الباكستانية    77 عامًا وحقوق الإنسان لم تعرف فلسطين والدعم المصرى مستمر    لماذا تسخرون من السقا؟!    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 14ديسمبر 2025 فى المنيا    الداخلية تنفى وجود تجمعات بعدد من المحافظات.. وتؤكد: فبركة إخوانية بصور قديمة    اليوم.. محاكمة الشيخ سمير مصطفى بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية    هام من الصحة بشأن حقيقة وجود فيروس ماربورغ في مصر.. تفاصيل    الصحة: تقديم 19.2 مليون خدمة طبية بالمنشآت الطبية في محافظة القاهرة    بمشاركة اشرف عبد الباقي.. ختام مهرجان المنيا الدولي للمسرح في دورته الثالثة (صور)    اليوم..«الداخلية» تعلن نتيجة دفعة جديدة لكلية الشرطة    إعلام إسرائيلى : إيطاليا أعربت عن استعدادها للمشاركة فى قوة الاستقرار بغزة    أسعار المأكولات البحرية والجمبري اليوم الاحد 14-12-2025 في محافظة قنا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 14-12-2025 في محافظة قنا    مصرع حداد سقطت عليه رأس سيارة نقل بالدقهلية    الشرطة الأمريكية تفتش جامعة براون بعد مقتل 2 وإصابة 8 في إطلاق نار    رئيس الإنجيلية يبدأ جولته الرعوية بمحافظة المنيا    فيلم فلسطين 36 يفتتح الدورة 36 لأيام قرطاج السينمائية بحضور مخرجته وكامل الباشا    نائب وزير الصحة: حياة كريمة كانت السبب الأكبر في إعلان مصر خالية من التراكوما المسبب للعمى    المستشار عبد الرحمن الشهاوي يخوض سباق انتخابات نادي قضاة مصر    الكتب المخفضة تستقطب زوار معرض جدة للكتاب 2025    آرسنال ينتزع فوزًا مثيرًا من وولفرهامبتون ويواصل الابتعاد في الصدارة    توروب: الشناوي وشوبير؟ لست هنا لأصنف الحراس.. وهذا موقفي من عبد الكريم وديانج    يسري جبر يوضح حقيقة العلاج بالقرآن وتحديد عددٍ للقراءة    مواقيت الصلاه اليوم السبت 13ديسمبر 2025 فى المنيا    محافظ الغربية يهنئ أبناء المحافظة الفائزين في الدورة الثانية والثلاثين للمسابقة العالمية للقرآن الكريم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسبوع تحت الأرض
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 04 - 2011

كالعادة، قرب الفجر، وبينما أسترخي علي مقعد بجانب زوجتي أمام التليفزيون الذي يعرض فيلم »أيام السادات« علي قناته الأولي، ربما الثانية لا أذكر، وكلما ينتهي مشهد أستعرض أمامه معلوماتي السياسية والتاريخية، وهي مستسلمة للصمت بملامح غاضبة تمهيدا للثورة علي زوج ثرثار لا يمكّنها من متابعة العمل السينمائي الرائع في هدوء، والفرجة علي نجمها المفضل أحمد زكي.
جرس الباب المتواصل لن يتيح لنا مواصلة الفيلم الذي أوشك علي الانتهاء، وقلقي علي والدي المريض سيجعلني أظن أنه الخبر الذي لا يحتمل، فأخرج بملابسي الداخلية إلي الشرفة لأستطلع الأمر.
يبدو المشهد الواقعي الذي رأيته أشبه بتقليد للقطة سينمائية مكررة: ضابط بملابس مدنية، علي يمينه ويساره ضابطان بالزي الأسود وحولهما عشرات الجنود مدججين بالأسلحة والجميع يستعد للاقتحام.
- انت عبد الصبور؟
- أيوه!
صوب الجنود بنادقهم نحو هدف وحيد هو "أنا". شد أجزاء الرشاشات صنع منه سكون القرية أمام بيتي نوعا من صدي متناغم سرب إليّ هدوءا ورسم علي وجهي ابتسامة بلهاء وأنا أتخيل نفسي أمارس دور البطولة في فيلم رعب. شعرت لأول مرة بخطورتي علي النظام، وهو ما جعلني أتمسك بوجود شبه كربوني بين ما أشاهده وطريقة القبض علي السادات في الفيلم الذي لا أظن أن زوجتي تتابعه الآن باهتمام، أفتخرت بتاريخ سياسي يخصني يتم تدشينه، ويصنع مني نموذجا للسادات مرة واحدة. تمنيت أن يكون الوقت جهارا نهارا لتشاهد قريتي بطلها وينعم أبناء عمي بتسجيل اللحظة التاريخية. ولو أنني أجيد الكذب لتحدثت عن بطولات وهمية لنضالي، يمكنني أن أقرن السبب بالنتيجة عندما أصف كتيبة الأمن المركزي التي أتت لمحاصرة بيتي والإمساك بي، تمنيت لو أنني كنت حقا "عضو في خلية تهدف إلي قلب نظام الحكم". والحقيقة أنني لم أفعل شيئا، وكراهيتي للنظام لم أفصح عنها إلا من خلال أبطال قصص نشرتها ولم يلتفت إليها أحد.
اتساع ابتسامتي لم يكن الغرض منها إغاظة الضابط الذي يقف في المنتصف بقميصه الوردي، مما جعله يصرخ في وجهي آمرا أن أفتح الباب..
كانت الابتسامة لشخص آخر _ بالمناسبة هو أنا أيضا- يقف خارج المشهد يسخر من شاب يطل من الشرفة فتظهر فانلته الحمالات نحولته الواضحة للدرجة التي قد يظن من يراه أنه نموزج لمواطن يعاني من أنيميا حادة سببها النقص في كمية الطعام وليس نوعه، وكان يكفي للقبض عليه "شخطة" من أمين شرطة، بدلا من التصرف معه بشكل كاريكاتيري علي هذا النحو.
عدت لزوجة يقتلها الفضول، بزهو، وأنا أمارس هوايتي في عرض الخبر بشكل درامي، وصف الوجوه المتجهمة للضباط والنسبة التقريبية لأعداد الجنود والتي كان لابد من تضخيمها بالتأكيد. هل كنت غير مقنع لدرجة أن زوجتي اتهمتني بالكذب وأشاحت بوجهها لتتابع الفيلم؟
نصفني إعادة الضغط علي الجرس و"رزع" الباب بعنف، مما جعلها تشك في حكمها السابق، وتلاحقني بالأسئلة التي لم استطع الإجابة عن واحد منها لانشغالي بارتداء "الجلابية" ثم الهرولة علي السلم لأفتح الباب للضيوف.
-المكتبة فين؟
سؤال إجباري طبعا، خرج كطلقة مدفع من فوهة فم صاحب القميص الوردي، لكني كنت مستلذا بالإجابة عنه، خاصة أنا أعطيه نبذه تاريخية كمقدمة عن كوني كاتبا للقصة القصيرة حصل علي عدة جوائز وأنشر مقالاتي في الصحف.. نظرة الضيق التي أراها في عينيه ستجعلني أكف عن الاسترسال فأشير إلي حجرة المكتب مع تعقيب بسيط أنه سيصادف الكتب في كل مكان بالبيت..
هي أيه حكاية الأدب معايا النهارده؟
يقولها السيد الضابط وهو يلقي بأسماء مهمة موجودة - تتصدر أغلفة الكتب - علي الأرض بحثا عن شئ لم يصل إليه.
لا أعرف كيف انتشر الإخوة الأمناء والعساكر في أرجاء البيت فقد وجدتهم في في الممرات والغرف، وكلما أمسك الضابط بكتاب وقرأ محتويات الغلاف يلقيه بعيدا فأحس بتوجع كاتبه.
يجب أن أضيف بأن الضابط كان مؤدبا، عندما سمح لي بالصعود بمفردي لأمهد لزوجتي أنهم سيفتشون حجرة النوم فتتخذ جانبا.
نشط العساكر في فحص محتويات الغرفة وبعثرة أشيائها، وزوجتي لا تصرخ مما يحدث من خطر يهدد بالفوضي الكاملة في البيت، وهي التي كانت تزعق في وجهي للدرجة التي تجعل جيراننا يسمعون صياحها فيقفون تحت البيت يسترقون السمع، إذا فعلت شيئا صغيرا أفسدت به ترتيبها للمنزل مثل نقل وسادة، أو وضع طبق في غير مكانه.
لم يجدوا شيئا، طلب كبيرهم أن أذهب معه، ولم تفلح معرفتي بعم عبد العاطي المخبر الذي يسكن قرية مجاورة في أن يخبرني عن الجهة التي سأمضي إليها، أو المدة التي سأقضيها. وبدأ القلق يسيطر علي زوجتي الحامل في شهرها الخامس، مما جعلني الاحظ الرعشة التي سيطرت عليها.
قبل أن أغادر البيت كانت زوجتي تستأذن مني في أن تتوجه إلي منزل والدي الذي يبتعد خطوات من بيتي حتي لا تكون وحيدة، فرجوتها أن تظل هكذا حتي الصباح ولا توقظ رجلا تخطي الثمانين من عمره، فتخبره بأن ابنه في صحبة أمن الدولة وهو الأمر الذي قد يعيد إليه الإصابة بالجلطة التي حمدنا الله أنه شفي منها. آلمني ازدياد الرعشة في جسدها، وخفت علي الجنين الذي انتظرناه أن يجهض..
لا بد أن الشخص الآخر _ الذي هو أنا بالمناسبة- رآني ضئيل الحجم وأنا أتوسط اثنين من الجنود فارعي الطول وهما يسيران بي.
وجدت نفسي داخل صندوق سيارة الشرطة، بجانب الدكتور خليفة ( حصل علي درجة الدكتوراه في الأدب والنقد لكنه كان يعمل مدرسا بمعهد ساحل درواو الابتدائي الأزهري).. وهو ما جعلني أدرك ضائقة الضابط من الكتب الأدبية. لم يمر وقت طويل قبل أن يأتون بالشيخ عبد الجليل بلحيته الكثيفة (مدرس عربي) ويحمل الجنود في الخلفية أجولة مملؤة بالكتب الدينية والأشرطة..
ظهرت حدة عبد الجليل معي فاستنكر أن أكون رفيقا له في الرحلة بوصفي شيوعيا كما زعم.. وصمت قبل أن يكشف للدكتور _ ابن خالته- أنني صحفي معارض بدليل نشر صورة زفافي في جريدة الأسبوع!
انتقلت بنا السيارة إلي مركز شرطة نقادة، لأفاجأ بثلاثة من أبناء عمي في انتظاري: الشقيقان محمد وزكريا عبد الجواد (الأول إمام مسجد والثاني حاصل علي بكالوريوس تجارة استثمر دراسته في إدارة محل البقالة للأسرة) وعاطف يونس (محاسب)، فضلا عن عبد المعز محمود زوج أختي الذي استنجدت به زوجتي ليستفسر عما حدث لي فكانت طامته الكبري في لحيته التي جعلت الضباط يضمونه للقائمة.
ومن نقطة التجميع، تم اقتيادنا إلي سيارة الترحيلات المستطيلة، وقبل أن يغلق الباب ويظلم المشهد، كان أحد الضباط يوصي أمين الشرطة الذي سيجلس بيننا بأن يعاملنا معاملة طيبة لأننا "اولاد ناس" كما قال.
في حجرة الاستقبال داخل أمن الدولة بقنا كنا صفا واحدا أمام أمين الشرطة الذي طلب اثبات الشخصية. الدكتور خليفة تخطي الدور فتقدم ليؤكد أنه أمين تنظيم الحزب الوطني في المركز، وأعطاه الكارنيه الذي يثبت أنه حاصل علي الدكتوراه وحين نهره الأمين تراجع للخلف.. وأمر بأن يتم اقتيادنا إلي "تحت"
صرخ الشيخ عبد الجليل: بلاش تحت، فملأنا الرعب وسألناه في نفس واحد: هو فيه أيه تحت يا شيخ؟
قال: معرفش بس كل مرة بيحطوني في الأودة دي، وأشار إلي غرفة خلفية!
وقبل أن نبدأ رحلة "تحت" شكلوا منا طابورا وهم يضعون عصابات علي أعيننا ليتم اقتيادنا إلي جهة مجهولة، نمشي لمسافة، ثم ننزل علي سلالم.. ثم نسير مرة أخري، وسلالم جديدة، دون أن نسمع شيئا سوي صوت أنفاسنا المرعوبة واصطكاك أحذيتنا علي البلاط.
توقف بنا العساكر ليتم فك العصابات ونجد أنفسنا في ممر ضيق مظلم ، تجاهد فيه لمبة صغيرة معلقة في منتصف السقف من إثبات وجودها. شيئا فشيئا نتبين وجود زنازين بأبواب حديدية ضخمة يتم فتح إحداها فيلقي بالشيخ عبد الجليل ويتم اغلاق الباب بعنف..
قلت في نفسي: معقولة.. عبد الجليل، سيوضع بمفرده في تلك الغرفة.. وقبل أن أشفق عليه وجدت أمين الشرطة يأخذ واحدا واحدا ويضعه في غرفة بمفرده، وكنت آخر الصف خلف الدكتور الذي رفض أن يوضع في سجن انفرادي قال إنه يعاني من فوبيا الأماكن المظلمة، وقلبه الضعيف لن يحتمل، رجاهم أن يقيم أحدهم معه في الحجره، فكنت أنا.
عندما فتح باب زنزانتنا، وضعت كفي علي ما ظننته حائطا، لأجد يدي تهوي في فراغ، وكلما حاولت العثور علي حائط أفشل في ذلك، مما جعلني استخرج علبة الكبريت من جيبي لأتعرف علي ملامح الحجرة، طلبت من الأمين أن أشعل عودا من الثقاب وقبل أن يرفض كنت أشعلته، لأجد نفسي في حجرة رمادية تشبه في الحجم فصلا مدرسيا، تخلو من أي أثاث باستثناء كراتين مفرودة علي الأرض.
اغتصب مني الأمين الكبريت قبل أن يغلق الباب، وأسمع صوته في الخارج وهو يأمر زملاء السجن بأن يسلموا له "كبريتهم وولاعاتهم".. اقترب مني الدكتور خليفة وهو يهمس في أذني بأنه يمتلك علبة كبريت وطلب مني ألا أفتن عليه لأننا سنحتاجها سويا بوصفنا ندخن، طمأنته، ووعدته بكتمان السر لنفاجأ بالأمين وهو يطرق الباب ويتساءل من جديد عن كبريت موجود في حوزتنا فنسلمه، جاوبناه بالنفي، والدكتور ارتبك فخشخشت العلبة بين يديه، ليفتح الأمين الباب من جديد قائلا: اطلعولي!
كان مصباح الحجرة كافيا لإبراز عضلات الأمين من "التي شرت" وهو ما جعلنا نعرف أنه نفس الرجل الضخم الذي دون بياناتنا، ملامح وجهه كانت جادة في الانتقام أو هكذا تخيلتها، ذكرته أنني سلمت له العلبة الخاصة بي، وأضفت بأنني غير مسئول عن ظهور واحدة أخري، مما جعل الدكتور هو المتهم الوحيد!
بعد أن انتزع الأمين منه أعواد الثقاب سدد له لكمة قوية في صدره جعلته يخر علي ركبتيه يتوجع، سحبه من ياقة جلبابه ليعاود انتصابه ويسدد له اللكمة الثانية التي جعلت الدكتور يعتذر، ولكن اللكمة الثالثة أثبتت لي أنه لم يقبل اعتذاره.
ولم يبك الدكتور خليفة إلا بعد أن انصرف الأمين ، وهو ينعي حاله، ويتساءل عن سر وجوده هنا.
كانت التحقيقات انفرادية، جاء مساء اليوم التالي الذي تم فيه وضع العصابة من جديد علي أعيننا، تم اقتيادي في ممرات والصعود والهبوط إلي حيث لا أدري، وكان الرجل الذي يمسك بعضدي يسأل عن أرقام معينة فيقول مثلا : الاقي 65 فين، ويرد عليه الآخر عند 77. وهو ما جعلني أتبين أن ضباط أمن الدولة استبدلوا اسمائهم بأرقام الحجرات حتي لا نتمكن من التعرف علي شخصياتهم خوفا من استهدافهم فيما بعد.
ظننت صوت التكييف الهادر سلك كهربائي يتم تلميسه قبل أن يتم تعذيبي به، وسرعان ما شعرت بدرجة الحرارة المنخفضة التي لطفت من حالة الجو السئ، فضلا عن رائحة البخور التي تعبق الحجرة. سألني الضابط عن التزامي الديني -فخجلت من أن أقول له إنني لا أصلي- والكتب الدينية التي أقرأها، وكثف أسئلته علي علاقتي بالشيخ عبد الجليل.
لاحظت أنهم ينفذون لنا كل طلباتنا الخاصة بالطعام بدقة، الأنواع التي نختارها ومن نفس أسماء المطاعم التي نحددها.. أما الحمام الذي كان يسمح لنا بالتردد عليه مرتين في اليوم فكان أيضا بباب حديدي يشبه أبواب الزنازين، وتعجبت من وجود سخان بداخله..
كنا نظل في الزنازين طيلة اليوم، لا نفعل شيئا علي الإطلاق سوي الانتظار، أما الجرائد فكانت من قائمة الممنوعات، وهو ما جعلنا لا نعرف شيئا عما يحدث في الخارج، والأغرب هي المعاملة الطيبة من الأمناء الذين تصدقوا علينا بنيران ولاعاتهم لندخن، والسماح بتناول الشاي، خارج الزنازين ولكن بشرط ألا يتحدث أحدنا إلي الأخر فلا نسمع إلا صوت الرشفات.
كان الدكتور خليفة أكثرنا ارتباكا، ويتخيل أشياء يصورها لي طيلة اليوم مثل ترحيل بات وشيكا إلي سجن الخليفة، أو أحد المعتقلات، وهو ما كان يجعلني أترقب اللحظات التي تتمخض عن مفاجأة جديدة تضاف إلي دراما الأحداث.اغتاظ الدكتور حين عرف أنني أنظر إلي الوضع علي أنه موضوع للكتابة، ولا أشعر بالخطر القادم.
سألت أحد الأمناء عن سر المعاملة الطيبة، فضحك وهو يخبرني بأننا رهن التحري إلي أن يثبت علينا شئ، لتبدأ بعدها معاملة من نوع آخر. استفسرت عنها بفضول، فكان سعيدا وهو يشرح لي يومين كاملين أقضيها في البداية داخل غرفة مغلقة بلا سقف موجودة علي سطح المبني، وقبل أن يتم إيداعي بداخلها لا بد من نزع ملابسي بالكامل، فأظل 48 ساعة علي وحيدا وعاريا في حجرة بلا غطاء ممنوع من الطعام والشراب حتي أعترف!
ازداد فضولي لأعرف بقية وسائل التعذيب فأخبرني بما لم يدهشني من أدوات تقليدية سمعت عنها كثيرا مثل العروسة والجلد ونزع الأظافر والاعتداء الجنسي.
قلت للأمين أنني سأوفر عليكم كل هذه الرحلة الطويلة لأنني ببساطة سأعترف.
سألني بلؤم: تعترف بماذا؟..قلت له بأي شئ يطلب مني وسأوقع علي ورقة بيضاء ليتم فيها تدوين الاعترافات التي تروق لكم، بشرط عدم الإعتداء الجسدي علي بأي طريقة.. فضحك الأمين ظنا منه أنني أمزح!
كنا نتخاطب عن طريق طرق الجدران التي تفصل بيننا، وكان جاري زكريا، فكنت أعرف منه أخباره وأخبار الحجرة المجاورة التي يحصل عليها بدوره بنفس الطريقة، وهكذا علمت بالإفراج عن زوج أختي عبد المعز بعد يومين من وجودنا..
أسبوع مضي قبل أن نمتثل للتحقيق مرة أخري، جاء دوري بعد الدكتور، الذي فوجئت به متهللا وهو يخبرني بأمر الإفراج عنه، مرت الربع ساعة بعد خروجه كدهر، ليتم اصطحابي للتحقيق ويأمر بالإفراج عني علي أن أعود مرة أخري إلي المكان في الواحدة من ظهر السبت المقبل أي بعد أسبوع من خروجي.
تم نزع العصابة عن عيني فلم أر شيئا، كان الظلام يغرق المكان وطلبت من أحدهم أن يوصلني إلي خارج المبني لأن النور مقطوع (هكذا كنت أظن) ولكن الرجل نفي الحقيقة التي أشاهدها، سألني عن عدد الأيام التي قضيتها في السجن فأخبرته، فقال لي أنني كنت موجودا في سجن تحت الأرض لا تصل إليه شمس، وهو ما سيجعلني لا اتكيف بسهولة مع الضوء ووافق علي اصطحابي إلي الخارج بشرط ألا يتقدم ولو خطوة معي إلي ابعد من البوابة.
وأمام البوابة رأيت كتلا من الظلام، تتزاحم أمام عيني وكائنات تسبح في السواد، ونوبة هستيرية من الضحك انتابتني وزكريا ينادي علي وأنا لا أستطيع تحديد مكانه، فاستعنا ببوصلة الصوت ليلتقي كل منا بالآخر. كان لا بد أن نذهب في البداية إلي الحلاق لنهذب شعر الرأس الذي لم يذق طعم أسنان المشط أسبوعا كاملا فلا نبدوا لمن يقابلنا كأننا خارجين للتو من القبور.
اتصلت بصديقي السيناريست أحمد عبد الرحيم ( لم يخرج له عمل للنور بعد، رغم اشادة كل المخرجين الذين ذهب إليهم بأعماله ويبحث منذ 13 عاما، عمن يتوسط له لإقناع أي منتج يقبل منه ولو فيلم واحد من عشرات الأفلام التي كتبها)، وفي منزله اكتشفت أنني فقدت الكثير من وزني خاصة أننا كنا في نفس الحجم تقريبا، مما كان يسمح لنا بتبادل البنطلونات والقمصان، لكن بطلونه هذه المرة كان واسعا جدا عليّ وهو ما جعلني أداري العيب بإسدال القميص من الخارج، رغم أنني كنت متعودا علي حشوه داخل البنطلون..
لمدة أربعة أيام وأنا أشعر بأن ضوء الشمس تضاعف، ولا أقوي علي تفتيح عيني فيه، وهو ما جعلني ألجأ إلي الأماكن المغلقة حتي لا أرهق بصري، وفي البيت عرفت من زوجتي أنها كانت علي وشك الإجهاض لكن الله سلم.
صباح السبت اجتمعنا سويا لنستقل سيارة واحدة إلي قنا، أما سبب الزيارة هذه المرة فكان بغرض أخذ بصماتنا أصبع اصبع من كل يد ثم الكف كاملة.. وتم احضار مقعد نتبادل الجلوس عليه ليتم تصويرنا من مختلف الجهات ونحن نمسك بين أيدينا الرقم كما كان يفعل اللمبي في فيلم "اللي بالي باللك".
ومن يومها وحتي قيام الثورة كان يتم استدعاؤنا، في البداية بشكل منتظم، زيارة كل أسبوع، ثم مرة كل شهر، وأخيرا كلما يطلب منا، ولم يكن يتم التحقيق معنا في أي شئ كان مجرد أمر روتيني يثبت خضوعنا التام لسيدة مصر الاولي أمن الدولة، ويعرف السادة الضباط أننا تحت السيطرة ونقبل حبسنا في الوقت الذي يقررونه، وحينما بدأت أقيم في القاهرة بشكل دائم منذ ثلاث سنوات، كان يتم الاتصال بي للاطمئنان علي من حين لآخر، مع التأكيد علي أهمية تسليم نفسي إلي مبني أمن الدولة عند زيارتي لأسرتي في الصعيد.
اتهام ظل قائما لمدة ثماني سنوات رغم أنه لم يثبت علينا شئ، وإلا ما كانوا تركونا قبل أن نجرب مختلف وسائل التعذيب الجديدة والتقليدية.
أما ما يجعلني إلي الأبد أكره أمن الدولة وأطالب بمحاكمة كل من عمل فيها هو هذه الرعشة التي انتقلت من زوجتي إلي الجنين، ليصبح ابني »عمار« مصابا بها، خاصة حين أوقظه من النوم فألعن النظام كل صباح.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.