قد تأخر كثيرا دور الفن التشكيلى فى التواصل مع الجمهور وخصوصا فن الرسم والتصوير وربما من أزمنة بعيدة، قد نرجع أحد الأسباب إلى أن العمل التشكيلى مختلف فى أدواته عن الفنون الأخرى مثل الموسيقى والغناء والسينما التى أكسبها الزمن والجمهور شعبية، بينما نجد أن فن النحت أقرب إلى الجمهور باعتباره أحد فنون الحضارة المصرية المتوارثة، فكم من تماثيل الميادين للشخصيات المشهورة متواجدة فى الميادين العامة وكثيرا ما نشاهد المواطنين يسعون للتصوير مع التمثال الميدانى لشخصيات شهيرة، ولا نجد ما يسعى لتصوير بجانب لوحة فنية تصويرية إلا المتخصصين ومازال الرسم والتصوير فن نخبوى لم يصل إلى العامة. على الجانب الآخر اقتصر تواجد الفنان التشكيلى على الدائرة الضيقة المحدودة من زملاء المهنة، رغم أن ليس لهذه الدائرة يبدع الفنان، وليس من أجل الزملاء منحه الله موهبة الفن، فكم من المؤتمرات والندوات والإصدارات والأبحاث ورسائل الماجستير والدكتوراه والعديد من التوصيات التى توصى بضرورة تواصل الفن التشكيلى مع الجمهور، وخروج الفن من القاعات المغلقة، والقضاء على العقلية المتحفية التى ترسخ لأن نهاية العمل الفنى هو جدران المتاحف التى نبحث لها عن زائر. مع الأسف لم يسع لتحقيق هذه الأهداف إلا قلة قليلة من الفنانين المؤمنين بأهمية دور الفن فى التواصل مع المجتمع، أن يكون الفن متفاعلا تفاعلا حيا مع أفراد المجتمع فى الارتقاء بالذوق العام والجمال وتعديل سلوكيات تهذيب الذائقة العامة وتأثير وبناء وعى الجمهور بقيمة الجمال، ويكون علاقة المتلقى بالفن علاقة تفاعل وتأثير متبادل. على سبيل المثال وليس الحصر قدمت تجارب عديدة فى التواصل ما بين الفنان والجمهور من بينها مؤخرا تجربة الفنان التشكيلى د. عبد الوهاب عبد المحسن فى «ملتقى البرلس للرسم على الجدران» التى تألقت فى دورتين وجار الإعداد إلى الدورة الثالثة لملتقى فى أكتوبر القادم، بالإضافة إلى بعض المشاريع الفنية الاجتماعية المحدودة للتواصل مع جمهور العامة التى قدمتها وزارة الثقافة كمؤسسة رسمية معنية بالفن ولكن على فترات متباعدة شارك فيها شباب من الفنانين فى كثير من الأحياء الشعبية. ولعل أقرب الأساليب والطرق الفنية التى تحقق الأهداف السابقة هو الرسوم على الجدران التى تعد أحد أهم الفنون التى توارثناها من الحضارات الإنسانية، وحملت هذه الرسوم الجدارية عدة مسميات وتصنيفات حديثة ومعاير، من بينها فن «الجداريات» وهى رسوم لها إعداد مسبق وتصميمات ممنهجة مخصصة لمكان محدد تطرح فلسفة خاصة، والنوع الثانى: رسوم الجرافيتى التى تعد أكثر الفنون التى تصدرت المشهد فى ثورات الربيع بالتأيد والاعتراض على الأحداث، شارك فيها المتخصصون فى الفن وغير المتخصصين من العامة. والنوع الثالث وهو ما نحتاج لمزيد منه فى شوارع مصر ومحافظاتها والأقاليم لمحاربة القبح بالجمال ومحاربة الأفكار الظلامية بالفن والثقافة، هو «رسوم جدارية تعبيرية» هدفها إحداث حالة تفاعلية وخلق مناخ اجتماعى إنسانى فنى يبنى قيم بصرية لا تهدم وهى قيم الجمال، وقيمة الانتماء للوطن، وتجميل البيئة المحيطة، ويكون هنا الفن أداة ورسالة يبعثها الفنان للمتلقى لكسر مقولة «الفن للفن» واستبدالها بمقولة «تولستوى» فى أحد تعريفاته للفن «الفن نوع من العدوى» ويعنى أن الفن فعالية إنسانية يقدمها الفنان لإيصال مشاعره وإحساسه إلى الآخر، فحين تصل مشاعره إلى الآخر تنتقل العدوى للآخر، سوف يقوم الآخر بتقديم نفس تجربة الفنان، ولتكن التجربة الفنية المطروحة أو العدوى هى «عدوى الجمال». «90 وردة» بالرسم على جدران كلية الفنون الجميلة من النوع الثالث من الرسوم الجدارية التعبيرية لإحداث الحالة التفاعلية التى تترقى بالذوق العام والمبنية على فكر تولستوى بضرورة طرح الفن بأحد مفرداته لانتشار عدوى الجمال إلى الجمهور العادى، الفكرة نبعت للفنان د. عادل مصطفى المدرس بقسم التصوير بكلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية، وهو مشروع التدريب الصيفى الذى توفره الكلية للطلاب فى إجازة آخر العام لطلاب وطلبة المرحلة الإعدادية، حيث أدرك الفنان عادل مصطفى أن الجمهور يفتقد للإحساس بالجمال بل وأيضا متعطش لرؤية الجمال وأصبح القبح هو الصواب السائد فى شوارعنا، فقد كان من المخجل أن تكون جدران كلية الفنون الجميلة تلك الكلية المتخصصة فى ترسيخ قيم الجمال جدرانها ملطخة بالرسوم القبيحة. ولكى نكون منصفين للتجربة وننتظر تكرارها بأشكال جديدة فى أماكن أخرى فيجب ألا نخرج التجربة بعيدا عن سياقها أنها نشاط وتدريب صيفى وفعل فنى إيجابى، فمن الظلم أن يقيم هؤلاء الطلاب على أن ما قدموه انه «جدارية» الأمر هنا مختلف تماما، ما نفذه الطلاب هو رسوم تعبيرية تفاعلية استخدم فيها الطلاب أحد عناصر الطبيعة متمثلة فى «الورد» كتعبير عن حالة فنية تفاؤلية فى توصيل رسالة للجمهور بأهمية الجمال فى شوارعنا وليس الفن كالمحاكاة للعناصر، ومن هنا لا يحاسب الطلاب على دقة الرسوم، فقيمة العمل تكمن فى مدى تأثيرها على الآخر وإعمال مبدأ «تولستوى» فى انتشار عدوى الإحساس بالفن والجمال، أما مقياس القيمة الجمالية للعمل فهى أمر نسبى. قدم الطلاب ال«90 وردة» بجمال الروح والتفاؤل رسوم خطية ولونية بسيطة تلقائية وتعبيرية مؤكدين انتماءهم لوطنهم الأصغر وهى كلية الفنون الجميلة ولوطنهم الأكبر مصر، بالإضافة إلى قيم أخرى فمشاركة الطلاب فى التكلفة بمبلغ رمزى وهو 20 جنيها لكل طالب، وعدم توقيع الطلاب بأسمائهم على العمل، كل ذلك رسخ قيمة العمل الجماعى وقيمة إنكار الذات. وتكريما لهؤلاء الطلاب اقترح أن يطلق على هذه الدفعة «دفعة ال90 وردة» فهذا المسمى سوف يجعلهم فخورين بما قدموه ويحملهم مسئولية الارتقاء بسلوكيات المجتمع عن طريق الفن وأدواته، ولا استبعد أن نجد من بينهم من يقدم فى مشاريع التخرج أعمالا خاصة بميادين مصر ومحافظاتها، هؤلاء شباب مصر اثبتوا أنهم مستعدون لأن يستعدوا للوطن جماله إذا منحت لهم الفرصة والحرية. وعن فكرة المشروع قال الدكتور الفنان التشكيلى عادل مصطفى: شعرت إن ثمة علاقة بين هؤلاء الطلاب وبين الورود، وذكرونى بالأغنية الشهيرة لأحمد فؤاد نجم «صباح الخير على الورد اللى فتح فى جناين مصر» فهؤلاء الطلاب هم زهرات مصر، مشروع «التسعين وردة» هو مشروع التدريب الصيفى لعدد تسعين طالبا من طلاب الفرقة الإعدادية فنون عام بكلية الفنون الجميلة جامعة الإسكندرية وسوف يكون مشروعا لخدمة الكلية والمجتمع، وسوف نحارب القبح بالجمال وسوف نعمل دورنا فى المجتمع بنشر الجمال ومحاربة كل ما هو قبيح، فدور الفن لا يتوقف عند التزيين والديكور كما يدعى البعض، ولكن يمكن بالفن أن نغير من سلوك وعادات وأن نبعث بالبهجة والفرحة فى نفوس الناس وكانت فكرة التسعين وردة حيث إن عدد الطلاب يقارب التسعين وعدد الوردات المرسومة أيضا قرابة التسعين. وأضاف «مصطفى»: بجانب الورد رسم الطلاب شخصيات ورموز خلدت مدينة الإسكندرية وهما وسيد درويش ومحمود سعيد، والعمل بشكل عام يبعث على البهجة والفرحة والتفاؤل والحب، وهى مشاعر نادرة الآن مجتمعنا المزدحم بالمشكلات. ويتمنى أيضا أن تتلون مدينة الإسكندرية بالفرحة والبهجة وباقى مدن مصر.