علي قهوه المعلم عطفي البسيطة علي شاطئ البحر، بقرية البرلس يجلس عدد كبير من الفنانين التشكيليين يرتشفون الشاي ويتبادلون أحاديث الفن في ساعات الراحة عقب انتهائهم من رسم الجدران . كان هذا المشهد واحدا من أجمل المشاهد التي علقت بذاكرة الفنان الفوتوغرافي جلال المسيري خلال تلك التجربة التي خاضها بالمشاركة في مهرجان البرلس للرسم علي الحوائط في دورته الثانية، يقول المسيري: ربما لا أنسي أيضا مشهد طالبات مدارس برج البرلس اللاتي كان يحرصن علي المرور علي بيت الثقافه عقب انتهاء اليوم الدراسي لمتابعه تلوين المراكب التي كن الفنان يرسون عليها والالتقاء مع الفنانين. وربما كان واحدا من أهم الفاعليات الفنية التي حدثت هذا العام والتي يجب التوقف عندها كنموذج للتغير المجتمعي من خلال الفن هو إقامة ملتقي البرلس للرسم علي الحوائط في دورته الثانية والذي نظمته مؤسسة الفنان عبد الوهاب عبد المحسن للثقافة والفنون والتنمية، برعاية ودعم مادي من محافظة كفر الشيخ ..وقد شارك في الملتقي هذا العام 35 فنانا من مصر والهند وإيران والبحرين والأردن وتونس والسودان والبرتغال. وشارك من مصر عدد كبير من الفنانين منهم علي سبيل المثال لا الحصر الفنانون محمد عبلة، وعقيلة رياض، وأشرف رضا وعمر الفيومي وجميل شفيق وأحمد عبدالكريم يقول الفنان عبد الوهاب عبد المحسن: تقوم فكرة الملتقي علي تفاعل الفنانين مع الأهالي في فعل الرسم في حالة مشاركة مجتمعية ويصاحب الملتقي حملة نظافة وتوعية للأهالي بأهمية الحفاظ علي البيئة ونظافتها. وقد ساعد الملتقي في اكتشاف المواهب وإشاعة الفرحة والبهجة بين الناس، ووضعهم في بؤرة الضوء والاهتمام. ولكن المهرجان هذا العام لم يتوقف عند الرسم علي الجدران فحسب، بل امتد أيضا للرسم علي المراكب، حيث قام الفنانون برسم 25 فلوكة قامت المؤسسة بتصنيعها، لتحول المراكب الخشبية البسيطة، التي تعتبر بالنسبة لأهالي البرلس وسيلة لكسب الرزق، لوسيط إبداعي تشكيلي، حيث تم عرضها بعد الملتقي في جاليري آرتسمارت في القاهرة. وتروي الفنانة التشكيلية د.سالي الزيني جانبا من تلك التجربة قائلة: كان العمل مقسما علي مرحلتين بدأناها بالحوائط ، حيث تجولنا في القرية لنختار الحوائط المناسبة للمنازل المطلة علي البحر .. وتكلمنا مع الأهالي وناقشناهم في موضوع الرسم علي البيوت .. وقد رحب البعض ممن كان لديهم فكرة مسبقة من خلال تجربة العام السابق، ورفض البعض أو لنقل استغربوا أن يقوم أحد بتلوين بيوتهم . تضيف الزيني : بالنسبة لي كان لدي تصور مسبق للعناصر التي سأقوم بتوظيفها .. فلابد أن تكون الأعمال قريبة ومحببة من المتلقي البسيط صاحب المنزل، وأن يكون راضيا عما سيرسم علي جدار بيته.. وتضيف الزيني: لفت نظري حائط جانبي كبير مقاسه حوالي 4 في 6 أمتار يعلوه لافتات وملصقات إعلانية وبه نوافذ مائلة ومحطمه وبالاستعلام عنه تبين أنه جدار ل "عشة طيور" .. انفعلت جدا بالنوافذ المائلة المحطمه فقررت تعديل الاسكتش ليلائمها بحيث تكون النوافذ المائله هي نوافذ المنزل المرسوم كما حطمت الخطوط الطولية الهندسية للمنزل الشعبي المرسوم ليلائم الخطوط العفوية المحطمة للنوافذ .. وجعلت البيت يحمل مفرده شعبيه هي شباك تستقر فوقه يمامتان وضلع آخر يحمل سفينة وهي مفرده محببة لقرية ساحلية تعتمد علي الصيد كما أضفت نخلة ملونه للسطح وهي جزء من جغرافية المكان الممتلئ بالنخيل المثمر.. ولعل أروع ما في التجربة هو الحالة الإنسانية حيث تقول الفنانة : كان انطباع الأهالي رائعا، ربما فاق ما توقعت فقد ساعدوني جدا بحفظ الخامات يوميا لحين عودتي لليوم التالي، كما شاركني الأطفال في مزج الألوان وتنظيف الفرش، ورسم بعض الخطوط البسيطة، حيث كانت سعادتهم غامرة كلما اكتمل العمل. وعن الموضوع الذي اختارته لرسمه علي المركب، تقول الفنانة : بصفة عامة أستلهم التراث الشعبي المصري والعالمي في أعمالي، وأستمد مفرداتي الشعبيه من حواديت جدتي، ومن ذكريات طفولتي، ومن التراث الإيراني وفنون المخطوطات والمنمنمات، وأحاول دمجها مع التيمات الشعبية المصرية لأن من وجهة نظري التجربة الإنسانيه شديدة الصدق غالباما تكون نتاجا للفنان الفطري البسيط فتصل للآخر بنفس النقاء .. باختصار أستلهم التجربة الإنسانيه الشعبيه كلغه تواصل عالمة. ربما أرسي ملتقي البرلس لغة حوار أيضا بين عشرات الفنانين من مختلف أنحاء العالم، فالفنانة التونسية هيفاء التكوتي تقول: ملتقي البرلس كان تجربة مميزة، حيث فتح باب التشبيك والتواصل بين الفنان والجمهور وأرسي ثقافة اللون والرسم عند الأطفال من خلال الجداريات، كما كانت تجربة المركب أيضا تجربة مميزة أتاحت لي الفرصة للقيام بعمل تركيبي يحاكي حياة الصياد اليومية. وتضيف: إن هذا الملتقي يلفت الانتباه إلي أهمية الفن والجمال ودورهما لدي الأفراد .. فالفن نشاط أخلاقي يهدف إلي تحقيق غايات كلية كالجمال والخير والمنفعة للناس .. وبذلك يتعدي الفن حدود العمل الفني فلا يصبح مجرد صورة، إنما هو كل ما ينتجه الإنسان وما يستخدمه وكل ما يتأثر به ويؤثر فيه، ويصبح ذا تأثير حضاري علي سلوك الأفراد والمجتمع سواء أكانوا ممارسين للفن أو متلقين له حتي يكتسب المجتمع القدرة علي تقدير الجمال واستحسانه ورفض القبح والفوضي العشوائية. وربما كانت مشاركة الفنان الفوتوغرافي جلال المسيري مختلفة ، فلم يقم بالمشاركة في الرسم علي الحائط أو فلوكة ، ولكنه ظل يمارس عشقه الأول .. التصوير الفوتوغرافي .. حيث تم اختيار مجموعة من صوره عن البيوت الملونه لعرضها علي هامش معرض المراكب . يقول المسيري: أري تجربه ملتقي البرلس نموذجا للتفكير خارج الصندوق من أجل نشر الجمال والفن بين البسطاء.. شاهدت كيف يعمل الجميع في حب لتحقيق هدف الملتقي بإمكانيات بسيطة جدا والأهم كيف كان رد فعل الأهالي من صيادين بسطاء وأسرهم من شغفهم بالتجربه ومصاحبتهم للفنانين. وللعلم إن تلك التجربه كانت للعام الثاني حيث تم في العام الماضي تزيين عدد من المنازل برسومات رائعه والغريب أن تلك الرسومات بقيت كما هي لم يعبث بها أحد ولم يتم لصق إعلانات عليها أو الكتابه عليها مما يظهر استمتاع الأهالي بالجمال والفن أتمني أن تنتشر مثل هذه التجارب في أنحاء مصر نحو مستقبل أفضل . إن ملتقي البرلس لم يرس فقط نموذجا لتغيير المجتمع من خلال الفن ، ولا لكيفية بناء جسور التواصل بين الفنانين التشكيليين من جميع أنحاء العالم ، بل كذلك للكيفية التي يجب من خلالها تعاون الجمعيات الأهلية مع الحكومة في المشاريع الثقافية والفنية ، فقد شاركت محافظة كفر الشيخ بالدعم المادي للمشروع، كما قامت وزارة الشباب بالتعاون مع المؤسسة من خلال مشروع مدن ملونة، في وجود 90 شابا لمشاركة الفنانين وتبادل الخبرات معهم ، كما تحملت وزارة الشباب الإقامة والإعاشة والخامات .