الرؤية مختلفة بكل تأكيد، فهو ليس فقط مصريا اختار السفر للهروب من واقع مؤلم في وطنه، لم يتحمل السفر والغربة فقط، وإنما أضاف إليهما ألم ومتاعب أن يعيش بطريقة غير شرعية في بلد غريب، متوقعا كل أنواع المشاكل، ورغم ذلك، كان هذا الخيار أفضل لديه من الحياة في وطن لم يعد وطنه، كما لم يعد وطن جميع المصريين، إنه جمال عمر صاحب كتاب "مهاجر غير شرعي"، الذي وصف فيه شعوره قبل الثورة، والآن يحكي لنا عن شعوره بعد الثورة وشتان بين الاثنين... فإلي نص الحوار: ألم تخش من الاعتراف بأنك مهاجر غير شرعي؟ - الولاياتالمتحدةالأمريكية بها أكثر من عشرة ملايين مهاجر غير شرعي، ويدخلها سنويا بشكل غير شرعي نصف مليون مهاجر، الوجود غير الشرعي جزء أساسي من الحياة بأمريكا، يستفيد منه كثيرون من أصحاب الأعمال، الذين يحصلون علي عمالة برخص التراب، والمحال والشركات الأمريكية التي تنتفع من مشتريات واستهلاك كل هؤلاء البشر، وتأخذ الحكومة بدرجاتها المختلفة ضرائب مبيعات علي كل هذا الاستهلاك وتلك الخدمات. ألا تشعر بغربة في مجتمع يختلف عنك في اللغة والدين؟ - مدينة نيويورك تختلف عن بقية أمريكا، الأمريكيون البيض البروتستانت أقلية، فالمهاجر لا يشعر بغربة لأن كل من حوله غريب بصورة أو بأخري، حتي أمريكيي المولد يأتونها للعمل ثم يعودون الي مساكنهم، تجد في شوارعها كل اللغات واللهجات وكل ألوان البشر، كأنها شركة كبيرة وكلنا نعمل فيها، وبالرغم من أن نيويورك تعرضت للهجمات الإرهابية، فإن كراهية الأغراب ومنهم المسلمون تأتي من خارجها أكثر من داخلها. كيف تتابع القضايا المصرية؟ - لم تعد هناك حواجز بين الأماكن في الداخل والخارج، العالم تغير بصورة كبيرة خلال العقد الماضي بدرجة لم تشهدها البشرية من قبل، فمصر ليست هذا المكان البعيد الذي تفصلك عنه الأميال، كل الجرائد التي تقرأيها بمصر أصل إليها عن طريق الإنترنت، وكل المحطات التليفزيونية كذلك استقبلها. كيف علمت بحكاية الفتي الذي حاول أن يعيدك تجربتك بعد قراءة الرواية وتوفي؟ وكيف استقبلتها؟ وما الذي وددت قوله بشأنها؟ - أولا لم يتوف أحد حسب علمي، لكن ما حدث أن وصلتني طلب إضافة عبر الفيس بوك، من أحد الأشخاص عبر عن إعجابه بالكتاب وطلب رقم تليفوني، فقلت له إنني بنيويورك، فذكر أنه بدولة الإكوادور، بعدها بيومين اتصل بي شاب مصري في الأربعين من عمره، من الإكوادور، وشعرت برجفة داخلي حينما وجدته يقول أنه قرأ الكتاب مما دفعه لخوض التجربة، ووصف لي الأماكن وقارنها بما في الكتاب، وأخذ يراجعني في بعض الشخصيات التي تناولها الكتاب، لم أعرف ماذا أقول له، وأقول لكل من قرأ أو يقرأ الكتاب هذا منذ عقد ونصف، وهذا الطريق توقف من عقد مضي، كان هذا في مارس الماضي ولم أسمع منه منذ هذه المكالمة. لماذا نشرت روايتك مرتين عن دارين مختلفتين؟ وغيرت الاسم في الثانية؟ صديق العزيز د. فكراي أندراوس الذي هاجر من مصر في عام مولدي هو أول من يقرأ ما أكتب، فطلب من صديقه الأديب الكبير صنع الله ابراهيم أن أتصل به ليعطيني رأيه فيما أكتب، وكان كريما فأرسلت له الكتابة الأولي بكل أخطاء النحو والطباعة وكانت بلا عنوان، فرشحها الأستاذ صنع الله لجريدة الكرامة التي نشرت ملخصًا لها في يوليو 2007علي خمسة أسابيع، ووضعوا لها عنوان يوميات المصري التائه. وحاولت أن أعرف رأي الأديب ورئيس أقسام الترجمة بالأمم المتحدة حسام فخر في النص، فوجدته نشر مقالة في جريدة "أخبار الأدب" يشير فيها الي نص المخطوطة، فلفت نظر الأستاذ جمال الغيطاني رئيس تحريرها في ذلك الوقت، فطلب النص من الأستاذ صنع الله، وأرسل لي رسالة يخبرني فيها برغبة الجريدة في نشر جزء كامل من النص، ونُشرته "أخبار الأدب" تحت عنوان "يوميات مهاجر غير شرعي"، وكتب الأستاذ جمال مقالة عن النص وعن أدب الغربة، في أكتوبر 2007. وفي 2008 تواصلت مع "دار ملامح" للنشر التي تكونت في نفس السنة، ورحبوا بنشر النص، فنشروه تحت عنوان "تسلل مهاجر غير شرعي"، وحدثت مشاكل للدار الوليدة قضت علي التجربة في المهد، حتي نشرته "دار الثقافة الجديدة" في طبعة جديدة بعنوان "مهاجر غير شرعي". رأيت قريتك قبل سفرك وبعد سفرك.. هل شعرت بفارق؟ - القرية كمصر، كنا نقف في طابور طويل يقف فيه ملايين المصريين، كل منا لا يري من الدنيا إلا خلفية من أمامه، في أول الطابور يقف رئيس الدولة هو من يري ويعرف ونحن نتبعه، في السنوات الأخيرة واستشراء الفساد جعل كل هذا الطابور يبعثر وينثر، وأصبحنا نركض كالقطيع، فأصبحت القرية كمركب كل منا ينتظر دوره للقفز منها، حينما عدت وجدت كل مال الغرب والشرق الذي حولناه استخدم في استهلاكيات تجعل القرية دائما متصلة بحبل سُري، لا يمكن أن تتخلي عنه، بنيويورك، الحياة للمصري منذ أن يفتح عينية في الصباح الي إغماضه لهما في المساء يعيش حالة "مناهدة" من لقمة العيش إلي المواصلات إلي الحصول علي أقل الحقوق الأساسية. أول ثلاثة أيام في القرية شعرت بضيق شديد كل شيء ضيق، الشارع الثلاثة أمتار كانت المباني علي جانبيه طابق أو اثنين ارتفعت إلي ستة طوابق، فتشعر وكأنك تدخل نفق، شعرت أن جدران المباني تميل مطبقة علي صدري. هل هناك عمل جديد تكتبه حاليا؟ - لقد انتهيت من الكتابة الأخيرة لنص جديد، هو استكمال في وجه من وجوهه للكتاب الأول بعنوان: "حينا الغربي"، يصور الحياة لهذا الشاب داخل الأراض الأمريكية، وطبيعة حياة المصريين والعرب، في المجتمع الأمريكي. بعد تجربتك... كيف تري تأثير سفر أبناء القري علي قراهم؟ - القرية جزء مما حدث لمصر خلال الأربعين عاما، الشعب المصري الذي كان يبني ويخطط لسنوات طويلة، أصبحت السلطة تدير أموره يوم بيوم، وأصبح الترقيع هو لب السياسات، والسفر بل والهجرة كظاهرة بالمجتمع المصري خلال العقود الأربعة الأخيرة، هي نتاج لهذه السياسات، لكن لا شك أن السفر إلي الغرب، خصوصا أمريكا، يختلف عن السفر إلي الخليج، يعني القرية الآن بها عدد من حاملي الجنسية الأمريكية من كل الأعمار، وعندما أقول مازحا إن القرية بحاجة إلي وجود صندوق انتخابي القرية في الانتخابات الأمريكية القادمة، فإن هذه المزحة لا تخلو من حقيقة تصور مدي التداخل بين المجتمعين، وهذا الجانب أحاول تلمسه في كتاب جديد بعنوان "حينا الغربي". هل تعتقد أنه الثورة ستنهي مقولتك في الكتاب: "لا يوجد شارع أو أسرة إلا ولها شخص في الخارج"؟ - الثورة كانت لابد أن تحدث، لتخرج مصر والشعب المصري من هذه الحالة، من قصر النظر والعيش يوم بيوم، أو بمعني أصح الموت يوم بيوم، وأنا شديد التفاؤل بالرغم من آلام المخاض التي نعيشها حاليا، فالمصريون لم يلتقوا ويتحدثوا سويا من سنين، عاشوا في حجر مظلمة إلا من كشاف إضاءة معلق في السقف، ولا تأتي يسمعون إلا أصوات أشباح بين حين وآخر، الآن هذا الشعب سيعيش في نور، يمكن أن تحدث انتكاسة، لكن كلي أمل وثقة بل يقين بأن مصر ستعود إليها نضارتها، وسيقوم الشعب بدوره من جديد، دور المعلم، بضم الميم وفتحها. الأحلام الأن واسعة و"الشوف" علي مد البصر. كيف استقبلتم كعرب ومصريين في أمريكا أنباء الثورة المصرية؟ - لم أنم يوم "الأربعاء الدامي" حينما هاجم البلطجية المتظاهرين بميدان التحرير، وعشت هذه الساعات دقيقة بدقيقة منذ بداية الهجوم في الثالثة بتوقيت القاهرة، حتي الخامسة صباحا، وكل مرة يتم الجري فيها إلي داخل الميدان تسحب روحي مني، لأنه لو احتل هؤلاء الميدان لكانت لحظة فارقة في حياة الثورة، لكن الثورة نجحت في الصمود، وكانت هذه هي علامة النصر، يوم العاشر من فبراير، كان الناس في كل مكان في نيويورك، وفي كل وسيلة إعلام تنتظر خطاب مبارك، شعرت بقيمة مصر، خطفت عيون وقلوب الناس، حتي أتي النصر يوم 11 فبراير، أستقبلت التهاني من كل من يعرفني من الأمريكيين، كان المهاجرون من البلاد العربية، يهنئونني كيوم عيد، عشت شعورا بالفخر والكرامة، يدركه أكثر من عاش خارج مصر، وشعت بقدرة علي أن نحلم من جديد بعدما انزاح الكابوس. إلي أي مدي تري أن الثورة نجحت في تحقيق أهدافها وبدأت مصر طريقها نحو التغيير الحقيقي؟ - مصر ستكون أفضل لا شك عندي في ذلك، لكن لاتزال طريقة الترقيع، وإدارة الأمور بطريقة يوم بيوم موجودة، ورغم ذلك، مصر علي عتبة مرحلة جديدة، كل ما نريده أن تُفتح الأبواب، للشعب المصري أن ينخرط في تنظيمات ليست فقط سياسية، هل يعقل أن يصبح إنشاء حزب سياسي الأن بالإخطار، وتظل في روتين عقيم، لكي تنشيء جمعية أهلية، الطريق هو أن ينتظم الملايين التي بُعثرت خلال العقود الماضية نتيجة للفساد، في تنظيمات اجتماعية، وثقافية، واقتصادية وعمالية ونسائية، وطلابية بالإضافة إلي سياسية، فيتم التعامل مع كيانات وليس أفراد، من هنا سوف تترشد لغة الحوار، وتعود إلي مصر السياسة.