حديثاً ديوانه الشعرى الأول «الطازجون مهما حدث» عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، ضم الديوان خمس مجموعات شعرية هم «الطازجون مهما حدث، وشعب كلوح من الصاج الخام، وبقايا حملات الغرباء، وثوار ، وزهرة زرقاء»، طرح الشاعر من خلالها العديد من التساؤلات حول الحياة والموت والخلود والثورة والصدق والمحبة كقيم كبرى تدفع البشرية لتغير واقعها وخلق عالم جديد أكثر براحاً وأقل بؤساً وحزناً. جريدة روزاليوسف التقت حاتم الجوهرى وحاورته حول ديوانه الجديد ومشروعه النقدى فإلى نص الحوار.
■ بدأت مسيرتك مع كتابة الشعر فى منتصف التسعينيات ورغم ذلك صدر أول ديوان لك عام 2015، إلى أى مدى تعتقد أنك تأخرت فى إصدار الديوان، وما سر هذا الابتعاد عن المشهد طوال السنوات الماضية، ولماذا اخترت هذا التوقيت تحديداً لإصداره؟ - الشعر بالنسبة لى هو السكن، هو الملاذ من الوحدة والغربة فى العالم، والقصيدة كانت تمثل لىّ انتصارا واختيارا شقته تجربة ذاتية! فى الجامعة فى التسعينيات كنت أمينا لجماعة «الفكر والأدب» بجامعة المنصورة، تستطيع القول أننى باختياراتى الشعرية لم أنجح فى امتلاك الأدوات الواقعية والمادية لخلق تيار يواجه التيار السائد حينها، فانسحبت كفكرة عامة من المشهد لم تُمكن لها الظروف وماكينة التصعيد والتهميش الاجتماعى، ولكننى بقيت كمشروع شعرى فردى فى الظل، وسلكت طريق المجال الأكاديمى فى محاولة للتأسيس لما أعتقد أنه هُمش بفعل فاعل، وستجد هذه المحاولة حاضرة فى أطروحاتى الفكرية والأدبية، وإن لم أكشف عنها صراحة. ■ عنوان الديوان «الطازجون مهما حدث» يحمل قدرا كبيرا من المقاومة والصمود كيف ترى دور الشعر والأدب فى خلق فضاء يحرر الإنسان ويدفعه لتغيير واقعه القاسى؟ - أرى أن الصمود هو اختيار وقرار داخلى، أعتقد انه حالة فعل ولا يجب أن يخضع لرد الفعل والنتيجة فى الواقع، وهذا سر البقاء فى ظروف اجتماعية غير مواتية، وفى هذا السياق تكون القصيدة اختيارا إنسانيا وكشفا عن مساحة من الوجود تغنى صاحبها عن العالم بالفعل وتحقق له الكثير! الأدب هو منتج متخيل غير مادى -رغم ارتباطه بالواقعية- والخيال وحده هو الذى خلق التطور البشرى، وليست العلاقات الميكانيكية كرد فعل نمطى للواقع ولمجرد التكيف معه! الثورات والأحلام والآداب الشعبية هى نتاج لأفراد كسروا النمط الاجتماعى السائد وأصروا على اختياراتهم وفق متخيل ومثال يعيش داخلهم، لهذا سوف يبقى خيال الشاعر وغناؤه وصموده هو الضمير الحى للأمم، والمطرقة الساخنة فوق حديد الاستبداد وشبكة علاقاته ومصالحه المستقرة. ■ فى الديوان حضور بارز للتاريخ والموروث الثقافى إلى أى مدى تعرض المجتمع المصرى فى العقود الماضية لحالة من التجريف الثقافى والمعرفى وما السبيل لإصلاح ما تم تجريفه؟ - الثقافة بمعناها المؤسسى ارتبطت فى مصر بالمشروع الناصرى -سواء اتفقنا أو اختلفنا معه- وبمؤسسة الثقافة الجماهيرية تحديدا، ومع تراجع الناصرية فى حقبة السبعينيات انفصل الشكل عن المضمون! لديك جسد أو شكل لمؤسسة سحب منها مضمونها أو دورها! فى حين أن الثورة (25يناير) خلقت واقعا ونخبة تحاول إنتاج حالة جماعية هى الأقرب لفكرة الثقافة ودورها التفاعلى مع المجتمع –وفى هذا السياق قدمت ديوانى للنشر فى 2012-، أما واقع المؤسسة الثقافية حاليا فهو يقوم على شقين: مشاريع فردية جادة لأفراد يحاولون أن يحدثوا تغييرا ولو عبر الزمن، ومشاريع مرتبكة –نسبيا- لأفراد يبحثون عن صعود اجتماعى ووظيفى ويعملون من خلال «التصور السياسى للثقافة» كشكل احتفالى، أو كشكل إصلاحى مرحلى تقدم منتجات جزئية لا تنتظم فى شكل فكرى آنى محدد! والثقافة فى تعريفى الخاص هى فعل دائم للمقاومة فى ظل مجتمعات مقهورة، وأرى فى الأشكال الثقافية لما قبل ثورة 1952 التى اعتمدت على وجود مثقفين موسوعيين أصحاب مشاريع مثل العقاد وطه حسين وغيرهم، حلا ثقافيا -فى ظل الاستبداد والتنميط- لفكرة التجريف ولإعادة إنتاج تراث البلاد فى شكل يصلح كمشروع للنهضة الحضارية الشاملة. ■ ذكريات الطفولة بما تحمله من براءة وجموح تستحوذ على مساحة كبيرة من الديوان إلى أى مدى نحن أسرى لذاكرتنا؟ - الذكريات فى عالمى الشعرى هى محطات فى الحياة، ودائما ما أحفظ ذكرياتى جيدا حتى إذا تهت ما بين المحطات يمكننى العودة! هذا هو تصورى الشعرى والإنسانى لها ببساطة، أقَسم الماضى لذكريات كبرى أو محطات من الفهم والوعى واليقين بالخبرة الحياتية والإنسانية، حتى إذا ضربتنى الحياة وفقدت توازنى، أجد فى داخلى ما أستطيع القياس عليه، والبحث عنه والعودة إليه مجددا، أو استعادة نفسى بعد فترة من التيه أو الكمون. ■ يتعرض الشعر فى العقود الأخيرة لحالة من التراجع خاصة فى ظل خطاب نقدى يتم ترويجه عن كون الرواية صارت ديوان العرب الجديد كيف ترى هذه القضية وهل تراجع الشعر حقاً لصالح الرواية وكيف ترى مستقبل الشعر فى هذه الحفاوة المفرطة بفن الرواية؟ - الخطاب النقدى يرتبط بالواقع الاجتماعى، وفى ظنى من صدروا فكرة الرواية يريدون الترسيخ لمجتمع القهر والحكى والتفاصيل، لست مع فكرة الصراع بين الأجناس إنما تجاورها، ولكن السياق الاجتماعى للأدب قد يخبرنا بأن الشعر هو المواجهة والاختصار والاختزال، أما السرد فهو على العكس! يميل المجتمع للخطاب الشعرى والمواجهة عندما يكون فى ذروة دورة حضارية، ويميل للسرد والتفاصيل عندما يكون فى حالة قهر وتأويل وتفسير للواقع يتحايل على الاستبداد، وما الروايات العظيمة –فى المعظم- سوى بكائيات عظيمة لأبطال قهرهم المجتمع (ولتدرس حالة الشعراء الروائيين الذين يبدءون بالشعر وحين يصيبهم الفتور وقهر المجتمع ينتقلون للسرد وأشكال البطولة المؤجلة غير المباشرة وتأويلاتها)، أو هى لكتاب عظام يريدون أن ينتصروا على عالمهم والقهر بشكل غير مباشر وعبر تفاصيل كثيرة أو عبر مخلص غائب، وليس عبر شكل مباشر يختزل العالم كالشعر مثلا، لأنهم بالفعل يعيشون فى واقع القهر والانسحاق فى التفاصيل. التسعينيات صدرت زمن الرواية ثم انتقلنا إلى السرديات فى الشعر! التجربة البشرية أمام اختيارين: إما أن تستسلم للواقع بشكل آلى وتصير رد فعل تبريرى تسجيلى سردى له، أو تتمسك بمتخيل وتقاوم الواقع وتواجهه مباشرة. ■ بجانب كتابة الشعر تعمل بالهيئة العامة للكتاب وتمارس النقد الأدبى والترجمة .. إلى أى مدى تساهم كل هذه الأعمال فى تشتيت طاقتك الإبداعية أم تعتقد أنها على العكس من ذلك تضيف لتجاربك وخبراتك وتدفعك لمزيد من العمل والإبداع؟ - عملى فى هيئة الكتاب قد يعد جزءا من مشروعى الفردى وواجبى تجاه بلادى ومستقبلها، وقدمت بها مشروعين أساسيين: بروتوكولا للعمل الثقافى ومعاييرا ضابطة له، ومشروعا لمركز أبحاث وترجمة، ووجدت ترحيبا كبيرا من جانب القائمين على الهيئة حاليا - د.هيثم الحج على - وسابقا، ومن الأصدقاء المثقفين بها، لكن المشكلة أن مفهوم النقد الذاتى والمراجعة قد يختلط بالوظيفية والبيروقراطية عند بعض من يغلب عليهم شكل المؤسسة الثقافية على روحها ودورها، ويجعلهم يفسحون مجالا للمتملقين والمداهنين، وهو ما تسبب -فى مرحلة سابقة- فى تهميشى كمثقف داخل الهيئة، ولكنى –بدورى- مارست تهميشا مضادا ولم أهتز وصمدت بطبعى! أما النقد الأدبى والترجمة فأقوم بهما وفق مشروعى المتكامل أيضا، قدمت دراستين لتفكيك المشروع الصهيونى والبحث عن سبل مواجهته من خلال الأدب والثقافة، وقبلت ترجمة شعرية لأحد أهم شعراء المدرسة الرومانتيكية (وليم بليك) بما حملته من أفكار ثورية وحالمة وهو ما يتوافق مع مساحة من اختياراتى الإنسانية والفلسفية. ■ بصفتك أحد المتابعين للقضية الفلسطينية ولجرائم الكيان الصهوينى المحتل كيف ترى الأوضاع داخل الأراضى المحتلة الآن وهل نحن بصدد انتفاضة ثالثة؟ - الانتفاضة هى مؤشر يتكرر كلما وصل العجز السياسى العربى لمداه، حينها –بطبيعة الحال- تسترد الشعوب المبادرة وتعدل بدمائها الكفة التى مالت لصالح المستعمر الغربى والصهيونى! تتعرض المنطقة لما يشبه سايكس بيكو جديدة. حينما ارتدت الأنظمة العربية القديمة على ثوراتها، خلقت فراغا حقيقيا! هى أنظمة بلا ظهير شعبى حقيقى فى ظل تربص الثوار للكر عليهم مرة أخرى؛ هنا استغلت بعض القوى الإقليمية والدولية الفرصة وحاولت توظيف المشهد لصالحها. هناك تداخل بين الأنظمة القديمة وظهيرها من نخبة العسكر، وبين فرق الدين السياسى وبعض الفصائل السياسية المحسوبة تاريخيا على اليسار والليبرالية.. يوظفون بدائل سياسية للتملص من استحقاقات الثورة العربية الكبرى فى القرن الجديد، وسوف نظل فى انتفاضات متتالية وموجات ثورية متتابعة مهما طال الزمن، إلى أن تنتصر الثورة الوليدة وتخلق واقعا جديدا يدفع الصهاينة لحجمهم الطبيعى فيذوبوا داخل الكتلة العربية كشريحة من مشهد عام، أو ستخلق شتاتا جديدا يبشر به بعض الصهاينة الآن. ■ أشرت فى كتابك «خرافة التقدمية فى الأدب الإسرائيلي» إلى أن الكيان الصهيونى يعطى اهتماما كبيرا لترجمة أدبه وفنونه للعديد من اللغات العالمية، من أجل الدفاع عن قضيته فى حين يغيب الحضور العربى بصورة مفجعة، برأيك هل الأنظمة العربية وحدها تتحمل مسؤولية هذا الغياب، أم أن النخبة والمثقفين العرب يتحملون دورا أيضا؟ - أنت ترفع صوتك بالحديث حينما يكون لديك بضاعة لتعرضها؛ لكنهم يعتقدون أن دور الثقافة الطليعى والنخبوى انتهى، بل ينظرون لها كمصدر للخطر والقلق تهدد الاستقرار الهش فى الوعى الزائف والمشوه الذى خُلق عند شعوبنا! وفى هذا السياق يصر بعض «المندوبين الثقافيين» للسلطة على تقديم منتجات النصف الأول من القرن العشرين –على أهميتها طبعا- كممثل وحيد وحصرى للثقافة العربية فى القرن الجديد، فى مقابل تهميش أى نبت جديد قد يهدد التعريف الذى من خلاله يشغلون المشهد الثقافى كنخبة! هم لا يترجمون الأدب والفنون العربية لأنهم لا يملكون مشروعا وتعريفا للثقافة يضعها فى القلب وحجرا للزاوية من قضيتهم الوجودية! وتظل المحاولات الفردية لبعض النخب فردية، تظل فكرة طليعية دعوية تقف ضد نمط سائد تتحمل وزره الأنظمة العربية. ■ ما الجديد لديك خلال الفترة المقبلة؟ - على مستوى الشعر تطاردنى حالة ثوار مصر، والتجارب الإنسانية شديدة الزخم التى مررنا بها، تشغلنى مشاهد الجرافيتى بوصفها آثارا مدفونة وخبيئة بطبقاتها التى كلما مسحوها رسم الثوار عليها بالدماء حكاياتهم. يشغلنى مشهد الثوار المقبلون على الموت وهم واعون لذلك كل الوعى، ومفارقة بعض من كانوا يشاهدونهم «فرجة» كجماهير المسارح الرومانية القديمة التى تستمتع ب»المصارعين العبيد» وهم يساقون للقتل، أستحضر هنا جملة ترن فى آذانى من قبل المصارعين فى بدء النزال: «أولئك الذين على وشك الموت يحيونكم»! مشهد شديد التداخل والتدافع والسخونة فى مخيلتى. والكثير من اللحظات التى أختزنها؛ هناك داخلى ديوانا كاملا عن ثوار الشوارع والميادين وتلك الحالة التاريخية التى منّ علينا القدر بأن عشناها. وعلى مستوى الترجمة أنتظر قريبا تقديم إحدى المفاجآت الكبرى للثقافة العربية من خلال ترجمة لأحد كتب فيلسوف شهير جال صوته طويلا فى القرن العشرين. وعلى المستوى النقدى يشغلنى مشروع طموح لدراسة فى الشعر العربى حول العلاقة بين الأسطورة واستحضارها كبديل لهزيمة الذات، وخلق معادل بديل لانهيار الواقع.