كأنه يتحدث عن نفس المخططات الاستعمارية التي نراها الآن، أو أن التاريخ يكرر أحداثه أو تجمد وكأن عشرات السنوات لم تمر، هذا ما يشعر به قارئ كتاب «رسائل عن السودان» لمحمد نجيب الذي كتبه سنة 1943 و كشف فيه أسباب حرص الإنجليز علي الاستيلاء علي السودان وطبيعة العلاقة بين شعبي مصر والسودان. الحقيقة أن رسالة نجيب تحمل في طياتها ثلاث رسائل كتبها ما بين عامي 1943 و1949، كان يهدف من خلالها إلي إذابة إشكالية فهم "السودان" عن طريق التعريف بأهل جنوبالوادي بالعرض والتحليل، في رسالته الأولي التي حملت عنوان "ماذا يجري في السودان" أوضح نجيب بإيجاز جمود وإهمال الشعب المصري للشعب السوداني، والذي كان له أثر سلبي بالغ في ذاك الوقت من تيقظ الإنجليز للاستيلاء علي السودان، ليوجز نجيب أسباب الاستيلاء في سبع نقاط أهمها منع انتشار الإسلام والشيوعية في ممتلكاتهم بالجنوب، وحدة وادي النيل تمنحه قوة هائلة تضعه علي طريق الإمبراطورية والتي تتخذ موقعا استراتيجيا هاما، وكأنها العمود الفقري العربي الإسلامي، شرع نجيب في وصف الوضع الدولي للسودان باستعراض تاريخي، بدءا من "معاهدة لندن 1840" التي خولت لمحمد علي وخلفائه من بعده حكم مصر حكما وراثيا، وأن يكون له مدة حياته حكم المنطقة الجنوبية من سوريا، وأن يدفع جزية سنوية للباب العالي.. وفي حالة رفض محمد علي لهذه الشروط فإن الحلفاء سيلجون إلي القوة لتنفيذها، مرورا بالثورة الأهلية بالسودان التي قامت مابين 1881 و1892، ثم معاهدة لوزان في 1923 التي تنازلت فيها تركيا عن حقوقها بمصر لتصبح دولة وادي النيل المستقلة استقلالا كاملا. أشار نجيب في رسالته الأولي إلي التيارات السياسية بالسودان، التي كان من الصعب تحديدها آنذاك نظرا لاختلاف الزعامات التي تنوعت ما بين الدينية والقبلية والمحلية، إضافة إلي تقييد حرية التعبير بجميع صورها وخضوعها للترويج للسلطة، كما عمل الإنجليز علي استثمار طبقة المثقفين والتي أصبح معظمها من موظفي الدولة، مشجعين إقامة مؤتمر الخريجين ظنا من الإنجليز أنهم قد أحكموا النطاق حول المثقفين، لكن سرعان ما انقلب هذا المؤتمر ليصبح نواة للرأي العام السوداني الذي تمخض عنه عدد من الآراء السياسية المختلفة كرأي حزب الأشقاء، الاتحاديين، والأحرار، والقوميين وأنصار الاستقلال التام. انتهي نجيب في رسالته الأولي إلي مآخذ الإخوة السودانيين علي مصر والعكس، ليلخص مآخذهم في ثماني نقاط أهمها أو يجوز القول أساسها إهمال مصر للسودانيين، موضحا أن معظم هذه العيوب آخذة في الزوال بفضل السياسة الوطنية. أما مآخذنا علي السودان فأهمها هو تسرع السودان في إصدار أحكامهم علينا، والتي يكون معظمها حكما ظاهريا، وعن سبل العلاج أوصي نجيب بتطبيق مبدأ "لا فارق بين مصري وسوداني، بل إن للسوداني ما للمصري من حقوق وعليه ما عليه من واجبات". الرسالة الثانية بعنوان "يد الاستعمار علي حدود السودان" تناول فيها نجيب التعديلات والتغييرات العديدة التي أدخلها الاستعمار علي حدود السودان ومصر، ولقد تم اقتطاع أجزاء عدة من السودان وفق عدة اتفاقيات تمت، أولها اتفاقية الكونغو الحرة 1894، التي تم بمقتضاها اقتطاع مقاطعة اللادو، ثم اقتطاع بعض أجزاء الحدود الغربية وضمها إلي فرنسا 1919، والتنازل عن منطقة المثلث الشمالي الغربي للسودان لإيطاليا 1934 . الرسالة الثالثة والأخيرة بعنوان: "اللغة والأدب في جنوبالوادي"، وأكد فيها محمد نجيب أن اللغة العربية هي لغة الوادي والأغلبية العظمي بين أهل السودان، وأرجع احتفاظ السودان بلغتها العربية الصحيحة والدارجة دون خلطها بألفاظ أعجمية، لتفرق القبائل السودانية في المساحات الواسعة ولعدم اختلاطهم أيضا بالأجانب.