أطاح (الفعل الثوري) بالإدارة الحاكمة السابقة، وتغير الكثير في مصر، لكن التيارات الدينية السياسية لم تتغير بعد.. تزايد القلق منها.. وارتفعت معدلات الخوف مما إذا كان يمكن أن يحدث الاحتمال (الذي ليس بعيدا).. وهو أن يفوز (منتخب) من هذه الجماعات بأغلبية البرلمان القادم.. وبدأت الصحف ومراكز الأبحاث في الغرب تدق نواقيس التحذير.. وبعضها قال إن مصر في طريقها إلي الخومينية.. في صحفنا خلال الأيام الأخيرة قرأت ما لا يقل عن عشرة مقالات انتقادية لهذه التيارات. المؤشر المهم هنا ليس في تحفظات الغرب، وتوجس الجوار، خصوصاً في دول الخليج، أكرر (دول الخليج).. ولكن في أن قطاعات كبيرة من أصحاب الأصوات يوم الاستفتاء ذهبوا إلي الصناديق كي يقولوا (لا) دون أن يناقشوا مضمون هذه التعديلات.. وهل هي تستحق الرفض أو التأييد.. إنما فقط علي أساس أنهم يناقضون الموقف المؤيد للتعديلات الذي أعلنته التيارات الدينية. لم تعلن نتائج الاستفتاء بعد.. وأغلب الظن أن (نعم) سوف تفوز.. حتي لو كانت (لا) قد حظيت بعلامات ظاهرة. وإذا كان البعض قد قال (لا) رفضاً للموقف المعلن من (التيارات الدينية) فإن هذا لا يعني بالإجمال أن (نعم) هي تأييد لها. إذ وفقا لما أظهرته مؤشرات مختلفة فإن فئات عديدة من الجمهور قالت (نعم) لأنها تريد للعجلة أن تمضي في طريقها.. وأن يتجه البلد من مرحلة إلي أخري.. وأن يكون هناك استقرار.. لأن أغلبية من أعلنوا أنهم يؤيدون (لا) بوضوح هم من الفريق الذي يريد أن يتظاهر في ميدان التحرير طوال الوقت. أنا شخصياً قلت (لا)، رغم أني أؤيد مضمون التعديلات الدستورية في إجماله، ببساطة لأنني أري أن هناك ضرورة لأن يبقي المجلس العسكري الأعلي في سدة إدارة الدولة لفترة أطول.. رغم أنني عرفت وكتبت أن فريق (لا) ليس لديه القدرة علي أن يحشد التصويت من أجلها بطريقة منظمة وواسعة. الموضوع هنا هو الإحساس العام بالقلق من ( التيارات الدينية) المختلفة. أحاديثهم في وسائل الإعلام - علي تباين مواقفهم - لم تطمئن الجمهور.. هذا يتحدث عن القتل.. وذاك عن إقامة الحد.. وفئة ترفض ولاية الأقباط.. ومجموعة تقول إنه لا مكان للمرأة.. ولعل الجميع لاحظ ارتفاع معدلات تصويت النساء.. في سياق ارتفاع مهول للإقبال العام علي الاقتراع في مختلف أنحاء البلد.. خصوصا في المدن. الأخطر أن هناك فئات بين تلك التيارات واضحة جداً.. لكن هناك فئات أخري تراوغ طوال الوقت.. تقول بالنهار ما تناقضه ليلاً.. وتنفي في البرامج المسائية ما صرحت به أصواتها في صحف الصباح .. وقد يكون التطرف الواضح أقل خطورة من المراوغة. انتهي عصر مبارك.. وانحل مجلس الشعب المختلف علي شرعيته.. ولم تعد جماعة الإخوان (محظورة).. حدث هذا حتي قبل أن يغادر مبارك حكمه. وأعلنت الجماعة عن تكوين حزب. وأصبح التيار السلفي علنيا في الشوارع. وخرج زعماء الجهاد من السجون. وصار الجميع علي الشاشات وفي صفحات الجرائد.. واعتلي غالبيتهم المنابر بكل حرية.. لكن هذه الأريحية التي حصلوا عليها في العصر الجديد أشعرت الأخرين بأنهم سوف تقيد حريتهم هم. فلماذا حدث هذا؟ مبدئياً لأن هناك خلافات معلنة بين اتجاهات التيارات الدينية. تصريحات عبود الزمر مثلا تتحدث عن (تحالف سلفي -جهادي) ضد الإخوان.. وفي داخل الإخوان هناك خلافات عميقة إلي درجة الصراع بين حزب العدالة الذي اختارته الجماعة.. وحزب الوسط وحزب النهضة المستقلين عنها.. ناهيك عن وجود تيار داخل الإخوان يريد إلغاء الانتخابات الداخلية وإعادتها وفقا لمتغيرات المرحلة الجديدة. ومن جانب آخر فإن البديل الفكري الذي طرحه ممثلو تلك التيارات لم يكن عصرياً. بل له ملامح لا تتناسب مع قيم الفعل الثوري الذي يغير وجهة مصر. وثالثاً هناك ممارسات وقعت يوم الاستفتاء أثارت مخاوف كثيرة حين قرن بعض المحفزين علي التصويت ب (نعم) ما بين الدائرة الخضراء (تأييد التعديلات) ودخول الجنة.. وما بين (نعم) وكون صاحب الصوت مسلما أو مسيحيا.. فضلا عن كل ما قيل ويثار بخصوص المادة الثانية من الدستور التي لا أعرف من الذي فجَّر الحديث بشأنها الآن بينما لم تبدأ عملية إعادة كتابة دستور جديد.. وهي قد لا تبدأ قريباً. لاحظ هنا أن نجيب ساويرس - علي سبيل المثال- كان يهلل لمشاركة الإخوان في الحياة السياسية بعد أن أحرز الفعل الثوري نتيجته في 11 فبراير.. ثم تحول إلي النقيض خلال الأيام الأخيرة.. وهو ليس وحده في هذا السياق.. وأضف إلي ذلك أن وكالة الأنباء الفرنسية نسبت بداية التعدي علي محمد البرادعي إلي (اسلاميين).. وهو أمر لافت رغم أنه غير مؤكد. ولا ننسي في هذا السياق تجدد المظاهرات المتسائلة عن مصير (كاميليا شحاتة).. وتحذير مرشد الإخوان بأن حزب (العدالة) هو الوحيد الممثل للجماعة.. وبدأ ظهور شكايات من أعضاء الجماعة ضد اختيارات الجماعة.. والإعلانات التي تنشر في الصحف.. ولافتات بالشوارع تشير إلي خطابات مشايخ السلفية في المساجد.. بل عمليات صراع علي جوامع.. ومسائل كثيرة منها مثلا أنه حين كتب وزير الخارجية الجديد مقالاًَ يتمني فيه أن تصبح مصر دولة علمانية كان أن هوجم بعنف شديد في التعليقات علي المقال وتم تكفيره.. وقد أشرت إلي ذلك من قبل. مصر في 2011 ليست هي مصر في 1928 .. كما أنها ليست مصر في 1981 .. ولا هي حتي مصر في 2005 .. وهي كذلك ليست مصر 1974 أو مصر 1948 .. أو مصر 1954 .. أو مصر 1965 أو مصر 1992) . وكلها محطات ذات دلالة في تاريخ عمل التيارات الدينية. والإصلاح حين يطالب به الجميع فإنه لا يجب أن يكون مقصوراً علي الدولة فقط وإنما علي كل من يتفاعل علي الساحة.. منتمٍ للتيارات الدينية أو غيره.. الأحزاب مثلا لا بد لها من أن تغير في نفسها.. وإلا فإن القطار سوف يسبقها.. وكذلك التيارات الدينية يجب أن تستغل رفع الحظر السياسي عنها.. وإتاحة الفرصة لها.. في أن تحقق إصلاحا داخليا.. وإلا فإنها سوف تكون كمن لم تدر بالفعل الثوري.. وكثير منها تقول إنها شاركت فيه وكان لها قصب السبق علي الآخرين في مضماره. الإصلاح يقتضي الإقرار بالمادة الخامسة من الدستور.. وعدم خلط الدين بالسياسة.. والسيطرة علي الدعايات الطائفية.. وقبول الفكرة الديمقراطية يجب أن تسانده طمأنة حقيقية بأن من سوف يصل إلي الأغلبية لن يحولها إلي أبدية.. ولن يقضي علي الديمقراطية نفسها.. وإعادة إعمال العقل في الأدبيات التي تثير التحفظ لدي جهات أخري.. وتقديم تصور كامل ينبني علي مقومات العصر.. لا الخسر. الإصلاح يقتضي ألا نسمع أو نقرأ عن تكفير.. وألا يعطي أحد لنفسه أسبقية علي مواطن آخر بناء علي دينه.. وأن يكون الفيصل بين الناس هو الصندوق.. وأن يطرح الجميع أفكاراً للنمو والتطوير.. لا تقتصر علي القيم الأخلاقية التي تتعلق بملابس الناس وتصرفاتهم فهذه حسابها عند الله. سوف أفترض أن ما سمعناه في الأيام الأخيرة من ممثلي تلك التيارات كان مجرد (شحنة) مكبوتة في صدور السنين.. وأن ما سوف يلي ذلك هو حديث عقل وحكمة.. يتقبل قواعد الديمقراطية.. ويرتضي بأن يكون هناك توافق علي طريقة حكم الدولة من خلال القانون والدستور.. وأن الجميع سوف يقبل بذلك.. وأن المنهج الذي سوف نخضع له جميعا هو (المواطنة). [email protected] www.abkamal.net