لم يعد خافيا علي أحد مدي الشماتة والتشفي والشعور بالانتقام وتسيد مشاعر الغل والحقد التي بدت بشكل فوار وغلياني مقزز علي وجوه وألسنة وكتابات وبرامج كل الإعلاميين والصحفيين المسمون بالمستقلين والمعارضين فور سقوط نظام الرئيس مبارك، بل أقل ما يمكن أن يوصف به هذا المشهد أنه ثورة انتهازية انتقامية ضد كل الإعلاميين والصحفيين الذين كانوا يؤيدون نظام الرئيس مبارك في صراحة ووضوح. إنني لأشعر بالشفقة علي هؤلاء العاملين في الصحف الخاصة وفي الفضائيات الخاصة وأخص بالذكر نجوم (التوك شو) المسائي والبرامج الحوارية، أشفق عليهم من حالة التقمص المخادعة التي يعيشونها بعد ثورة 25 يناير، هذه الحالة التي أوهمتهم أنهم كانوا مناضلين شرفاء أبطال، وأنهم قدموا أثمانا باهظة في ساحات الوغي والمعارضة والقتال من أجل الحرية ضد نظام الرئيس مبارك، فويل لآفة النسيان وآفة (الاستهبال) وآفة (الاستعباط)، ويل لهؤلاء إن نسوا أنهم كانوا أوتادا لنظام الرئيس مبارك، وويل لهم إن نسوا أنهم كانوا يعملون وفق السقف المسموح به لهم من جهاز مباحث أمن الدولة يأتمرون بما أمر وينتهون عما نهي، فويل لهم إذ يتنازعون الآن جثة مباحث أمن الدولة، فيما أنهم قبل 25 يناير لم يجترئوا علي التفوه بكلمة (مباحث أمن الدولة) بخير أو بشر في أي من كتاباتهم أو برامجهم، وويل لهم إذ انقلبوا الآن علي الرئيس مبارك ونسوا فضله عليهم، إذ هو وحده الذي منحهم ووهبهم ومَنَّ عليهم بذلك الهامش من الحرية في برامجهم وكتاباتهم، ولم يكن لهم أدني فضل يذكر ولا أدني ثمن يذكر قد سبق وأن دفعوه لقاء الحصول علي ذلك الهامش من الحرية الذي كانوا يمرحون فيه ويرتعون، وويل لهم إذ تنكروا للرئيس مبارك الذي لولا تغاضيه عنهم وحمايته لهم وصبره عليهم وصفحه عنهم لما أصابهم ذلك القبس من الثراء والنعيم والأجور الباهظة التي جعلتهم نجوما وجعلتهم من المترفين. لم تكن قط معارضة من يعملون في الصحف الخاصة والفضائيات الخاصة للرئيس مبارك أو استقلاليتهم عن نظام حكمه معارضة حقيقية أو استقلالية نظيفة صادقة، كما يحاولون يائسين أن يوهمونا بذلك، بل كانت معارضة زائفة، واستقلالية كاذبة خاطئة، فلولا فضل وإنعام الرئيس مبارك عليهم بما كانوا فيه من هامش الحرية الذي لم يكونوا يحلموا به حتي وهم أجنة في بطون أمهاتهم، ولولا فضله ورحمته بهم أن أغدق عليهم بهذا الهامش من الحرية لكانوا جميعا في السجون أو منفيين خارج الوطن إلا قليلا ممن عادوا إلي رشدهم، ولكان مصيرهم مشابه لمصير كثير من الصحفيين والكتاب المعارضين في معظم الدول العربية الشقيقة والمجاورة، فمعارضة هؤلاء لم تكن سوي معارضة (السقف المتاح) معارضة (سوبر ستار)، معارضة (خمس نجوم)، معارضة الأجور الباهظة، والمكاتب المكيفة، والسيارات الفارهة، والبذات الفاخرة، والساعات الروليكس، والنجومية ذات الجماهيرية الواسعة، معارضة لا تجيد من أمرها شيئا سوي تدبيج المقالات (المقيفة) وتشكيل المسرحيات الهزلية في صورة برامج (توك شو) التي كانوا يتحفوننا بها كل صباح وكل مساء لانتقاد حكومة الرئيس مبارك ومعارضتها بحق أو بباطل. فويل لهؤلاء الذين قبلوا أن يكونوا ملك يمين الرئيس مبارك، وامتنعوا عمدا وبمحض إرادتهم عن انتقاد الرئيس مبارك أو توجيه اللوم له في أي شيء طيلة ثلاثين عاما، مما يبرهن أن هؤلاء لم يكن يعنيهم من قريب أو من بعيد من يحكم مصر الرئيس مبارك أو غيره بقدر ما كان يعنيهم الصمت والصمم والعمي والخرس عمن من يبْقِي لهم علي ما هم فيه من بحبوحة الدنيا ورغد العيش وترف الحياة، حتي لو تولي عليهم الشيطان، فويل لهؤلاء الذين باعوا ضمائرهم وقبلوا أن يمثلوا دور الوجه المضيء لنظام الرئيس مبارك، وويل لهم إذ رضوا لأنفسهم هامشا من الحرية كهبة ومنحة وهدية ألقي بها الرئيس إليهم، ونسوا أو تناسوا أن الحرية والحقوق لا تُوْهَب ولا تُهْدَي ولا تمنح ولا تهبط من السماء ولا تأتي بها المقالات العنترية ولا البرامج المسرحية ولا تظل رهينة السقف المتاح، إنما تنزع انتزاعا. إن هؤلاء الإعلاميين والصحفيين الذين كانوا ومازالوا يدعون الاستقلالية والمعارضة لم يكونوا يوما سوي معارضين شخصيين لأجل أنفسهم وذواتهم، ولأجل تنفيذ ما يريده رجال الأعمال أصحاب الصحف الخاصة والقنوات الخاصة، الذين استأجروهم واستخدموهم لحصد بعض المكاسب وبعض المزايا وبعض المزايدات وتصفية الحسابات هنا وهناك، كانوا معارضين أشبه بالجنود المرتزقة، فكانوا يرتزقون وينتفعون من معارضتهم الزائفة لحكومة الرئيس مبارك، ولم يكونوا معارضين من أجل الناس والوطن. إنهم عصابة من الخونة الذين خانوا أهل هذا البلد وخانوا قضاياه وتاجروا بآلامه واستثمروا جراحاته حين جلسوا خلف مكاتبهم المكيفة وأمام الكاميرات لا هم لهم سوي احتراف الكلام المكتوب والمسموع والمقروء، يتلقون الأوامر من مالكي الصحف ومالكي القنوات الفضائية التي هي في الأصل أوامر من مباحث أمن الدولة تحدد لهم ماذا يقولون وماذا لا يقولون، من يستضيفون ومن لا يستضيفون، من يهاجمون ومن يهادنون، من يفضحون ومن يسترون، دون أن يكون لهم موقف شخصي شريف نظيف محترم يرفض هذا ويحتج عليه. (البقية تأتي). * باحث إسلامى يقيم فى أسيوط