مع مرور الأيام وتعاقب الزمان يظل التاريخ يحمل لمصر فكرها وفقهها الوسطى الذى أنارت به الدنيا فكانت مهدا للوسطية من خلال فقائها الذين حملوا صحيح الدين ونشروا وسطيته، حتى أصبحت مصر مهدا لتلك الوسطية، رغم المحاولات التى تتم من قبل جماعات وتيارات لتشويه الفكر الدينى المصرى إلا أن جميعها تبوء بالفشل بفضل فقهاء الوسطية المصريين الذين جعلوا من بلدهم أبية على التشدد والتطرف لقد تحدث القرآن الكريم عن الحكمة وبين سبحانه أنه «يوتى الحكمة من يشاء»
«ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا»
ولقد آتى الله الحكمة داود عليه السلام: «وأتاه الله الملك ولاحكمة وعلمه مما يشاء»
وأتى الله الحكمة آل إبراهيم.. وأتى الله سبحانه محمدا صلى الله عليه وسلم الحكمة، وجعل شطر رسالته تعليم الحكمة:
«لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين».
ولقد ذكر الله سبحانه أمثلة للحكمة منها بعض ما أوحاه الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقال فى نهايته: «ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة».
«يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف إن تك مثقال حبة من خردل فتكن فى صخرة أو فى السموات أو فى الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير»
«يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور»
«ولا تصعر خدك للناس ولا تمش فى الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور وأقصد فى مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير»
وإننا إذا تروينا فيما ذكره الله سبحانه من الحكمة وجدنا أنها مبادئ فى العقيدة أصفى ما تكون العقيدة ومبادئ فى الأخلاق أكرم ما تكون الأخلاق.
تتضمن الحكمة إذن الصدق عقيدة وأخلاقا وأن كل ما يساير الدين الصحيح فى العقيدة والأخلاق هو من الحكمة.
وكلما استغرق الإنسان فى الجو القرآنى وفى الجو السلوكى للرسول صلى الله عليه وسلم ثم تحدث فى العقائد وفى الأخلاق مستمدا من القرآن والسنة وملتزما لأنوارهما فإنه ينطق فى إطار الحكمة.
والصوفية لما لهم من صحبة طويلة للقرآن واقتداء مستمر برسول الله صلى الله عليه وسلم ولما فى قلوبهم من نور القرآن وهدى السنة فإن كلماتهم تشتمل على كثير من ألوان الحكمة.
ونذكر لذى النون ما يأتي:
قال ذا النون: قال الحسن: «ما أخاف عليكم منع الإجابة وإنما أخاف عليكم منع الدعاء».
وقال ذا النون: «ليس بعاقل من لم ينصف من نفسه وطلب الإنصاف من الناس».
وقال: «كل مطيع مستأنس ولك عاص مستوحش وكل محب ذليل ولك خائف هارب وكل راج طالب».
وسئل ذو النون: ما سبب الذنب؟
قال: اعقل ويحك ما تقول فإنها من مسائل الصديقين سبب الذهب النظرة ومن النظرة الخطرة فإن تداركت الخطرة بالرجوع إلى الله ذهبت وإن لم تتداركها امتزجت بالوساوس فتتولد منها الشهوة وكل ذلك بعد ذلك باطن لم يظهر على الجوارح فإن تداركت الشهوة وإلا تولد منها الطلب فإن تداركت الطلب وإلا تولد منه الفعل.
وقال: من عرف قدر الدنيا كلها لم يكن للدنيا عنده قدر.
وقال: لم يزل المنافقون يسخرون بالفقراء فى كل عصر.
وقال سعيد بن الحكم: سئل ذو النون: من أدوم الناس عناء؟
قال: «أسوأهم خلقا».
قيل: وما علامة سوء الخلق؟
قال: كثرة الخلاف.
قال: وسمعت ذا النون يقول:
سئل جعفر بن محمد عن السفلة فقال: من لا يبالى ما قال ولا ما قيل فيه.
وقال يوسف بن الحسين: سمعت ذا النون يقول: من تزين بعمله كانت حسناته سيئات.
قال: وسمعت ذا النون يقول: أدنى منازل الأنس أن يلقى فى النار فلا يغيب همه عنم مأموله.
وقال نصر بن أبى نصر: قال ذو النون: الخوف رقيب العمل والرجاء شفيع المحن.
وسئل ذو النون: ما أخفى الحجاب وأشده؟
قال: رؤية النفس وتدبيرها.
وقال إسحاق بن إبراهيم الخواص: سمعت ذا النون يقول: من أدرك طريق الآخرة فليكثر مساءلة الحكماء ومشاورتهم وليكن أول شىء يسأل عنه: العقل لأن جميع الأشياء لا تدرك إلا بالعقل ومتى أردت الخدمة لله فاعقل لم تخدم؟ ثم أخدم.
وقال ذا النون: حرم الله الزيادة فى الذوق والإلهام فى القلب والفراسة فى الخلق على ثلاثة نفر على بخيل بدنياه سخى بدينه سيئ الخلق مع الله.
فقال له رجل: صف لنا سيئ الخلق مع الله فقال: يقضى الله تعالى قضاء ويمضى قدرا وينفذ علما ويختار لعبده أمرا فترى صاحب سوء الخلق مع الله مضطرب القلب فى ذلك كله غير راض به وإنما شكواه من الله إلى خلقه فما ظنك؟
وقال ذا النون: مفتاح العبادة الفكرة وعلامة الهوى متابعة الشهوات وعلامة التوكل انقطاع المطامع.
وقيل لذى النون: متى يأنس العبد بربه؟
قال: إذا خافه أنس به وإنما علمتهم أنه من واصل الذنوب نحى عن باب المحبوب.
وقال: من عمى عن عيوب نفسه انكشفت له عيون الناس فمقتته القلوب.
وقال:
«ما أعز الله عبداً بعز هو أعز له من أن يدله على ذل نفسه، وما أذلَّ الله عبداً بذُل هو أذل له من أى يحجبه عن ذل نفسه».
وقال:
«ليس بعاقل من تعلم العلم فعرف به، ثم آثر -بعد ذلك- هواه على عمله.. وليس بعاقل من طلب الإنصاف من غيره لنفسه، ولم ينصف من نفسه غيره.. وليس بعاقل من نسِى الله فى طاعته، وذكر الله تعالى فى مواضع الحاجة إليه».
«إن لله عبادًا أبصروا فنظروا، فلما نظروا عقلوا، فلما عقلوا علموا، فلم علموا، عملوا،
فلما عملوا انتفعوا، رفع الححاب فيما بينهم وبينه، فنظروا بأبصار قلوبهم إلى ما ذخر لهم من خفى محجوب الغيوب، فقطعوا كل محجوب، وكان هو المنى والمطلوب».
وقيل لذى النون:
ما علامة الأنس بالله؟
قال:
«إذا رأيت أنه يوحشك مِن خلقه فإنه يُؤنسك بنفسه، وإذا رأيتَ أنه يُؤنسك بخَلقه فأعلم أنه يُوحشك مِن نفسه».
ثم قال: الدنيا لله أمة والخلق لله عبيد: خلقهم للطاعة وضمن لهم أرزاقهم فحرصوا على أمته وقد نهاهم عنها وطلبوا الأرزاق وقد ضمنها لهم فلا هم على أمته قدروا ولا هم فى أرزاقهم استزادوا.
وقال ذا النون: المستأنس بالله فى وقت استئناسه يستأنس بجميع ما يرى ويسمع ويحس به فى ملكوت ربه والهائب له: يهاب جميع ما يرى ويسمع ويحس به فى ملكوت ربه.. ويستأنس بالذر فما دونه ويهابه.
وقال: من أنسه الله بقربه أعطاه العلم بغير تعب.
وعن أبى عثمان سعيد بن الحكم السلمى قال: سمعت ذا النون يقول: من رسخت عظمة الله فى صدره وجد لعبادته طعما حلوا.
وقال: من دلائل أهل المحبة بالله ألا يأنسوا بسوى الله ولا يستوحشوا مع الله لأن حبيب الله من أنس بالله لأن الله أجل فى صدورهم أن يحبوه لغيره.
قال: وسئل ذو النون: ما فساد القلب؟
قال: فساد القلب فساد النية إذا فسدت النية وقعت البلية.
وقال ذو النون: إذا لم يكن فى عملك حبى ثناء المخلوقين ولا مخافة ذمهم فأنت حكيم مخلص إن شاء الله.
وقال: من أحب الله استقل كل عمل يعمله.
وقال: من لم يعرف قدر النعم سلبها من حيث لا يعلم.
وقيل له: من أقرب إلى الكفر؟
قال: ذو فاقة.
وقال: ما خلع الله على عبد من عبيده خلعة أحسن من العقل ولا قلده قلادة أجمل من العلم ولا زينه بزينة أفضل من الحلم وكمال ذلك التقوى.
وقال رجل لذا النون: متى أزهد فى الدنيا؟
قال: إذا زهدت فى نفسك.
وعن يوسف بن الحسين قال: دخل ذا النون على مريض يعوده فرآه يئن.
وعن يوسف بن الحسين قال:
سمعت ذا النون يقول:
إذا سألنى السائل وكان مستحقا للجواب استفدت نصف الجواب من مسألته.
وعن أبى عثمان سعيد بن الحكم قال: سمعت ذا النون يقول:
ما طابت الدنيا إلا بذكره ولا طالبت الأخرة إلا بعفوه ولا طابت الجنان إلا برؤيته.
وعن محمد بن أحمد بن عبدالله قال: سمعت ذا النون يقول: طوبى لمن كان شعار قلبه الورع ولم يعم البصر قلبه الطمع وكان محاسبا لنفسه فيما صنع.
وقال: لا عيش إلا مع رجال تحن قلبوهم إلى التقى وترتاح إلى الذكر.
ودق عليه رجال الباب فشوش وقته فنظر إليه من عالم الهيئة وقال: اللهم من شغلنى عنك فأشغله بك.
وعن عبدالله بن سهل قال: سألت ذا النون فقلت: سألت ذا النون فقلت: متى أعرف ربي؟
قال: إذا كان لك جليسا ولم تر لنفسك سواه أنيسا.
قلت: فمتى أحب ربي؟
قال: إذا كان ما أسخطه عندك أمر من الصبر.
قلت: فمتى أشتاق إلى ربي؟
قال: «إذا جعلت الأخرة لك قرارا ولم تسم الدنيا لك مسكنا ودارا».
وفاته
أما عن وفاة ذى النون فإننا نكتفى بنقل النصوص الأتية:
يقول صاحب السر المكنون: روى المنذرى فى تاريخه عن أبى محمد بن رمان بين حبيب النضرى قال: لما مات ذو النون رأيت على جنازته طيورا خضرا فلا أدرى أى شيء كان؟ ومات عندنا بمصر فأمر أن يجعل قبره مع الأرض.
ويقول الإمام الشعراني:
منهم أبوالفيض ذو النون المصرى رضى الله تعالى عنه: واسمه ثوبان بن إبراهيم وكان أبوه نوبيا توفى سنة خمس وأربعين ومائتين وكان رضى الله عنه رجلا نحيفا تعلوه حمرة وليس بأبيض اللحية.
ولما توفى رضى الله عنه بالجيزة حمل فى قارب مخافة أن ينقطع الجسر من كثرة الناس مع جنازته ورأى الناس طيورا خضراء ترفرف على جنازته حتى وصلت إلى قبره رضى الله عنه.
ويقول صاحب «الكواكب الدرية»:
ودفن بالقرافة وقبره بها ظاهر مقصود بالزيارة وعليه أنس ومهابة.