ربما لم يتفاجأ العالم بحصول إيران على الضوء الأخضر من وكالة الطاقة الذرية لرفع العقوبات الدولية عنها، بعد أن أبدت طهران التزاما تاما خلال ال 90 يوما الماضية ببنود الاتفاق الذى وقعته مع القوى الكبرى فى فيينا قبل نحو ستة شهور، الأمر الذى قاد إلى إعلان وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبى فيديريكا موجيرينى ونظيرها الإيرانى محمد جواد ظريف فى فيينا أن المجتمع الدولى رفع كل العقوبات الاقتصادية المرتبطة بالبرنامج النووى لطهران، تنفيذًا للاتفاق النووى الذى وقع فى 14 يوليو 2015. هذا الواقع الجديد الذى سيخلفه رفع العقوبات الدولية المفروضة على طهران منذ سنوات يستلزم النظر إليه من عدة زوايا، منها ما يتعلق بالداخل الإيرانى، ومنها ما يتصل بتفاعلات إيران مع محيطها الإقليمى، بل وتأثير ذلك على تعاملات إيران مع العالم ككل.. وتفاعلها السياسى والاقتصادى مع التكتلات الدولية. فيما يتعلق بالتأثير المتوقع لرفع العقوبات الدولية على الوضع الداخلى فى إيران، فإن الرئيس الإيرانى حسن روحانى الذى أبدى ترحيبه برفع العقوبات، واعتبره «نقطة تحول بالنسبة لاقتصاد إيران»، سيكون مطالبًا الآن بتحقيق وعوده الانتخابية للإيرانيين، وأهمها الرفع التدريجى لمستوى معيشتهم، وهو ما يبدو حتى الآن أمرًا صعبًا رغم رفع العقوبات، بالنظر إلى حالة الانكماش غير المسبوقة التى يمر بها الاقتصاد الإيرانى، واستمرار معدلات التضخم حول 13% حاليًا، بالإضافة إلى انخفاض قيمة العملة الإيرانية، وهو ما يتزامن أيضًا مع تدهور أسعار النفط ووصوله إلى أقل من 30 دولارًا للبرميل ليزيد مهمة روحانى فى رفع معدلات النمو فى بلاده تعقيدًا. لكن الرئيس الإيرانى يسعى كذلك فى مرحلة ما بعد رفع العقوبات الاقتصادية عن بلاده، إلى تحقيق مكاسب سياسية داخلية إذا ما تمكن من تحقيق تحسن اقتصادى ملحوظ وسريع لشعبه المنهك من جراء الخنق الاقتصادى لسنوات طويلة، وهو يعلم أن هذا النجاح لو تحقق سيعزز موقعه مع اقتراب الانتخابات التشريعية فى بلاده خلال فبراير المقبل، بل وسيمكنه من الترشح بقوة فى الانتخابات الرئاسية المنتظرة فى 2017. ونتيجة لرفع العقوبات ستحصل طهران على مبالغ تتراوح ما بين 50 إلى 100 مليار دولار من الأصول المجمدة بالخارج، وستتمكن كذلك من استئناف بيع النفط فى الأسواق الدولية واستخدام النظام المالى العالمى فى حركة التجارة. على الصعيد الإقليمى، يدور الحديث منذ رفع العقوبات عن إيران حول طبيعة الدور الذى ستلعبه طهران فى المنطقة، وما إذا كانت ستجنح للصورة الذهنية السلبية التى يروج لها البعض، لتمارس دور الدولة ذات الأطماع التوسعية، وبخاصة إذا اتكأت هذه الأطماع على أسس دينية مذهبية لنشر المذهب الشيعى، بينما يرى آخرون أن إيران التى مارست أدوارا غير مباشرة فى المنطقة من خلال الحركات والجماعات التابعة لها فى كل من العراقوسوريا واليمن ولبنان وبعض دول الخليج، إنما لعبت هذا الدور بنشاط خلال السنوات الماضية لاستغلال هذه الأطراف التابعة لها كأوراق ضغط فى مفاوضاتها حول برنامجها النووى مع القوى الكبرى، وأن طهران سوف تسعى من الآن فصاعدا للعب أدوار أكثر رشدا مع جيرانها. ورغم ذلك، لا يمكن التغاضى عن تلك الحسابات المعقدة لعدد من القوى الفاعلة فى المنطقة مثل مصر والسعودية فيما يتعلق بعلاقاتها مع طهران، أو تجاهل التساؤلات التى تدور فى الأروقة حول طبيعة علاقات هذه القوى مع إيران فى المرحلة القادمة، كل هذا ستحكم عليه التطورات التى ستشهدها الأحداث المتشابكة بالمنطقة، وبخاصة فى كل من سوريا واليمن وليبيا والعراق، دون إغفال الدور الأمريكى أو بالأصح الرغبة الأمريكية فى تحقيق التوازن من عدمه فى المنطقة، وكذلك دخول الدب الروسى طرفا فى معادلات الحل فى المنطقة عبر البوابة السورية. على المستوى الدولى، ورغم المخاوف التى تبديها إسرائيل من توابع رفع العقوبات عن إيران، إلا أن هذه الهواجس لم تمنع معظم الحكومات الغربية من إعلان ترحيبها بالاتفاق النووى مع إيران، ورفع العقوبات عنها، بل إنها ذهبت إلى ما هو أكثر من ذلك حين استقبلت كل من إيطاليا وفرنسا زيارة مهمة للرئيس الإيرانى حسن روحانى بعد أسبوع واحد من رفع العقوبات، وهى الزيارة التى أسفرت عن توقيع عدد من الصفقات التجارية بين إيطالياوإيران، تقدر قيمتها بحوالى 18 مليار دولار، كما عقد روحانى فى باريس، صفقة مع شركة إيرباص لشراء 114 طائرة مدنية من المصانع الأوروبية، بالإضافة إلى توقيع عقود مهمة مع شركتى بيجو ورينو لتصنيع السيارات. ولم يؤثر فرض الولاياتالمتحدة لعدد من العقوبات الجديدة على إيران بسبب برنامجها الصاروخى واتهامها برعاية الإرهاب، على العديد من الشركات الأوروبية التى أعلنت عن استعدادها للعمل فى إيران، وإبرام صفقات تجارية معها بعد رفع العقوبات، ومن بين هذه الشركات إيرباص، وتوتال، وشل، وإينى، ودايملر للشاحنات. كما وقعت طهران خلال الأسبوع الماضى 17 اتفاقية مع الصين يقدر إجماليها بحوالى 600 مليار دولار فى عدد من المجالات من بينها الطاقة. أغلب الظن، أن الغرب قرر بالفعل أن يفتح صفحة جديدة مع إيران بعد أن استطاع تقليم أظافرها النووية، ومن المتوقع أن تسفر هذه الصفحة عن فوائد اقتصادية لكلا الجانبين، فأوروبا لن تترك مليارات إيران العائدة إليها تذهب بعيدا، بينما ستحاول طهران استغلال هذه الظروف المواتية لإنعاش اقتصادها وتنويع مصادره إلى أقصى درجة، انتظارا لما ستسفر عنه السنوات المقبلة من تطورات ربما تعيد الطرفين مرة أخرى إلى المربع الأول إذا ما عادت إيران القوية اقتصاديا لمراودة أحلامها وطموحاتها النووية من جديد.