كم كانت تلك البداية ذات أثر عميقٍ فى رؤيتى للحياة من حولي، يوم تفتحت عينى على طاقة نور، تلك التى أبصرتُ بها منابعَ الثقافةِ والأدب، فقد تأثرتُ كثيرًا منذ وعيت القراءة واستهوتنى المعرفة، بنجوم من رواد الفكر والأدب، أضاءوا سماء المعرفةِ فى عالمنا العربى، وخطوا لنا طريق النور والانفتاح على رؤية العالم من حولنا، وكان على رأسهم مى زيادة أيقونة هذا العالم ودرته، بما ملكته من روح شفافة، وقلم صادق، ونظرة حكيمة ثاقبة، وحب للجمال والخير، حتى إنها صارت فتاة أحلام أقرانها من المثقفين والأدباء، أولئك الذين كانوا يحفون من حولها فى صالونها الذى كان منارة للثقافة، يتبارى فيه فرسانُ المعرفة، كلٌ فى فنه وعلمه، وقد جعلت مى زيادة من منزلها مقرًا للصالون، وجعلت من قلبها الذى حلم الكثيرون من عمالقة عصرها فى الفكر، بنيل هوى ذاك القلب، حكرًا على جبران خليل جبران، الشاعر والأديب اللبناني، والذى راسلته على مدى سنوات فى مهجره بالولايات المتحدةالأمريكية. أما الأيقونة الثانية التى تأثرت بها، فكانت عميد الأدب العربى د. طه حسين ، تأثرت بشخصيته قبل فكره، تأثرت بمواقفه مع الحياة، وصراعه فيها، وانتصاره فى كل معاركها، وكيف استطاع وهو صاحب الإعاقة البصرية، أن يستبدل نور بصره الذى فقده، بنور البصيرة النافذة الثاقبة، تلك التى أوصلته للصدارة فى المحافل العلمية، واعتلاؤه لمناصب مهمة إثر عودته من فرنسا، عام 1919، فعين أستاذا للتاريخ اليونانى والرومانى، ثم أستاذا لتاريخ الأدب العربى بكلية الآداب، ثم عميدًا للكلية. وفى 1942م عُيِّن مستشارًا لوزير المعارف، ثم مديرًا لجامعة الإسكندرية. وفى 1950م أصبح وزيرًا للمعارف، وقاد الدعوة لمجانية التعليم وإلزاميته، وكان له الفضل فى تأسيس عدد من الجامعات المصرية. وفى 1959م عاد إلى الجامعة بصفة أستاذ غير متفرِغ ، وتسلم رئاسة تحرير جريدة الجمهورية. ولم تكن تلك المكانة المرموقة التى وصل إليها طه حسين أن تتيسر له لولا خوضه غمار رحلة شاقة بدأها منذ نعومة أظفاره، مرحلة فى العناء والمثابرة تسلم أخرى، وكد وتحصيل للعلم دونما أن تفتر له همه.. حين نقف أمام عملاق فى المعرفة قلما يجود الزمان بمثله.. خاض فيها رحلة طويلة فيها من العبر والدروس، ما نستلهم به العزم والمثابرة والمرابطة على التعليم والتعلم، كضمانة أكيدة لخروجنا مما نحن فيه من تخبط وارتباك.. بدأت قصتها فى قرية صغيرة تسمى الكيلو بمحافظة المنيا، يوم ميلاد أديبنا الكبير (طه حسين على سلامة / فى نوفمبر من عام 1889م) وتداهم الطفل طه حسين أعاصير الأقدار تلك التى تطوى فى جنباتها رحمات من الحكمة، لم يكن ليدركها الصغير ساعتها، يوم فقد بصرَه فى الرابعة من عمره، إثر إصابته بالرمد، لكن ذلك لم يُثنِ والده عن إلحاقه بكُتَّاب القرية، حيث فاجأ الصغير شيخه محمد جاد الرب بذاكرة حافظة وذكاء متوقد، مكَّنَاه من تعلُّم اللغة والحساب والقرآن الكريم فى فترة وجيزة، ليلتحق بالتعليم الأزهرى، ثم كان أول المنتسِبين إلى الجامعة المصرية سنة 1908م، وحصل على درجة الدكتوراه سنة 1914م، لتبدأ أولى معاركه مع الفكر التقليدى؛ حيث أثارت أطروحته (ذكرى أبى العلاء) موجة عالية من الانتقاد.. ثم أوفدته الجامعة المصرية إلى فرنسا، وهناك أَعَدَّ أُطروحة الدكتوراه الثانية: (الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون) فى جامعة مونيلييه بفرنسا، واجتاز دبلوم الدراسات العليا فى القانون الروماني. وكان لزواجه بالسيدة الفرنسية (سوزان بريسو) عظيم الأثر فى مسيرته العلمية والأدبية؛ حيث قامت له بدور القارئ، كما كانت الرفيقة المخلِصة التى دعمته وشجعته على العطاء والمثابرة، وأتت له باثنين من الأبناء: (أمينة ومؤنس). تميز د. طه حسين بأسلوبه المميز الغارق فى بحر اللغة العربية الرصينة، وتمسكه بالحفاظ عليها، عكس ما فعله مع أطر التفكير العتيقة، تلك التى نسفها نسفا، ومزج بين الأصالة والمعاصرة، فيما قدمه من فكر وأدب أثرى فيها المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات والترجمات، وكانت أعماله تكرِّس للتحرر والانفتاح الثقافي، مع الاعتزاز بالموروثات الحضارية القيّمة عربيةً ومصرية، ويقف على الصدارة من مؤلفاته المتنوعة فى شتى مناحى المعرفة (الفتنة الكبرى عثمان.. الفتنة الكبرى على وبنوه.. فى الشعر الجاهلي.. الأيام.. دعاء الكروان.. شجرة البؤس.. المعذبون فى الأرض.. على هامش السيرة.. من حديث الشعر والنثر.. مستقبل الثقافة فى مصر.. الشيخان.. الوعد الحق.. مع أبى العلاء فى سجنه.. فى تجديد ذكرى أبى العلاء.. وغيرها العديد). ومن أقواله المأثورة: (أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أندادًا، ولنكون لهم شركاء فى الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب). توفى طه حسين يوم الأحد 28 أكتوبر 1973م.. قال عنه عبَّاس محمود العقاد: إنه رجل جرىء العقل مفطور على المناجزة والتحدي، فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافى بين القديم والحديث، من دائرته الضيقة التى كان عليها، إلى مستوى أوسع وأرحب بكثير.. رحم الله رائد الفكر التنويرى فى العصر الحديث، عميد الأدب العربى/ طه حسين .