لم تكن الدعوة التى أطلقها الإمام محمد عبده وتلميذه قاسم أمين، إلا بداية طريق طويل فى الإصلاح لم يقطع منه حتى الآن سوى مسافة قصيرة، فقد قامت دعوة الإمام وتلميذه الإصلاحية على أن لا نهضة للمجتمع وتقدم من دون مراجعة وضع المرأة لتكون فى مكانها الصحيح، متحررة من قيود الجهل والتخلف، حين يكون لها نصيب فى التعليم، دون إهدار حقها الذى منحها إياه الشرع والفطرة الإنسانية.. فالمراة هى شطر المجتمع والنهوض بها نهوض بالمجتمع، لكن تلك الدعوة وإن واجهت صعابًا حين أطلقها الإمام محمد هبده وقاسم أمين، إلا أنها وجدت صداها فى نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فانبرى كبار الشعراء تأثرًا بها، وعلى رأسهم أمير الشعراء إذ قال: وإذا النساء نشأن فى أمية رضع الرجال جهالة وخمولا وقال حافظ إبراهيم: الأم مدرسة إذ أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق وكم كانت تلك الدعوة المباركة ملهمة لكثيرات من النساء، نبغن فى شتى المجالات من فن وأدب وسياسة وفكر، وقدمن للأمة ما ينير لنا طريق الغد، وكان منهن لبيبة هاشم وملك حفنى ناصف وعائشة التيمورية وهدى شعراوى ومى زيادة وصولا إلى مفيدة عبد الرحمن وعائشة عبد الرحمن ونعمات فؤاد وفدوى طوقان ونازك الملائكة وسهير القلماوى وغيرهن. وتقف الرائعة والأديبة المفكرة مى زيادة على منبر الشهرة منهن جميعا، وهى التى جمعت بين الجمال والعقل، وأحاطت سعة إطلاعها بالثقافة العربية والغربية، وحازت منهما النصيب الأوفر، فضلا عن إتقانها اللغة الفرنسية والإنجليزية والألمانية، وكانت محط إعجاب رؤوس الفكر والأدب فى زمانها.. إنها مارى بنت إلياس المعروفة بمى، لبنانية الأصل من كسروان، ولدت فى الناصرة بفلسطين عام 1886م والتحقت بإحدى مدارسها، ثم عاد والدها إلى لبنان والتحقت بمدرسة عين طورة، وجاءت إلى مصر بصحبة والديها وأقاموا بها، وكتبت مى بمجلة «المحروسة» ثم «الزهور». وأسست مى صالونًا أدبيًا فى عام 1913م وقد كان صالونها حدثا فريدا فى تاريخ المجتمع العربى، وإن كانت له سوابق فى تراثنا فالسيدة سكينة بنت الحسين وهى شاعرة وناقدة كانت تستقبل الشعراء فى بيتها وتكلمهم ولكن من وراء حجاب، ويلتف حولها أعلام السياسة ونبغاء الأدب والفكر، بل إن يوم الثلاثاء ذاك الذى كان موعدًا محددًا للصالون، كانت تخرج منه أفكار تولدت منها أهم كتب المبدعين والأدباء.. وكان يحضره عمالقة الأدب ورواد السياسة ومشاهير العلماء وأعيان البلد ك محمد عبده ومصطفى عبد الرازق وأحمد لطفى السيد وقاسم أمين وطه حسين ومصطفى صادق الرافعى وخليل مطران وإسماعيل صبرى وعباس محمود العقاد وغيرهم. وتواصلت حلقات صالون مى لما يقرب من 25 عاما، ويصف لنا أبرز ملامح صالونها الدكتور طه حسين بقوله: «كان صالونها ديمقراطيًا أو مفتوحًا لا يُرد عنه أحد»، كما قال العقاد عنها: «إنها كانت مثقفة قوية الحجة، اهتمت بتحرير المرأة وإعطائها حقوقها».. وقال عن صالون مى الشعر إسماعيل صبرى: روحى على بعض دور الحى حائمة كظامئ الطير تواقا إلى الماء فقدمت مى أقرب الناس لها، حيث توفى أبوها ثم أمها فى نفس العام 1932م وصارت رهينة للحزن والكآبة والملل، فقررت عدم الزواج رغم عروض أتتها من كثيرين هم من علية القوم ثقافة ومكانة.. وقد أحبها أدباء عصرها وتيموا بها وراحوا يحلقون فى سماء جمالها الرحبة الفسيحة.. من هؤلاء مصطفى صادق الرافعى وعباس محمود العقاد وجبران خليل جبران الذى عرفها عن بُعد وهو فى المهجر الأمريكى وكانت العلاقة بينهما عبر الرسائل المتبادلة، لكن الوحيد الذى استقر فى القلب من دون هؤلاء وغيرهم، هو جبران خليل جبران، أحبته مى حبا لم تذق طعمه إلا معه، رغم بُعد المسافات وانعدام اللقاء، فأخذ الإعجاب سبيله لقلبيهما عبر الكلمات التى كان يرسلها جبران من مهجره بأمريكا، وقد كان جبران جديرًا بإعجاب مى له، وهو المعروف بالرومانسية الجارفة ونزعته التحررية التنويرية وأفكاره البديعة الخلاّبة، وعباراته الرشيقة المتأنقة، وقد شكّل خبر وفاته عام 1931م ضربة قاصمة لمى لم تتحملها فزاد تصميمها على الإحجام عن الزواج. ويداهم المرض الأديبة الرائعة مى وتحجم عن الناس وتعتزل مجالس الفكر والثقافة، ويصيبها الأسى والحزن ذاك الذى بدأ رحلته معها منذ رحل جبران خليل جبران، فمنذ خبر وفاته وأحست أنها وحيدة فى هذا العالم، رغم أنها كانت لا تشعر الملتفين حولها بمكنون ألمها، ويأتيها المرض فتجد الناس وقد تركوا السؤال عنها فاستشعرت غربة جافية وتدهورت حالتها حتى وافتها المنية بمستشفى المعادى بالقاهرة وهى فى الخامسة والخمسين من العمر، ويوم شيعت جنازتها فى عام 1941م ولم يمش وراءها رغم شهرتها ومعارفها وأصدقائها الذين هم بغير حصر سوى ثلاثة من الأوفياء: أحمد لطفى السيد وخليل مطران وأنطوان الجميل. ورحلت مى زيادة لتترك لنا من المؤلفات المهمة وأشهرها: «باحثة البادية» و«بين المد والجزر» و«سوانح فتاة» و«كلمات وإشارات» و«ظلمات وأشعة» و«ابتسامات ودموع»، لقد كانت مى زيادة محبة للعروبة ملمة بالأدب العربى وعلومه إلماما أدهش الرواد من أدباء عصرها.