إن الوضع السورى شديد التعقيد، ولن يسمح لأحد بتحقيق انتصارات حاسمة، ولا يمكن أن يتصور أحد أن بوتين يخطط لإعادة الوضع السورى إلى ما كان عليه قبل أربعة أعوام، كما يصعب تصور أن تقضى الغارات الروسية على المعارضة بأكملها. فلابد من الانتظار لمعرفة حدود وأهداف التدخل العسكرى الروسى.. هل هو بالفعل لضرب «داعش» أم لإضعاف المعارضة السورية بمختلف توجهاتها، أم لدعم وإطالة عمر نظام بشار الأسد، أم لضمان قاعدة عسكرية بحرية فى طرطوس تستمر لسنوات طويلة قادمة؟إن الأخطاء الأمريكية فى إدارة المشهد السورى قد منحت بوتين فرصة ذهبية للتدخل العسكرى، عبر تخبطها سياسيًا وعسكريًا، وهو مشهد لا يزال مستمرًا إلى الآن. فقد لمس بوتين تخاذلاً فى المعسكر الغربى بقيادة أوباما، فلم يشأ إضاعة الفرصة، فضم جزيرة القرم ودعم الموالين داخل أوكرانيا، ونجح وحصل على ما يريد، غير مهتم بالعقوبات الدولية. ويمكن قراءة التدخل الروسى فى سوريا على أنه ضمان لمنطقة نفوذ روسى جديد فى الشرق الأوسط، فالحضور القوى فى البحر المتوسط بقاعدتين جوية وبحرية، يضمن لروسيا نفوذًا عسكريًا على شمال أفريقيا وجنوب أوروبا وفرض أمر واقع دولى جديد. لقد وجد بوتين فراغًا كبيرًا فى المنطقة بسبب سياسات أوباما المتخاذلة، فجاءت روسيا لملء هذا الفراغ. تحذير أوباما قمة الفشل الأمريكى فى تناول المسألة السورية جاءت على هامش اللقاء بين أوباما وبوتين خلال اجتماعات الدورة ال 70 للأمم المتحدة، عندما وجهت الإدارة الأمريكية الانتقادات إلى روسيا لأنها ترسل الأسلحة والجنود والخبراء العسكريين إلى طرطوس، فى حين أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أنها ستتوقف لفترة عن تدريب مقاتلى المعارضة السورية - المعتدلة - وتسليحهم، لحين مراجعة هذا البرنامج والنتائج الهزيلة التى حققتها، والطريف أن البرنامج لم يشمل سوى مجموعتين من 54 و70 مقاتلاً، فى حين تتحدث واشنطن عن 30 أ لف إرهابى التحقوا من الغرب ب «داعش». ومن جهة أخرى حذّر أوباما من أن الحملة العسكرية الهجومية الروسية فى سوريا لدعم بشار الأسد ستؤدى إلى كارثة مؤكدة وستجر موسكو إلى مستنقع يصعب الخروج منه. وقال أوباما إن الرئيس بوتين لا يفرق بين تنظيم «داعش» والمعارضة السورية المعتدلة التى تريد رحيل الأسد، وأضاف «من وجهة نظرهم كل هؤلاء إرهابيون.. وهذا يؤدى إلى كارثة مؤكدة». واتهم الرئيس الأمريكى موسكو بدعم نظام مرفوض من قبل الغالبية الكبرى للشعب السورى. وقال أوباما إنه يرغب فى العمل مع بوتين خصوصًا إذا ساعدت موسكو فى تسوية سياسية بدلاً من مضاعفة دعمها العسكرى للأسد. فارق زمنى ولكن هل يستطيع أحد أن يفسر معنى أن يحدد الروس 4 أشهر عمرًا افتراضيًا لحملتهم العسكرية ضد الإرهابيين فى سوريا، بعد أن رسم الأمريكيون قبلهم خريطة زمنية تصل إلى 10 سنوات لمحاربة «داعش»!. فقد مر أكثر من عام على حرب «التحالف الدولى» الذى تقوده واشنطن على الإرهاب فى سوريا والعراق، ولم تظهر نتائج ملحوظة، لا فى ضرب البنية التنظيمية ل «داعش» ولا فى الحد من تمدده، فى الوقت الذى شلت فيه الغارات الروسية قدرة تنظيمات مسلحة متعددة فى سوريا خلال أيام قليلة. وما حدث فى إدلب والرقة ودير الزور خير دليل، فهناك انسحابات لمسلحى «جبهة النصرة» و»جيش الفتح» و»أحرار الشام» نحو الحدود التركية، وهى مجموعات تحظى بدعم تركى - غربى - عربى.. وانسحاب تدريجى لمقاتلى «داعش» نحو الأراضى العراقية. ويشرح الخبراء كيفية عمل الغارات الروسية، بأنها تتدرج فى ضرب المجموعات ضمن خطة تستهدف مراكز المسلحين بما تحويه من معدات وضرب تحركاتهم فى كل المناطق، بما يعنى منع الإمدادات العسكرية، والتركيز على مراكز التدريب ومخازن الأسلحة والمؤن.. ومحاصرة المسلحين ضمن مناطق معزولة عن بعضها. أين الجيش الحُر؟ وتنتقد دول الغرب والولاياتالمتحدةالأمريكية الاستراتيجية الروسية فى سوريا، بضرورة ألا تستهدف الضربات - الفصائل المعتدلة - التى تتلقى دعمًا منها.. وبحسب الاستخبارات البريطانية فإن 5% فقط من الضربات الروسية استهدفت «داعش» ومعظم الغارات استهدفت فصائل معتدلة. وفى رد لوزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف ذكر أن موسكو مستعدة لإقامة اتصالات مع الجيش الحُر فى سوريا، إن وجد هذا التنظيم على الأرض بالفعل. وأكد لافروف إن «الجيش الحُر» بات وهميًا.. وعلى الأقل طلبت من وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى تقديم معومات ما حول مواقع هذا الجيش. وأضاف «ولم يقل أحد لنا حتى الآن أين يعمل هذا الجيش الحُر أو أين وكيف تعمل وحدات أخرى مما تسمى بالمعارضة المعتدلة». وأشار إلى أن القيادة الأمريكية نفسها تعتبر نتائج ضرباتها فى سوريا متواضعة، فضلاً عن فشل تدريب ما يسمى بالمعارضة المعتدلة. مصير الأسد وبعد أن أصبح مصير بشار الأسد قضية خلافية، وهل يكون جزءًا من ترتيبات الحل، أم أن وضعه كسبب من أسباب المأساة التى تعانى منها سوريا وشعبها يقتضى استبعاده من أى معادلة حل مستقبلية. ورغم ظهور ما يشبه الإجماع العالمى على تبنى الحل السياسى إلا أن الخلافات اتضحت حول مصير الأسد أو استمراره فى السلطة. وجاء الدخول الروسى القوى فى سوريا مبديا استعداده لمحاربة الإرهاب، وإصراره على التمسك ببقاء الأسد فى السلطة، وعلى أن محاربة الإرهاب لا تتم دون مشاركة الجيش السورى النظامى. وكان بوتين يدرك جيدًا أنه لا يمكنه اتخاذ كل هذه الخطوات لولا الفشل الأمريكى فى قيادة التحالف الدولى ضد الإرهاب، فالغارات الأمريكية وبعد أكثر من عام لم تستطع وقف تمدد «داعش». ومحاولات واشنطن لتدريب وتسليح معارضة سورية معتدلة باءت بالفشل المقترن بالفضيحة بعد تسليم تلك العناصر أسلحتها إلى «جبهة النصرة». لقد تحول الأسد إلى عقدة اختلف حولها أوباما وبوتين، ففى حين يقول أوباما إن الأسد طاغية وقاتل أطفال، وأنه لا مكان له فى المرحلة الانتقالية، يقول بوتين إن عدم التنسيق مع الأسد والجيش السورى خطأ فادح. ورغم الاختلاف فالنتيجة الموضوعية للموقفين متشابهة، لأن بوتين يضع السوريين أمام خيار ديكتاتورية الأسد وإما الإرهاب. وهو نفس الخيار الذى عكسته سياسة أوباما منذ البداية، عندما ترك الشعب السورى يذبح من النظام الديكتاتورى ومن التنظيمات الإرهابية، فزاد عدد القتلى عن 250 ألفًا واللاجئون تجاوز عددهم 11 مليونًا. وتبقى استراتيجية أوباما فى مواجهة المأساة السورية محيرة، من الخط الأحمر الذى حدده بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية فى صيف 2013 حول شن ضربات ضد بشار الأسد إثر استخدامه أسلحة كيماوية راح ضحيتها 1400 سورى، ثم تراجع أوباما عن شن الضربات.. ثم جاءت تطورات الأيام الأخيرة حين بدأ بوتين غاراته الجوية فى سوريا ليزداد تسليط الضوء على التردد الأمريكى، ويتساءل السيناتور الجمهورى جون ماكين «هل أعلن أوباما تقاعد الولاياتالمتحدة فى الشرق الأوسط؟!».