ارتفاع احتياطي النقد الأجنبي لمصر إلى 49.533 مليار دولار بنهاية سبتمبر    87 حملة تفتيشية و56 مخالفة للنيابة.. التنمية المحلية تواصل التصدي للبناء المخالف    6 أكتوبر 2025.. أسعار الحديد والأسمنت بالمصانع المحلية اليوم    وزير الخارجية الألماني يعلن توجهه إلى مصر للمساهمة بمفاوضات السلام في غزة    إيران: ندعم أي مبادرة لوقف القتل في غزة    وكيل فيريرا: نتفهم غضب جماهير الزمالك.. لكن لا يوجد فريق يفوز دائمًا    مصرع عامل إثر سقوطه من مكان مرتفع داخل مصنع بمدينة 6 أكتوبر    اليوم.. خالد العناني يخوض سباق اليونسكو ضد ماتوكو    اليوم.. ختام فعاليات الدورة ال41 من مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط    الرعاية الصحية: بحث آليات التعاون مع هيئة الدواء لتفعيل الشراكة مع روسيا في مجالات الطب النووي والعلاج الإشعاعي ولقاح السرطان EnteroMix    للمسنين.. 5 نصائح ذهبية لنوم مريح بعيدا عن الأرق    الرئاسة الفرنسية: ماكرون يقبل استقالة سيباستيان ليكورنو    العالم هذا الصباح.. السعودية: جميع حاملى التأشيرات بمختلف أنواعها يمكنهم أداء مناسك العمرة.. تصرفات ترامب الغريبة تفتح الباب حول حالته الذهنية.. وناشطة سويدية تثير الجدل بعد احتجازها فى إسرائيل    الرئيس السيسي يوجه التحية لترامب لمبادرته لوقف إطلاق النار في غزة    حدث في أمريكا .. قاضية فيدرالية تمنع ترامب من نشر الحرس الوطنى فى ولاية أوريجون    ترتيب الدوري الإيطالي بعد نهاية الجولة السادسة.. صراع ناري على الصدارة    كامل الوزير يبحث مع وفد البنك الدولى تطوير لوجستيات التجارة بين القاهرة والإسكندرية    كأس العالم للشباب - منتخب السعودية ينهي المونديال بنقطة    وليد صلاح الدين: لا صحة لمشادة أفشة مع الجهاز الفني.. والشائعات أصبحت متكررة    أسعار البيض بكفر الشيخ اليوم الإثنين 6 أكتوبر 2025    ضربات متتالية للأمن الاقتصادي وحملات مكثفة تضبط مخالفات كهرباء وضرائب ومباني    ضبط ورشة لتصنيع الأسلحة البيضاء فى إمبابة والتحفظ على أكثر من ألف قطعة    انخفاض طفيف في درجات الحرارة بكفر الشيخ الإثنين 6 أكتوبر 2025    أسعار الخضراوات والفاكهة بكفر الشيخ الإثنين 6 أكتوبر 2025    رئيس هيئة سلامة الغذاء يلتقي الشركات المصرية ويبحث التوسع في المكاتب لتسهيل إجراءات التسجيل والتصدير    جمهور آمال ماهر يتفاعل مع سكة السلامة واتقى ربنا فيا بقصر عابدين    ما حكم وضع المال فى البريد؟.. دار الإفتاء تجيب    دار الإفتاء: الاحتفال بنصر أكتوبر وفاء وعرفان لمن بذلوا أرواحهم فداء الوطن    كامل الوزير يهنئ الرئيس السيسي بذكرى انتصارات أكتوبر: ملحمة خالدة تلهم الأجيال    الرئيس السيسي: الأمن والاستقرار المستدامين لن يتحققا إلا من خلال سلام عادل وشامل    رئيس وزراء باكستان يؤكد التزام بلاده بتعزيز العلاقات مع ماليزيا    نجم ريال مدريد يقترب من الرحيل في الشتاء    مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-10-2025 في محافظة الشرقية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-10-2025 في محافظة قنا    «الداخلية» تقرر السماح ل 84 مواطنًا مصريًا بالحصول على جنسيات أجنبية    لهذا السبب.. ضياء الميرغني يتصدر تريند "جوجل"    معهد التغذية يحذر الأمهات من إهمال وجبة الإفطار للأطفال: مفتاح النشاط والتركيز    " التعليم " تكشف أهمية التقييمات الأسبوعية والاختبار الشهري لصفوف النقل.. تعرف عليها    «الإحصاء»: معلم لكل 28 تلميذًا في مصر خلال العام الدراسي 2024 2025    اليوم أم يوم الخميس؟ تعرف على الموعد الرسمي لإجازة 6 أكتوبر 2025    وظائف مصلحة الطب الشرعي 2025.. خطوات التقديم إلكترونيًا والشروط المطلوبة    ماذا قال رئيس الاتحاد السكندري عن الدوري الاستثنائي وأحمد دياب ؟    نهر النيل لا يعرف الهزيمة    عيد ميلاد عزيز الشافعي.. رحلة نجاح بدأت من الحلم ووصلت إلى القمة    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الاثنين 6 أكتوبر    مزيج بين الجريمة والدراما.. موعد عرض مسلسل المحتالون التركي الحلقة 1    «العناني» يقترب من منصب المدير العام الجديد لليونسكو    بسبب الأطفال.. مصرع سيدة في مشاجرة بكفر الشيخ    منتخب مصر يودّع كأس العالم للشباب رسميًا    سكته قلبية.. وفاة شخص قبل نظر نزاع على منزل مع زوجته وشقيقه بمحكمة الإسكندرية    يلا كورة بث مباشر.. مشاهدة السعودية × النرويج YouTube بث مباشر دون "تشفير أو فلوس" | مباراة ودية دولية 2025    السفارة التركية بالقاهرة تحتفل بالذكرى المئوية للعلاقات بين مصر وتركيا    البابا تواضروس الثاني يزور إيبارشية أبوتيج وصدقا والغنايم    31 مرشحًا خضعوا للكشف الطبي بالفيوم.. ووكيلة الصحة تتفقد لجان الفحص بالقومسيون والمستشفى العام    هناك من يحاول التقرب منك.. حظ برج القوس اليوم 6 أكتوبر    اعرف مواقيت الصلاة اليوم الأثنين 6-10-2025 في بني سويف    فنانة تصاب ب ذبحة صدرية.. أعراض وأسباب مرض قد يتطور إلى نوبة قلبية    على زعزع يخضع للتأهيل فى مران مودرن سبورت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قناة السويس.. قصة وطن
نشر في أكتوبر يوم 02 - 08 - 2015

قناة السويس لها حكايات كثيرة يرويها لنا المؤرخون وشهود العيان، وتحكى فصول الحركة الوطنية فى مصر قديما وحديثا.
ويحكى لنا المؤرخ الدكتور السيد حسين جلال الأستاذ بكلية الآداب جامعة الإسكندرية ورئيس المعهد البحرى بهيئة قناة السويس سابقاً عن خبايا مؤامرة شركة قناة السويس لمد امتيازها فترة أخرى، وتمثلت أطراف المؤامرة فى شركة قناة السويس من جهة وسلطات الاحتلال البريطانى من جهة أخرى.أما شركة قناة السويس فكانت تمثل قمة النهب الاستعمارى المنظم والمستمر لمورد طبيعى من موارد مصر (قناة السويس) التى تجرى فى أرضها وحفرت بأيدى أبنائها فكانت أشبه بوريد يمر فى جسد مصر، ولكنه يصب فى جيوب المساهمين الفرنسيين والحكومة البريطانية ملايين الفرنكات كل عام، وقد سعت الشركة فى محاولات متعددة لمد امتيازها وكانت آخرها المحاولة الرابعة (1908- 1910) مستغلة حاجة الحكومة المصرية للمال فسارعت إلى عرض مشروع مد امتيازها 40 عاماً أخرى -وكانت فترة الامتياز تنتهى فى 1968- نظير قرض تقدمه الشركة للحكومة المصرية، وفى نفس الوقت لوحت الشركة لبريطانيا بتخفيض رسوم المرور فى القناة لتشجيعها ولحثها فى نفس الوقت على تأييد الاتفاقية والضغط على الحكومة المصرية لقبولها، وكان الدافع وراء إقدام شركة قناة السويس على مد امتيازها هو إحساسها بالخوف من تطور ونمو الوعى القومى، وازدياد الحركة الوطنية فى مصر، فاستغلت الشركة عاملين مهمين فى العلاقات الدولية هما: تحسن العلاقات الفرنسية البريطانية بعد الاتفاق الودى وازدياد مخاوف إنجلترا من نمو العسكرية الألمانية وازدياد حجم أسطولها البحرى، فقدمت الشركة عرضها لسلطات الاحتلال فى مصر حلاً لمشاكله المالية هناك نظير مد الامتياز بشروط مجحفة لمصر.
ويحكى د. السيد جلال قائلاً إنه عندما تسرب خبر مد الامتياز للصحف فجرت المشكلة الحماس الوطنى وأججت فى النفوس ذكريات أليمة ارتبطت بشق قناة السويس وما صاحبها من سخرة أرهقت أرواح آلاف من المصريين وما تلا فتح القناة للملاحة العالمية من أحداث أدت إلى احتلال إنجلترا لمصر، وتطلعت مصر إلى اليوم الذى تتخلص فيه من هذا القيد الكريه.
وذهب محمد فريد إلى حد المطالبة بتأميم قناة السويس بدلاً من محاولة مد امتيازها فترة أخرى، فكان بذلك أول من نادى بالتأميم، كما وقفت الصحافة المصرية والجمعية العمومية موقفاً حاسماً ومشرفاً ضد هذه المؤامرة التى حيكت خيوطها فى الخفاء، فرفضته بالإجماع واختفى المشروع للأبد، ويمكن القول بأن التصدى لهذه المؤامرة كان مدرسة لقادة الحركة الوطنية جمعت أفكارهم وحددت هدفهم وكانت بمثابة رد فعل للاستعمار الجائم على أرض مصر بسبب هذه القناة منذ أكثر من ربع قرن وكان أملهم انتهاء مدة الامتياز لتعود القناة إلى مصر فجاءت عملية المد ضربة للآمال هيجت ما اعتملت عليه النفوس من ضيق نحو سلطات الاحتلال والشركة الفرنسية بل وهددت بإشعال ثورة شبيهة بثورة 1881.
ويقول د. السيد جلال: لابد أن نذكر الدور الوطنى للزعيم محمد فريد فى هذا الموضوع وكان فريد قد تم انتخابه لرئاسة الحزب الوطنى فى 14 فبراير 1908 خلفاً لمصطفى كامل، وكان محمد فريد هو أول من أمسك بخيط مؤامرة مد امتياز شركة قناة السويس ونشرها على الأمة فى صحيفة اللواء فى عددها الصادر 28 أكتوبر 1909 بعد أن حصل على نص مشروع الاتفاق بين الحكومة المصرية وشركة قناة السويس، واستمر يدافع عن حق مصر فى قناة السويس وحلل الأضرار المالية والسياسية التى سببتها قناة السويس وكذلك الأخطار الناجمة عن مد امتياز الشركة ولا شك أن موقفه من المشكلة كان مشرفاً، كما رد فى مقال آخر على جميع حجج المستشار المالى البريطانى الخاصة بفائدة مشروع مد الامتياز، وهاجم الامتيازات الأجنبية فى مصر والتى تسعى إلى نهب ثروات مصر.
وكان مقال محمد فريد دعوة لكل القوى الوطنية والصحف المصرية بالمبادرة بالهجوم على مشروع مد الامتياز ولم يكتف فريد بذلك بل دعا اللجنة الإدارية للحزب فى 29 أكتوبر 1909 إلى الاجتماع وأصدرت القرار الآتى: «نظراً لخطورة مسألة قناة السويس اجتمعت اللجنة الإدارية للحزب الوطنى مساء 29 أكتوبر 1909 وتفاوضت فيما يجب اتخاذه إزاء هذه المسألة فقررت دعوة الحكومة فى مشروع مد امتياز القناة قبل البت فيه ولذلك أرسلت التلغرافات الآتية إلى الجناب العالى ورياسة مجلس الوزراء ورياسة الجمعية العمومية وإلى الخديوى التمست فيه باسم الحزب الوطنى ألا تحرم الأمة من أخذ رأيها فى المفاوضات الخاصة بمشروع المد وأرسلت برقية مماثلة إلى الحكومة وإلى الأمير حسين كامل احتجت على عدم رأى الأمة فى هذا العمل الخطير». وكان رفض الاتفاقية فى الجمعية العمومية أعظم نصر حققه الحزب الوطنى وهو يقدم مثلاً نموذجياً لحدود سلطة البريطانيين فى مصر آنذاك.
حكاية مغامر
فى سنة 1832 كان يقوم بأمر القنصلية الفرنسية بالإسكندرية شاب مغامر هو «فردينان ديليسبس» كان شاباً طموحاً ينحدر من أسرة ذات أصل اسكتلندى، استقرت فى فرنسا، واحترفت الدبلوماسية ولم يكمل ديليسبس دراسته، ومع ذلك فقد ألحقه أقاربه بالسلك القنصلى، ووجد هذا الشاب فى أوراق قنصل فرنسا السابق فى الإسكندرية –المسيو ميمو- أوراقاً مهمة كان قد أخذها من راهب مغامر يسمى الأب «انفانتان» ينتسب إلى جماعة تسمى السان سيمونيه أى اتباع سان سيمون، وكانت هذه الأوراق تضم تصميمات وشروحًا لمشروع حفر قناة تصل البحرين الأبيض والأحمر، فدرسها فردينان ديليسبس وقرر أن يدعيها لنفسه، وأرادت المقادير أن يصير عرش مصر إلى محمد سعيد هذا فى منتصف سنة 1854، وكان ديليسبس يصطاف فى أوروبا، فأدرك أن فرصته قد حانت، وأسرع إلى مصر، فاستقبله سعيد أحسن استقبال وألحقه ببطانته وكان وضع مصر آنذاك شاذا فقد كانت من الناحية النظرية ولاية عثمانية تابعة للسلطان، ولكن واليها كان يتمتع بمركز خاص بين ولاة الدولة العثمانية، بناء على معاهدة دولية هى معاهدة لندن 1841، وكانت هذه المعاهدة تجعل إنجلترا وفرنسا وروسيا الموقعة على هذه المعاهدة مشرفة على تنفيذها، أى أن مصر كانت بصورة ما تحت إشراف دولى، ومعنى ذلك أنها كانت تتمتع باستقلال داخلى، أما شئونها الخارجية فكانت من شأن السلطان نظرياً.
ضعف محمد سعيد
كان فردينان يفهم ذلك جيداً، وعرف كيف يستغله لصالحه أحسن استغلال فجعل يقنع محمد سعيد بأن إعطاءه الإذن بحفر القناة سيضمن له تأييد فرنسا، وكان سعيد يعلم أنه لا يملك الإذن فى الحفر، لأن ذلك من حق السلطان، ولكن ديليسبس مضى يهون عليه أمر السلطان ويؤكد له أن فرنسا ستفوز بإقرار السلطان، ومازال يلح فى الموضوع حتى وافق سعيد شفوياً على حفر القناة فى 15 نوفمبر عام 1854، واجتهد ديليسبس فى استصدار فرمان (أى مرسوم) من سعيد بذلك ومضى يؤكد له أنه سيصير بعد حفر القناة أغنى رجل فى الدولة العثمانية، وأن الأموال ستنهال على مصر من رسوم المرور، فصدق سعيد ذلك وجازف بإصدار فرمان فى 30 نوفمبر 1854.
والفرمان الذى وقعه لا يضمن لمصر أى حق أو مكسب، بل هو لا يضمن لمحمد سعيد نفسه شيئاً على الإطلاق وإنما هو يعطى فردينان ديليسبس الحق فى إنشاء شركة تقوم بحفر قناة فى برزخ السويس ولهذه الشركة أن تستولى على ما تريد من أرض تلزمها للمشروع دون مقابل، إلا الأراضى التابعة للأفراد، فتدفع فيها الشركة ثمناً مناسباً، وللشركة الحق فى إنشاء قناة ماء عذب تمتد من النيل إلى الإسماعيلية، على أن تكون هذه القناة وما ترويه من أرض ملكاً للشركة، بل لها الحق فى أن تبيع ماء الترعة لمن يريد استعماله من الأهالى بل أن تقدير رسوم المرور فى القناة لم يكن حق مصر، بل تتفق الشركة مع الوالى بشأنها، ثم إن الشركة كان لها حق زراعة الأراضى التى تملكها بمقتضى هذا الفرمان واستغلالها لصالحها، وفى مقابل ذلك تتفضل الشركة على مصر بحصة من الأرباح قدرها 15%
وقد ترك تحديد الأراضى اللازمة لمشروع القناة لمهندس فرنسى كان يعمل فى خدمة مصر آنذاك هو «لينان دى بلفون» وقد اتفق مع ديليسبس على التوسع فيها إلى أقصى حد ممكن، فلما تشعب الخلاف بين مصر والشركة فيما بعد، اشترت مصر من الشركة الأرض الزائدة بثمن باهظ.
هذه هى الاتفاقية الشائنة التى عرفت بفرمان 30 نوفمبر 1854 والتى أصبحت مصر بمقتضاها ملكاً للقناة، وكان على مصر بعد ذلك أن تكافح مائة سنة حتى تصبح القناة ملكاً لها.
وقد شعر سعيد عقب توقيعه الاتفاقية بفداحة الجرم الذى ارتكبه، والنتيجة الحتمية لذلك هى انفصال مصر واستيلاء فرنسا عليها، ولهذا بعث السلطان يستنكر عمل واليه فى مصر، ويحذره من الاستمرار فيه، ووقع سعيد فى مأزق لم يستطع الخلاص منه إلى آخر حياته، فإن ديليسبس جعل يستحثه فى التنفيذ ويهدده بغضب فرنسا، وجعل هو يتردد ويتراجع خوفاً من السلطان ومن إنجلترا، ومضى ديليسبس يهدده ويرهبه ويطارده، ورأى سعيد أن يخرج من الموضوع كأن البلد ليس بلده وكأنه ليس واليه.
وذهب ديليسبس فجمع طوائف من قطاع الطرق والرعاع من جزائر البحر الأبيض وسلحهم بالبنادق، وسلطهم على قرى الدقهلية والشرقية والغربية من برزخ السويس، ليخطفوا الناس ويرغموهم على العمل فى المشروع فإذا اعترضهم رجال الأمن تبادلوا إطلاق النار معهم، وسعيد قابع فى قصره لا يدرى ماذا يفعل.
وأصاب سعيد من جراء ذلك رعب شديد من ديليسبس، وأراد التخلص منه، فحاول قتله مرة، فلما فشل استسلم ومنحه فرمان 5 يناير 1856 وهو أسوأ من الأول إذ إنه أيد كل ما ورد فى تصريح 30 نوفمبر 1854، وزاد عليه عبارة تقول «أن خمسى العمال يجب أن يكونوا مصريين» وهذه عبارة معناها الواضح ضمان لحق عمال مصر فى العمل فى القناة، ولكن ديليسبس فسرها بأنها إلزام للحكومة المصرية بأن تقدم خمسى العمال بالمجان، أى تسخيرهم دون مقابل، وهذه هى بداية قصة السخرة فى حفر القناة التى هلك فيها 120 ألف مصرى وهم يعملون تحت الشمس القاسية 18 ساعة فى اليوم بغذاء لا يكفى طفلاً صغيراً.
أغرب حكم
وعادت تركيا تحتج دون نتيجة، وبدأ العمل فى حفر القناة فعلاً فى 25 إبريل 1859، واتضح للعالم أجمع أن محمد سعيد رجل عاجز لا يصلح للحكم، خاصة وقد بدأ يعقد قروضاً مع بيوت مالية وأوروبية ويرهن مرافق البلاد لسداد أقساط الأرباح، وتأكد أنه مخلوع لا محالة، فانتابته الحسرة واشتد به المرض ومات فى 18 يناير 1863، وأما الخديو إسماعيل بعده فقد سعى إلى التخفيف من قسوة فرمان 1856على مصر مستعينا فى ذلك بفرنسا، ووصل الخلاف بين مصر والشركة أشده فتم تحكيم نابليون الثالث فى الخلاف بين مصر والشركة.
وفى 6 يوليو سنة 1864 أصدر نابليون الثالث أغرب حكم سمع به بشر: حكم بأن تدفع مصر للشركة ثلاثة ملايين ونصف المليون من الجنيهات لقاء «تنازل» الشركة عن تسخير المصريين، وعن الأراضى التى استولت عليها غصباً، وعن ترعة الماء العذب وفرعها الذاهب إلى السويس، وفرعها الآخر الذاهب إلى بورسعيد، وهذا المبلغ الذى حكم على مصر بأن تدفعه يعدل نصف رأس مال الشركة كله، وكانت الشركة مفلسة فعلاً فأنقذها الحكم، وأغرب من ذلك أن مصر لم تستطع سداد المبلغ كله دفعة واحدة، فاحتسب ديليسبس على أقساطه أرباحاً مركبة، وأحس إسماعيل أن شبح الإفلاس يقترب، ورأى أوروبا كلها –عدا إنجلترا- متحمسة للمشروع فظن أنه إذا أخذ جانب ديليسبس سوف يكسب التأييد الأوروبى، فأخذ يعمل جاهداً فى إنجاز المشروع حتى يثبت لفرنسا وأوروبا معها بأنه صديق مخلص، وأنه جدير بالتأييد، بل صور له خياله أن ينتهز فرصة الاحتفال بافتتاح القناة ليقيم حفلاً عظيماً يدعو إليه ملوك أوروبا ويعرفهم بنفسه، ويضمن مؤازرتهم، لهذا كرس موارد مصر كلها لإنجاز المشروع قبل أن يعلن المرابون إفلاس الحكومة المصرية، واتفق مع ديليسبس على أن يكون الافتتاح فى أكتوبر ثم أجل إلى نوفمبر 1869، وقرر إسماعيل أن يقيم لافتتاح القناة حفلاً لم يسمع بمثله أحد فى القرن التاسع عشر.
أوجينى وحفل الافتتاح
وقد كانت الإمبراطورة أوجينى زوجة نابليون الثالث أول من حضر لشهود الحفل من الملوك والملكات، حيث أتت قبل الحفل بثلاثة أسابيع لمشاهدة معالم مصر وكان لموكبها فى النيل، وهى صاعدة نحو الأقصر، مشهد حافل، ذكره الشاعر حافظ إبراهيم بعد ذلك بأربعين سنة.
ثم أقبل فرانسوا جوزيف ثم ولى عهد بروسيا ونفر آخر من الأمراء والنبلاء والسياسيين والصحفيين، وعند مدخل القناة أقاموا 3 منصات رائعة مكسوة بالحرير والمخمل، واحدة فى الوسط لكبار الضيوف والملوك وحواشيهم، وواحدة لعلماء المسلمين يتقدمهم شيخ الجامع الأزهر، وواحدة للقساوسة يتقدمهم الرسول البابوى، وأقيم على الشاطئين مظلات لكبار المدعوين والمتفرجين، واختصوا مؤسس شركة القناة بواحدة، والصحفيين بواحدة، ونصبوا فيها الموائد، فكان من ظرف أحد الصحفيين الأجانب أن قال بعد أن ملأ بطنه بالطعام: «الآن أكلت ثروة ثلاثين فلاحاً» وقد تكونت الموائد من سمك ولحوم بقرية مشوية على الطريقة الإنجليزية على قاعدة جيلاتينية من مدينة بيريجيه، ولحوم خنزير مملح مزخرف بلحوم صيد، وطيور لحم على الطريقة دورساى، ولسان بقر مسلوق بالبخار على الطريقة الإنجليزية، ومهلبية لحم أو سمك من مدينة نيراك، ومهلبية سمان وفيليه الثور على طريقة الإمبراطور، وسلطة جمبرى بالجرجير اسبارج إيطالى بالزيت، وفخذ ظبى بطريقة سان هنتار، وديك رومى مضاف إليه رفت الرعد، طائر فاسينوس بالجرجير، طير محشى سمان، والحلو بسكويت مزخرف من إقليم سافرا نابوليتان وجيلاتى وبودنج بالبسكويت والكريمة ومثلجات.
خيانة ديليسبس
وفى عام 1871 كان الحالة المالية لشركة القناة وصلت إلى درجة جعلت أعضاء مجلس الإدارة يمسكون بتلابيب ديليسبس ويحاولون ضربه، لولا أن أنقذه من أيديهم العضو الإنجليزى «سير دانييل لانج» فذهب ديليسبس يعرض على وزارة الخارجية استعداده لنقل مركز الشركة برمتها إلى لندن، وقد تردد «المستر جرانفيل» وزير الخارجية البريطانية فى قبول ذلك العرض، فلم يكن من ديليسبس إلا أن تقدم بمشروع يدل على انعدام الشعور القومى الفرنسى فى نفسه تماما، ففى شهر يونيه 1871عرض على إنجلترا أن تشترك مع الدول البحرية الأوروبية وتشترى القناة بمبلغ 12 مليونا من الجنيهات، على أن تدفع الشركة الجديدة لمساهمى الشركة القديمة أرباحاً قدرها عشرة ملايين من الفرنكات كل سنة لمدة خمسين سنة، ولو تأملنا هذا العرض لتبينت غرابة مسلك هذا الرجل فقد تقدم به عقب انهزامه فرنسا فى حرب سنة 1870 أى أنه انتهز فرصة هبوط بلاده إلى الحضيض ليسلبها مشروعاً كانت تعده من أمجادها، وقد نسى المساعدات الكثيرة التى لقيها من ساسة فرنسا ومن الرأى العام فيها، ومن نابليون الثالث، ونسى كذلك أن الشركة لا تملك القناة، ولكن الامتياز الممنوح لها يبيح لها إدارتها واستغلالها لمدة معينة، أما القناة فملك مصر، والأرض التى تجرى فيها أرض مصرية، وكان ديليسبس يعتبر أموال الشركة أمواله الشخصية ينهب منها كيف شاء وقد اشترى لنفسه من هذه الأموال قصرين كبيرين فى فرنسا وقصرا فى الإسماعيلية.
تأميم القناة
وفى 21 يونيو عام 1956 احتفلت مصر بجلاء آخر جندى بريطانى، وأصبحت مصر للمرة الأولى منذ 20 سبتمبر سنة 1882 مستقلة استقلالا تاماً، لا يقيم على أرضها جندى واحد من جنود الاحتلال، فقد استطاعت مصر أن تتخلص من شراك الاستعمار بعد صراع دام قرناً ونصف القرن من الزمان، فلما تخلصت من آخر جندى من جنود الاحتلال كان لابد من نصب شرك آخر لها علها تقع فيه، ولكن مصر لم تقع، وتلك هى جريمتها الكبرى فى نظر دول الاستعمار، ذلك أن قادة مصر وضعوا برنامجاً طويل المدى لإنهاض مصر وتثبيت اقتصادياتها وإيجاد حلول سليمة لمشاكل تزايد السكان وانخفاض مستوى المعيشة وقلة القوى المحركة اللازمة للتصنيع وفى مقدمة هذه المشروعات مشروع السد العالى، وهو مشروع ضخم يعد من أعظم المشروعات الهندسية والعمرانية فى التاريخ، وتنفيذه يستلزم ملايين كثيرة لسنوات متتالية، وقد وجدت مصر استعداداً من البنك الدولى للإسهام فى تمويله، وأبدت أمريكا وإنجلترا رغبتهما فى الاشتراك، فلما بدأت المحادثات بين رجال مصر وممثلى البنك الدولى وهاتين الدولتين أحسنا أنهم يريدون استخدام هذا التمويل كوسيلة للضغط على مصر من ناحية ولربطه بعجلة اقتصادهم من ناحية أخرى، فجرت محاولات لإفساد هذه الطريقة وأن يتم استخلاص المساهمات الأجنبية خالية من كل قيد أو شرط، فرفض البنك ورفضت انجلترا وأمريكا، وأرادتا إلى جانب الرفض أن تثيرا الشكوك حول مركز مصر المالى، وقد اختار الرئيس جمال عبد الناصر شركة قناة السويس، آخر معقل من معاقل الاستعمار فى مصر، فأعلن قرار التأميم التاريخى فى خطابه الخالد مساء 26 يوليو 1956، ولو لم تكن دول الغرب تعتبر سيطرتها على القناة جزءاً من سياساتها الاستعمارية لما أثارت هذه الضجة حوله، لأن شركة قناة السويس شركة للدولة المصرية لها الحق أن تمارس حقوق سيادتها عليها كما تمارسها مع غيرها من الشركات المصرية، ثم إن قناة السويس نفسها جزء من مصر، ومصر هى المسئولة عن حمايتها وحيدتها بمقتضى معاهدة القسطنطينية سنة 1888 أى إن قرار التأميم لم يتناول إلا شيئاً واحداً فقط هو إلغاء الشركة المغتصبة التى كانت تقيم فى باريس وإحلال هيئة إدارية مصرية محلها، مع ضمان حرية الملاحة وحيدة القناة والتعهد بتعويض حملة الأسهم تعويضاً عادلاً، بدفع قيمة ما يحملونه من الأسهم بحسب قيمتها فى اليوم السابق على القرار.
لو أن شركة القناة كانت مجرد شركة تجارية لما كان قرار التأميم فى ذاته إلا تغييراً شكلياً لا يستحق ثورة أو غضباً، ولكن الحقيقة أن الشركة كانت شيئاً غير ذلك.. كانت رمزاً على سيطرة الغرب على تجارة الشرق، كانت أداة للجاسوسية والتدخل فى شئون البلاد، وكانت قبل هذا وذاك، وسيلة لحرمان مصر من مميزات موقعها الجغرافى المتميز، فما دامت الشركة فرنسية إنجليزية لحماً ودماً، ومادامت إيرادات المرور تتحول مباشرة إلى جيوب الفرنسيين والإنجليز، فإن مصر لن تستطيع أبداً أن تفيد من موقعها عند ملتقى الشرق والغرب، وهذا الموقع هو نصف رأس مال مصر، ولم يكد القرار يعلن، ولم تكد مصر تتولى بنفسها شئون القناة حتى سقط القناع السميك الذى كانت دول الغرب تتستر وراءه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.