وماذا بعد؟! أقصد ماذا بعد هذه الرحلة الطويلة التى قوامها ثلاثة أرباع القرن إذا حسبنا السنين والأعوام التى مضت منذ أربعينيات القرن المنصرم، هذه الأربعينيات التى شهدت البدايات الحقيقية لتكوين وعمل ميليشيات العنف المسلح لجماعة رفعت شعار الدين (الإخوان) وعملت خارج منظومة الدولة. ثلاثة أرباع قرن من العنف.. تشعبت وزادت فيها الجماعات والتنظيمات التى رفعت شعارات وشارات الإسلام، وكانت – غالبًا - هى المبادرة بفعل العنف ضد الحكومات والدولة حتى ولو قيل إنه تم استدراجها ودفعها إليه. والممارسات الأولى لعنف الإخوان فى الداخل المصرى كان من الواضح أنها أفعال انتقامية ضد خصوم الجماعة، ووقعت بعد تصنيف أعداء الجماعة وخصومها على أنهم خصوم للإسلام، ثم جاء فيما بعد - من داخل الإخوان أيضا - من يؤصل أو يضع قواعد أصولية لهذا العنف ليسبغ عليها صفة الشرعية الدينية.. ولما أوغل بعض من هؤلاء المؤصلين من قادة الجهاديين التكفريين فى بحور الدم وتلطخت أيديهم به لجأوا إلى وضع مبادرات لوقف العنف حفاظًا على جنين مشروعهم الإسلامى وهو فى الحقيقة ليس بمشروع ولا يمكن أن يكون إسلاميًا.(1) .. هذا بالفعل مربط الفرس:المشروع الإسلامى.. والسؤال: هل لدى هؤلاء المنافحين عن الإسلام مشروعا إسلاميا على المستوى الفكرى أو المادى؟!.. وهؤلاء الذين قتلوا المسلمين من رجال جيش وشرطة وسياسيين مدنيين وأقباط، وأفراد ليس لهم ذنب أو جريرة إلا أن تصادف وجودهم فى مسرح الجريمة، وأدخلوا اليتم والحزن على أسر وأفراد، أقول إن من ارتكبوا هذه الجرائم أو حرضوا عليها أو دفعوا باتجاهها لم يقدموا إلا وجه كئيب مخيف لإسلام يخاصم الحياة ويتصادم مع قيم الرحمة، ويعادى الحضارة وهى إرث إنسانى وليست حكرًا على الغرب أو الشرق. وهم إذ يفعلون هذا لا يقدموا البديل المقنع أو يعمروا الأرض، والمثال الذى لا يريد أن يفارق ذهنى فى هذا الصدد هو قصة هذا الطبيب الذى أنفق عليه أهله المال والجهد والوقت ليصلوا به إلى الدراسة فى كلية الطب والتخرج فيها لعله ينفع نفسه، وينفع أهله، وينفع الناس بعلمه الدقيق الذى جعله الله سببًا مهما من أسباب الحياة.. فما كان من هذا الطبيب الشاب أو مشروع الطبيب إلا أن هجر تعليمه ومستقبله وارتدى جلبابًا أبيض قصيرًا أسفله «بنطلون»، وأطلق لحيته فى غير تهذيب ووضع على رأسه شالا أبيض أسفله طاقية، وهى فى رأيه علامات أتباع وانصياع للدين والسنة المحمدية الشريفة، ووقف هذا الشخص على باب أحد المساجد أمام «فرشة» يبيع البخور والعطور وكُتب التراث المنسوبة للدين الإسلامى وفيها الغث والسمين.. أترى فعل هذا الشاب أنفع للمسلمين أم ذهابه إلى القرى والنجوع الفقيرة التى تنتشر فيها الأمراض وتغتال الحياة فكان سببًا فى إنقاذ طفل أو رجل أو امرأة وأعادته للحياة بعد مشيئة الله سليما معافى عن طريق علاجه ؟! (2) وربما يسأل سائل : وهل يكتفى هذا الطبيب بممارسة وتجويد مهنته فقط ؟! وماذا إذا رأى ظلمًا أو كفرًا أو طغيانًا؟! والإجابة: وهل يمنعه ممارسة مهنته وتجويدها وهو أمر من أمور الدنيا عن مقاومة الظلم والكفر والطغيان والاعتداء؟! وفى الغرب الذى ننعته بالكفر يمارسون أمور الدنيا ويأخذون بالأسباب، وفى ذات الوقت يمارسون مقاومة الظلم ويدفعونه بكل الصور الممكنة لكن فى إطار مشروع ومتفق عليه فى هذه المجتمعات والدول. وقد يبدو من المثال أننا بعدنا بشكل ما عن موضوعنا المتعلق بالعنف والمراجعات لكن هذا ليس حقيقيًا فخصومة التكفيريين تجاه الحضارة الغربية مرتكز أساسى من مرتكزات الصدام ضد الغرب وتكفيره والدعوة لحربه بعد تصنيفه بأنه العدو البعيد، وما هذا الموقف فى حقيقته إلا انعكاس للإحساس العميق بالهزيمة النفسية – قبل الهزيمة المادية – أمام هذا الغرب ومن ثم شيطنته على الإجمال دون البحث عن بدائل أو خيارات أخرى للمواجهة أو التعامل مع معضلة الغرب وحضارته الفاسدة من وجهة نظر التكفيريين. (3) والآن وقد تماهت الحدود وقصرت المسافات وتداخل المحلى بالإقليمى بالدولى وبات بالفعل أن المسلمين بالفعل والعرب بالتحديد ومصر فى القلب منهم يواجهون تحديات خطيرة تهددنا بالاقتلاع من جذورنا واندثار ما تبقى منا، اندثار ليس بالجسد ولكن بالهوية.. الدين والثقافة، وقد نجح أعداء الأمة الإسلامية، والوطن العربى فى اختراقنا من الداخل وإشعال الفتنة فى بلادنا البائسة،ليدخل الجميع فى حرب ضد الجميع، المسلم السنى ضد المسلم الشيعى، والعربى ضد الكردى والإخوانى والسلفي ضد العلمانى والليبرالى.. وقريبًا الرجل ضد المرأة أو العكس، ومع انسياقنا جميعًا إلى مذيج المؤامرة كقطعان الماشية العمياء تتقدمنا النخب الضالة المضللة التى سوّقت لنا لسنوات طويلة زيف بضاعتها المغشوشة وهم لم يصنعونها أو ينتجونها لكن استوردوها من الخارج. وفى مصر استوردوا لنا ذات مرة الرأسمالية من الغرب، ومرة أخرى الشيوعية من الشرق وثالثة ثقافة الصحراء من بلاد البترول وسوقوا لنا هذه الثقافات بعد أن ألبسوها أزياء لا تليق بنا ولا نليق فيها، وهكذا ضاعت علينا أحقاب، وضاعت أجيال تتأرجح ما بين يمين الغرب الرأسمالى ويمين الإسلاميين الراديكالى، ويسار الشرق البغيض. (4) مرة أخرى نعود إلى صميم الموضوع: العنف والمراجعات، وقد كشفت الأحداث التى وقعت بعد ثورة يناير 2011 فى مصر وصعود الإخوان والسلفيين على أثرها إلى كراسى البرلمان ومنصب الرئاسة ثم سقوط الإخوان (تحديدًا) العنيف من سطوة السلطة وهو ما دفعهم إلى ما يشبه الجنون.. أثبتت هذه الأحداث زيف البعض ممن ادعوا مراجعة أفكار العنف وممارساته السابقة على تاريخ سقوط الإخوان وأثبتت كذلك تهافت المشروع الإصلاحى لهؤلاء الإسلاميين الذين حولوا الوصول للسلطة إلى هدف فى حد ذاته وليست وسيلة تحت ادعاء أننا سوف نغير غدًا بعد أن نصل إلى التمكين، واكتشفنا معهم أنهم مصابون مثلنا بأمراض المجتمع النفسية والاجتماعية والثقافية، وأنهم – رغم ادعاءاتهم – كاذبون ومنافقون وبرجماتيون وزد على ذلك فاشيون لا يقلون فى فاشيتهم عن خصومهم الليبراليين، وبسبب فاشيتهم تلك دخلوا فى خصومة كبيرة مع المجتمع تحولت إلى معركة فلما أيقنوا أنهم خاسروها انسحبوا إلى قواعدهم الأولى وعاودوا ممارسة العنف والتحريض عليه فى خلط واضح بين الحق والباطل والدين والدنيا أقصد قيم الدين ومصالح الدنيا.. دون تبصرة أو إدراك لخطورة الموقف. وفى هذا الصدد أيضًا وكمثال ظاهر إلى حد الفجاجة رأينا شخصا مثل عاصم عبد الماجد كان قبل سنوات قليلة واحدًا ممن انضموا إلى كتيبة المراجعات من بين قادة الجماعة الإسلامية ومراجعات الجماعة الأخيرة كانت أكثر اتساقًا مع صحيح الدين والشرع الحنيف، لكن عبد الماجد لم يصمد ويدافع عن آرائه وفكره ويدعو لؤد الفتنة التى انزلق إليها الإخوان بل على العكس أظهر إيمانه العميق بفكرة العنف واندفع فى هذا الاتجاه كأنه مساق فى قطيع تلاحقه عصا، ومثله فعل طارق الزمر وغيرهما . والآن وقد وضع الإخوان أنفسهم باختيارهم فى خندق الإرهاب بات من الصعب جدًا الحديث عن مصالحه بينهم وبين عموم المصريين، ولا نستطيع أن نجزم أو يجزم أحد عما تسفر عنه الأيام القادمة، خاصة وأن كرة اللهب تتدحرج بسرعة وشدة، لكن يبقى أمل أخير ووحيد وهو أن يدرك المسلمون جميعًا - وليس فى مصر فقط - أن الدين هو الهدف الأول على لوحة تنشين العدو الخارجى الذى نفخ سمومه فى وجوهنا فأصابنا الرمد ولم نعد نرى الخطر.. والأمل الآخر أن يدرك المسلمون أنهم يحتاجون بالفعل إلى مشروع حضارى يتعامل مع الحاضر والمستقبل، تتطور فيه الأفكار قبل الآلات، وأن تكون بداية هذا المشروع هو نقد الذات العاقل ليس لجلدها أو تدميرها ولكن لمراجعتها المراجعة الصحيحة الواجبة والمطلوبة فورًا. اللهم بلغت.. اللهم فاشهد.