تعنى كلمة تلوث (Polution ) إدخال مواد ملوثة بالأنشطة الإنسانية إلى البيئة فينتج عن ذلك عدد من التغيرات السلبية فى الهواء الجوى أو الماء.. أو الأرض.. أو البيئة الصوتية.. ولابد أن هذا التلوث يؤثر بالتالى على العقل والتفكير والذاكرة ولا يقتصر فقط على الصحة العامة.. وقد حذر من ذلك المؤلف الموسيقى الكندى: د. موراى شيفر حينما قال: إننا نعانى اليوم مشكلة جديدة من مشكلات التلوث هى مشكلة الضوضاء التى يزداد عدد الذين يعانون الأمرين منها.. إن الأذن تطالبنا الآن بمزيد من الاحترام.. وفى وسعنا أن ندرك ما تطالبنا به وإلا أسلمنا للصمم الذى سوف يحل بنا لا محالة إذا ازداد إعصار الضوضاء.بل نجد الفيلسوف شوبنهور يقول: إن الضوضاء هى أسوأ المضايقات لأنها تقطع علينا حبل التفكير! وها نحن اليوم نعانى من هذا القطع لا بسبب الضوضاء فحسب.. ولكن هناك أسباب كثيرة يعانى منها المناخ الثقافى فى السنوات الأخيرة تستحق أن نقف أمامها ونشخصها تمهيدًا للخلاص منها واستعادة هوية الثقافة العربية التى تحدت كل المعوقات.. وغزت العالم فى وقت كان العالم يسوده ظلام الفكر والرأى.. ولنبدأ بالكتاب الذى يمثل أكثر عناصر الثقافة تأثيرًا فى الإنسان.. فالكتاب يقدم ثقافة المجتمع.. ويقود الإنسان إلى آفاق الوعى والخيال والفكر المستنير إذا أحسن تأليفه ونشره.. وما نعنيه هنا بالطبع هو الكتاب الورقى.. فمازال له تأثيره القوى بالرغم من منافسة الكتاب الإلكترونى.. وبنظرة متأنية لمعروضات الكتب فى معرض الكتاب الأخير.. يتضح لنا أن الكتاب يقاوم من أجل بقائه عنصرًا من عناصر الثقافة الجادة.. فقد انصرفت بعض دور النشر عن طبع ونشر الموضوعات التى تتعلق بالفلسفة والتاريخ والأدب والعلوم والفنون.. ولجأت إلى مخاطبة غرائز الشباب وعواطفهم بموضوعات أخرى مثل كتب الأبراج والسحر والجنس وقصص العنف والرعب.. بل وجدنا إقبال الشباب على مؤلفين عرضوا أعمالهم على وسائل التواصل الاجتماعى فأسرع الشباب يقفون بالطوابير للحصول على هذه الكتب المسطحة التى لا تغذى العقل. وإنما تسطح عقولهم وتخاطب غرائزهم. ونفاجأ فى وسائل الإعلام - باستضافة هؤلاء المؤلفين الذى قد يكتبون لأول مرة فى حياتهم.. فتزداد مبيعات كتبهم وتطبع منها طبعات متعددة فيوهم القارئ أن هذا - الكتاب الأكثر مبيعًا - هو الكتاب الأفضل.. والحقيقة أن هذه الكتب تطبع منها أعداد قليلة وحينما تنفد تطبع منها طبعات أخرى بأعداد قليلة أيضًا وهكذا.. ويوهم الناشر قراءها أنه طبع منها الآلاف من النسخ ليؤكد أهمية الكتاب وأفضليته. هى إذن ثقافة مسطحة قشرية لا تصل إلى العقل بغذاء دائم.. لكنها أشبه ما يكون بالريح التى تهب على البشر ولا تعود عليهم بالنفع.. بل تلوث أفكارهم بما تخلفه من أتربة ودخان أسود.. ولقد سألت أحد الشباب القراء لهذا الصنف من الكتب عن الاستفادة الحقيقية منها.. فرد علىّ بما يشبه السخرية بأنه لا يبحث عن الاستفادة بقدر ما يجد فيها نفسه.. فيتسلى ويضحك ويستمتع - ثم قال - ألا يكفى ذلك لنخرج من مشاكل المجتمع التى لا نستطيع استيعابها.. توقفت بالطبع عند هذه الإجابة.. فالشباب ينصرفون عن مشاكل المجتمع ويفرقون أنفسهم فيما يحقق لهم التسلية والضحك والاستمتاع.. لكننى أقبلت على الشاب مرة أخرى سائلًَا: ولماذا لا تشارك فى إبداء الرأى لحل مشاكل مجتمعك.. وتكون لك تجربتك الخاصة التى لابد أن تختلف عن تجارب الكبار؟. وكانت الإجابة صادمة.. فهو يتهم الكبار أنهم يسَّروا لجيلهم كل شىء ولم يورثوا له القدرة على التفكير والمشاركة فى اتخاذ القرار.. ومن ثم أعطت هذه الأجيال ظهورها إلى المجتمع..وعزلت نفسها - ثقافيا وفكريا- فى هذه الكتب المسلية التى تشكل مع عالم التواصل الاجتماعى كل متطلبات الشباب.. تلك إذن مشكلة تتفاقم يومًا عن آخر.. فماذا تضيف كتب الأبراج والسحر غير انصراف الشباب إلى عالم من الوهم بعقول مغيبة تماما عن الواقع.. وماذا تضيف كتب الجنس غير إعداد شاب يعانى أمراضا نفسية مزمنة خاصة إذا كان الجنس فى أعمال قصصية غير موظف توظيفا فنيا فيخاطب غرائز القارئ ويجنح بخياله جنوحًا يصرفه تماما عن واقعه.. وماذا يفيد الشباب من تلك الكتب المسطحة والتى يروج لها أصحابها فى الوسائل الإلكترونية على أنها كتبت من شاب مثلهم وتوجه إليهم بلغتهم وأفكارهم وهمومهم الصغيرة.. المشكلة إذن تتفاقم كل يوم.. والكتب الأكثر مبيعا لا تدل على جودتها إنما تدل على إقبال شريحة مهمة من شرائح القراء وهم الشباب الذين هم حكام المستقبل.. ورجال الغد.. ولنا أن نتصور هذا الغد على أيدى هؤلاء الشباب.. الذين اقتصرت ثقافتهم على هذه الكتب الهزيلة التى لا تقدم لهم شيئا مفيدًا جادا يباهون به ثقافة شباب العالم.. ألا تستحق هذه الحالة الراهنة أن يجتمع المثقفون بالشباب لمناقشتها ووضع رؤى أخرى تكفل تربية ثقافية مختلفة تحافظ على الهوية وترسم المستقبل بصورة أفضل؟. إن المسئولية لا تقع على طرف واحد إنما تقع على مؤسسات المجتمع ابتداء من الأسرة ثم المدرسة فالجامعة فالإعلام فالثقافة.. حتى ننشئ شباباً ينتمى إلى الوطن قادرا على التغيير والتطور.. قال مسلمة بن عبد الملك: ما قرأت كتابًا قط إلا عرفتُ عقل صاحبه منه!