ولا شك أن الاحساس بالدونية حينما يسيطر على أمة يكون ايذانا بخمولها وإصابة أفرادها بالاحباط وعدم القدرة على الفعل والابداع!. ولكن إذا كان هذا الإحساس بالدونية قد استشرى فعلاً بين أفراد الامة وسيطر على شبابها – وما أشبه اليوم بالأمس – كما ألمح إلى ذلك وكشف عنه جمال الدين، فكيف يرى الخروج من هذا الاحساس ؟! انه لا يرى مخرجًا من هذا الاحساس الذى يعانى منه أصحابه إلا باشتداد الأزمة وقوة الضغط حتى يفقدوا بقية ما ترك لهم من شبه الراحة التى اخلدوا إليها أو سعة العيش الضيق الذى سول لهم الخمول والرضاء به وحتى يزاحموا على مالا يخطر لهم ببال، من دين لا يتمكنون من التعبد به كما يرومون، ومن تجارة لا يجدون لها مالا أو مجالا، ومن حرية شخصية يفقدونها، ومن قهر وإذلال الاعزاء وتعزيز الأذلاء السفهاء وحتى يحيق بالمجموع بلاء يساوى بين الكل ويكون فى المسلم الشرقى وأخوه المسيحى سواء. وحينما يشتد البلاء وتعم الأزمة الجميع ويحسون بوطأة الاحتلال وفقدان الاستقلال والحرية بكافة أشكالها، حينئذ يمكن لأى أمة أن تنهض وتتولد الحمية لدى مواطنيها ويتحدوا فى مواجهة ما يجابههم من مشاكل وتحديات. وفى رأيه ربما يكون فى العودة إلى درس الماضي، ماضى هذه الأمة علاجاً لأمراضها الحاضرة وخروجاً من مهانة الاستكانة وذل الحاجة وحالة الخمول والكسل الذى يحس به أبناءها. وهو يقول فى ذلك: « أرأيت أمة من الأمم لم تكن شيئاً مذكوراً ثم انشق عنها عماء العدم فإذا هى بحمية كل واحد منها كون بديع النظام، قوى الأركان، شديد البنيان عليها سياج من شدة البأس ويحيطها سور من منعة الهمم، تخمد فى ساحاتها عاصفات النوازل وتنحل بأيدى مدبريها عقد المشاكل، نمت فيها أفنان العزة بعد ما ثبتت أصولها ورسخت جذورها وامتد لها السلطان على البعيد عنها والدانى إليها ونفذت منها الشوكة وعلت لها الكلمة وكملت القوة فاستعلت آدابها على الآداب وسادت أخلاقها وعاداتها وأحست مشاعرها سواها من الأمم بأن لا سعادة إلا فى انتهاج منهجها وورد شريعتها. وصارت وهى قليلة العدد كأنها للعالم روح وهو لها بدن عامل. إن الأفغانى هنا يذكر شباب الأمة بماضيها الذى انتقلت فيه من عماء العدم إلى أن أصبحت المثل الأعلى الذى تطمح إلى محاذاته بقية الأمم. ورغم ادراكه لصعوبة العودة إلى محاذاة ذلك الماضى العظيم لأنه « ليس من السهل رد التائه إلى الصراط المستقيم. وهو يعتقد أن الخلاص فى سلوك سواه». إلا أنه لا يملك إلا التأكيد على أن ذلك هو العلاج الوحيد الذى على الأمة أن تسلك طريقه؛ «فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها، والأخذ بأحكامه على ما كان فى بدايته وارشاد العامة بالمواعظ الوافية وتهذيب الاخلاق وإيقاد نار الغيرة وجمع الكلمة وبيع الأرواح لشرف الأمة ولا سبيل لليأس والقنوط». ورب قائل يقول : وهل العود إلى الماضى القديم يعد طريقاً قويماً للنهضة الحديثة المطلوبة؛ أليس فى ذلك _ كما يقول دعاة التنوير والعصرانية من العلمانيين اليوم – عودة إلى الوراء ودعوة للجمود والتخلف ؟! وعلى ذلك التساؤل والتعجب يجيب جمال الدين الأفغانى وكأنه يقرأ مايجول فى أذهان البعض منا بعد مرور أكثر من مائة عام على وفاته، يجيب قائلاً « من يعجب من قولى أن الاصول الدينية الحقة، المبرأة من محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل، وتفضيل الشرف على لذة الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل وتوسيع دائرة المعارف وتنتهى بها إلى أقصى غاية فى المدنية، فإن عجبى من عجبه أشد !! ودونك تاريخ الأمة العربية وما كانت عليه قبل بعثة الدين من الهمجية والشتات واتيان الدنايا والمنكرات حتى جاءها الدين فوحدها وقواها وهذبها ونور عقلها وقوم أخلاقها وسدد أحكامها فسادت على العالم وساست من تولته بسياسة العدل والانصاف. وبعد أن كانت عقول أبنائها فى غفلة عن لوازم المدنية ومقتضياتها نبهتها شريعتها وآيات دينها إلى طلب الفنون المتنوعة والتبحر فيها ونقلوا إلى ديارهم طب بقراط وجالينوس، وهندسة اقليدس وهيئة بطليموس، وحكمة أفلاطون وأرسطو وما كانوا قبل الدين فى شىء من هذا». وإذا استمر قائلنا فى حجاجه قائلاً : إن العودة إلى أصل الدين ليس هو دائماً الطريق إلى نهضة الأمم. واستدل على ذلك بنهضة دولة شرقية مثل اليابان التى ارتقت وتقدمت بتقليد الغربيين وبدون توسط الدين!! لأجاب الافغانى فى تجرد وموضوعية وفهم عميق للتجربة اليابانية : « نعم إن الدولة اليابانية وهى أمة شرقية لا تختلف عن أهل الصين فى شئ لا فى المذهب والاقليم، ولا فى العوائد والأخلاق واللسان. وقد عزت ونمت وارتفعت وما كان الفاعل فى كل ذلك إلا أخذها بالأحسن والسير فى تقليد المرتقين فى المدنية على أحسن خططهم وانتهاج أقوم صراطهم ومناهجهم .. فظفروا ببغيتهم ووجدوا ضالتهم بأقرب الأوقات وأقصر الأزمنة»،«إن اليابان لم ينتفعوا بالوثنية من حيث هى دينهم لأن الديانة الوثنية وان كانت لا تخلو من آداب وأخلاق فليس فى أصولها ما ينفع فى أحكام أمور الدنيا». أما إذا كان الدين هو الدين الاسلامى الذى «فى أصوله ما ينفع فى الأمور الدنيوية أيضاً، فلابد أن يكون من جملة أصوله الحث على التحلى بالفضائل والاستكثار من مكارم الأخلاق والصفات الحميدة والاستزادة من نافع العلوم والفنون « ، وإذا كان الدين الاسلامى كما جاء فى القرآن فعلاً قد حث على العلم وأبان عن جليل فضله وعظيم منفعته، فما أحوجنا لأن نأخذ به ونعود إلى التمسك بأصوله مستلهمين كل ما فيه من دعوى للتقدم ومن وسائل للارتقاء والرفعة. إن ما يريد الأفغانى أن يلفت أنظارنا وانتباهنا إليه هنا هو أن التقدم لا يتم دائماً عن طريق تقليد الآخرين، بل قد يتم أحياناً عن طريق العودة إلى الماضى واستلهام ما فيه من قيم إيجابية خاصة إذا كان هذا الماضى هو العصر الذهبى للمسلمين والعرب، ذلك العصر الذى نجح المسلمون فيه عن طريق العمل بموجب عقيدتهم الدينية الداعية إلى العلم والحاضة على الأخذ بكل أسباب الرقى والتقدم فى أن يسودوا العالم ويؤسسوا حضارة رائدة استفاد منها الغربيون أنفسهم فى بناء نهضتهم الحديثة. وليس كلام الأفغانى ببعيد عن الفهم أو التصديق حتى بالنسبة لأولئك العلمانيين العصرانيين؛ فالنهضة الغربية الحديثة قد قامت هى الأخرى على أساسين أحدهما وأهمهما هو العودة إلى التراث الغربى اليونانى القديم ونقله إلى اللغات الغربية الحديثة والاستفادة من عناصره الإيجابية ونقد جوانبه السلبية. وثانيهما الاستفادة من إنجازات الحضارة العربية – الإسلامية فى مختلف جوانب الحياة المدنية والحضارية. والسؤال الذى ينبغى أن يتوقف أمامه المعنيون بنهضتنا الحديثة هو : إذا لم يكن فى استلهام ماضينا العريق ما يعوق تقدمنا، وإذا كان فيه ما يساعدنا على التقدم ويزودنا بأسبابه ودوافعه، فلماذا لا نعود إليه وإلى الأخذ به والعمل بموجبه وتطوير ما ينبغى تطويره فيه باستخدام ما استجد من آليات ووسائل نافعة؟! ولعلنا نجد إجابة لهذا التساؤل فى مقالنا القادم.