فى المراحل المفصلية لنهضة الأمم تتعاظم الحاجة الى طبقة المثقفين فى المجتمع . فإن كانت الجماهير تمثل العاطفة الدافعة للتغيير ، فإن طبقة المثقفين تمثل العقل الموجه لحركة المجتمع نحو التغيير المنشود . ومن هنا كان دور النخبة المثقفة بارزا فى كل حالات التحول للأمم ، والمثال البارز فى هذا الصدد ، هو دور النخبة المثقفة فى عصر النهضة الأوربية . ومن هنا ايضا تتوجه الأنظار الى النخبة المثقفة المصرية لتقوم بدورها المنشود لقيادة المجتمع من حالة الثورة اى حالة البناء والنهضة . ولكن هناك إشكالية تعيق البناء والنهضة سببها أن النخبة المثقفة فى بلادنا تنقسم الى مثقف أصيل ومثقف مقلد . المثقف الأصيل هو الذى يحمل فكرا ورؤية تنبع من جغرافيتة ، وتاريخة ، وحاضرة بما يحمله من آلام وآمال . وهذا بالفعل مافعلة مثقف عصر النهضة . فهو نشأ فى بيئة الإستبداد السياسى والدينى . فتشكل فكره على مقاومة الدين أو حصره داخل الكنيسة ، لأن الدين بالنسبة له كممارسة فعلية على أرض الواقع معادى للعلم ، ومشارك للسلطة السياسية المستبدة ، ومتحالف مع الإقطاع . وتشكل فكره على القومية فى مقابل عالمية البابا الذى يحكم العالم بإسم الكنيسة بل ويفرض لغته اللاتينية . فإذا بالطبقة المثقفة تعلن قوميتها الى جوار لادينيتها ، وتنادى بلغتها الأم بديلا عن اللاتينية ، وتنادى بالنظام الديمقراطي ليحل مكان القيصر والبابا . هذه الطبقة المثقفة كانت أشجارا باسقة نشأت فى تربتها ، وتغذت فى جوها الطبيعي ، فأثمرت فكرا وشكلت نهضة ظاهرة لكل باحث بين فترة ماقبل مثقفي عصر النهضة وما بعدها . أما المثقف المقلد الذى جربته بلادنا فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، ومازال بعضهم حتى الآن يتصدر المشهد في بلادنا . فهم على العكس تماما . نقلوا لنا نفس فكر المثقف الغربي ، وأبرز مافيه عزل الدين عن الحياة ، فماذا كانت النتيجة ؟ النتيجة كانت تحطم السد الذي يقف حائلا في وجه نفوذ الاستعمار ، ليس من الجهة العسكرية فقط ، ولكن الأخطر هو التبعية الفكرية ، والشعور أمام الغرب بالدونية للدرجة التي يرى فيها " طه حسين " في كتابة " مستقبل الثقافة في مصر" أن السبيل الوحيد للتقدم هو : " أن نسير سيرة الأوربيين ، ونسلك طريقهم لنكون لهم أندادا ولنكون لهم شركاء في الحضارة ، خيرها وشرها ، حلوها ومرها ، وما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب. وكذلك التبعية الاقتصادية ، ليس فقط بالدوران في فلك التعامل الربوى ، ولكن بجعل بلادنا سوقا رائجة لاستهلاك منتجات الغرب . ولا أظن أننا في مزيد من الحاجة لإثبات أن استيراد فكر المثقف الغربي لنزرعه في تربيتنا ، كانت نتائجة عكسية تماما لنتائج زرعة فى بيئته فى الغرب . ماذا نريد اذن ؟ نريد الطبقة المثقفة الأصلية ، التي تنتج لنا فكرا ينشأ من بيئتنا بما تحمله هذه البيئة من تاريخ وحضارة وهوية شكلت عقلنا وعاطفتنا . ولا يختلف اثنان على أن الدين الإسلامي هو المكون الأساسي لتاريخنا وحضارتنا وهويتنا وكما ذكر الدكتور الراحل " زكى نجيب محمود " في كتابة " هموم المثقفين " أن الخصائص الأساسية التي شكلت هوية هذا الشعب العظيم هي : الدين والأسرة والوطن " وفى استطلاع للرأي أجرته هيئة الإذاعة البريطانية منذ عامين تبين أن أكثر شعوب الأرض تدينا هو الشعب المصري . وديننا الذي يشكل هويتنا في حالة انسجام تام مع كل المعاني الإنسانية التي ترنو إليها شعوبنا وهى تبنى نهضتنا من حرية وكرامة واحترام للأخر وحث على العلم والعمل والإنتاج ليس فقط كمعاني نظرية متأصلة في مصادر التشريع الإسلامي ولكن كتاريخ وحضارة أنتجت وأثمرت وأثرت في العالم كله . أما ما نحلم به ، فهو أن تنتقل امتنا بقيادة تلك الطبقة المثقفة الأصيلة من مرحلة النهضة والبناء إلى مرحلة حمل الرسالة فنحن أمه رسالة : " الر، كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد " إبراهيم آية (1) أما عنوان رسالتنا للعالم فهي " الخير " " ولتكن منكم أمه يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون . " آل عمران آية (104) . مهندس استشاري مصري