هناك مفكرون كان لهم فضل الريادة فى طرح القضايا والأفكار التى لانزال نحتاج إليها فى صنع التقدم الفكرى والحضارى لأنفسنا وللأجيال القادمة، ولعل من المناسب فى هذه اللحظات الفارقة من تاريخ أمتنا أن نتذكر هؤلاء الرواد ونتعرف على رؤاهم الفكرية للطريق الذى ينبغى أن نسلكه لنخرج من عباءة التقليد والجمود إلى رحابة الإبداع الحضارى المستقل استنادًا على تراثنا الحى والإمكانات الهائلة الذى يعطينا إياها التقدم العلمى المعاصر الحافل بالعقلانية والمناهج العلمية التى تتيح التقدم لكل من عمل بها وفكر من خلالها. إن تلك كانت دعوى هؤلاء الرواد وذلك ماينبغى أن نتطلع إليه الآن ونعمل من خلاله على تقدم أمتنا لنضعها فى المكانة اللائقة بها بين الأمم فى العالم المعاصر. لقد كان تصور جمال الدين الأفغانى للشرق - كما رأينا فى المقال السابق - بعيداً عن ربطه بالصراع الدينى، فعلى الرغم من أنه عرف المسألة الشرقية بقوله إن مختصرها « هو العراك بين الغربى والشرقى وقد لبس كل منهما لصاحبه درعاً من الدين. فالغربى تذرع بالنصرانية، والشرقى بالإسلامية» ، إلا أنه كان يرى أنه «إذا كان للضغينة الدينية شئ من الدخل فى إيجاد المسألة الشرقية والاحتفاظ بها، فإنها ليست هى كل أسباب المسألة بدليل أن سلاطين آل عثمان فتحوا وتوغلوا وضموا الممالك وكانوا يدينون بالإسلام، ومن دخل فى ملكهم وتحت سيطرتهم كانوا نصارى وأشد تمسكاً بالنصرانية مما هم الآن. فلو كان الدين هو الباعث على كل هذا الحقد والمناهضة لكان الأولى أن يظهر إذ ذاك وعدم ظهوره بل رضوخ الطوائف والإمارات النصرانية للحكم العثمانى الإسلامى أكبر دليل على أن مسألة الدين لم تكن هى وخدها الفاعلة فى أمر المسألة الشرقية». ومن جانب آخر فإن الأفغانى حينما كان ينتقد الشرق والشرقيين لا يختص المسلمين وحدهم بنقده؛ فهو يأسف غاية الأسف على أمراء الشرق ويخص من بينهم أمراء المسلمين حيث سلموا أمورهم ووكلوا أعمالهم من كتابة وإدارة وحماية للأجانب عنهم، بل زادوا فى موالاة الغرباء والثقة بهم حتى ولوهم خدمتهم الخاصة بهم فى بطون بيوتهم. بل كادوا يتنازلون لهم عن ملكهم فى ممالكهم. ونلمح نفس هذه الرؤية العامة للشرق والشرقيين فى خطاب الأفغانى الإصلاحى التحررى فى قوله حينما احتلت مصر «إنه قد بلغ الإجحاف بالشرقيين غايته، ووصل العدوان فيهم نهايته، وأدرك المتغلب منهم نكايته خصوصاً فى المسلمين منهم؛ فمنهم ملوك أنزلوا عن عروشهم جورا وذوو حقوق فى الأمرة حرموا حقوقهم ظلماً واغنياء أمسوا فقراء .. الخ حتى لم تبق طبقة من الطبقات إلا وقد مسها الضر من إفراط الطامعين فى أطماعهم. إن الحديث عن الشرق إذن كان المقصود به عند الأفغانى عموم الأممالشرقية بكافة طوائفها وبلادها ودياناتها دون أن يقتصر الأمر على المسلمين وحدهم. وإن كنا نلمح أنه ركز فى حديثه على الأمة الإسلامية من بين الأممالشرقية الأخرى، فإن ذلك كان لضرورة يحتمها انتماؤه الدينى والوطني؛ ذلك الانتماء الذى جعله يتنازل عن حلم إيقاظ البشرية جميعاً وأهل الأديان جميعهم، إلى الدعوة إلى ايقاظ بلاد الشرق الإسلامية وحدها. وها هو يعبر عن انكسار حلمه الطوباوى العالمى وتحوله إلى حلم متواضع – وإن ثقل حمله – لإيقاظ الشرق الإسلامى بقوله :» ثم جمعت ما تفرق من الفكر ولممت شعث التصور ونظرت إلى الشرق وأهله فاستوقفنى الأفغان وهى أول أرض مس جسمى ترابها، ثم الهند وفيها تثقف عقلي، فإيران بحكم الجوار والروابط وإليها كنت صرفت بعض همتي، فجزيرة العرب من حجاز مهبط الوحى ومشرق أنوار الحضارة، ومن يمن وتابعاتها وأقيال حمير فيها، ونجد وعراق وبغداد وهارونها ومأمونها، والشام ودهاة الأمويين فيها، والأندلس وحمراؤها. وهكذا كل صقع ودولة من دول الإسلام فى الشرق وما آل إليه أمرهم فيه اليوم. فالشرق! الشرق ! وقد خصصت جهازا دماغيا لتشخيص دائه وتحرى دوائه». لعلنا لاحظنا حتى الآن مما سبق، أن الشرق عموماً كان الهاجس الذى أرق جمال الدين الأفغانى ولم يكن يفرق بين مسلم ومسيحى أو بين مسلم ويهودي، فكلها أديان الله التى تعود إلى «الدين الحق الخالص» بمفهومه القرآنى الشامل ! ولكن لما كان الانتماء إسلامياً والاسلام هو آخر الأديان السماوى الثلاثة وهو من عاش أهل الأديان الأخرى فى كنفه سعداء أمنين، ولما كان المسلمون هم العنصر الغالب فى بلاد الشرق فضلاً عن أنهم الملة المسلوبة ممالكها ومقاطعاتها فى ذلك العصر، فقد وجه الأفغانى خطابه الإصلاحى إليهم وركز همه فى إيقاظهم. وبهذه اللعة المفعمة بالعاطفة المغلفة بالرمز الغنى بالدلالات التاريخية، حدد وجهة تركيزه على كل ما هو شرقى مسلم. وتحدث أحياناً عن الكل وقصد الجزء، أو عن الجزء وقصد الكل، فالكل يتضمن مجموع أجزائه، والجزء إشارة إلى الكل الإسلامى – الشرقى الذى ينتمى إليه وينضوى تحت لوائه. فلقد تحدث ووحد فى حديثه أحياناً بين العربى والشرقي» وأحياناً بين الشرقى والمصرى ، الخ . لكنه فى كل الأحوال كان يخاطب الإنسان الشرقى المسلم بصفة عامة دون أن يميز بين الطوائف أو بين البلدان. فالكل عنده كانوا فى الهم سواء !. إنه قد أدى هذه الرسالة مستخدماً كل الوسائل المتاحة أمامه، فقد جاب العالم شرقه وغربه، استقبل كبطل هنا وكمنفى منبوذ هناك، قوبل بترحاب فى أماكن عديدة ، وقوبل فى غيرها بالسجن والاستهانة به وبمكانته. وكان فى كل مكان يحل فيه لا هدف له ولا عمل يؤديه إلا محاولة كشف المستور من هموم الشرقيين وما يعانونه من استعمار واستعباد وهوان، وهو يكشف عن ذلك المستور بعقليته التحليلية الناقدة الثاقبة فيظهر أمام القارئ او السامع علل هذا الهوان وذلك التخلف الذى يعانى منه أهل الشرق. ولا يتوقف عند حد تشخيص الداء وبيان أسبابه وإنما يقدم لكل داء الدواء المناسب بحسب الحالة التى يشخصها ومستوى المخاطب الذى يخاطبه. وصدق الإمام محمد عبده حينما وصفه قائلاً « كأنه حقيقة كلية، تجلت فى كل ذهن بما يلائمه، أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله». لقد كان الأفغانى يؤدى رسالته فيما يكتب أو يقول محافظاً على مستويات الخطاب ومراعياً مكانة ومستوى المخاطب. أما المضمون الذى حمله خطابه فكان دائماً على صورتين؛ صورة سلبية يكشف فيها عن الداء محدداً المرض الذى يعانى منه المجتمع الشرقى وأفراده حكاماً ومحكومين، وصورة إيجابية يحدد فيها الدواء لهذا المرض محاولاً إقناع المريض بشتى الوسائل أن يتجرعه وإن كان طعمه مراً. فلقد كان الأفغانى مدركاً أن الأمراض والعلل التى يعانى منها الانسان الشرقى فى مختلف البلدان أمراضا فتاكة وعللا طال بها الزمن وتخللت أركان المجتمع فاستسلم لها وتكيف مع أضرارها ! وكان مدركاً فى ذات الوقت أن علاج هذه العلل والأمراض ليس مستحيلاً؛ فإن كان من الصعب على المريض تجرع الدواء؛ فإن جسده لا يزال قادراً على التحمل. وإن كان الجسد منهكاً فإن الروح لا تزال موجودة قادرة على أن تتيقظ وتوقظ معها الجسد وتتغلب على أمراضه وخموله!! لقد حدد الأفغانى لنفسه الهدف وهو النهوض بهذه الأمة الشرقية المسلمة. أما وسيلة تحقيق الهدف فهى تحليل الأسباب التى أدت إلى اخفاق الشرق عموما والشرق الاسلامى خصوصاً، ثم النظر فى كيفية التخلص من هذه الأسباب والتغلب عليها ليعود الشرق إلى بهائه، ويعود المسلمون إلى السيادة والوحدة. وهاكم بعض التفاصيل. تحدث الأفغانى عن أسباب كثيرة لتخلف الشرق منها ما يتعلق بما يجرى داخل بلاد الشرق ولدى مواطنيه، ومنها ما يدبر لها من خارجه وإن كان قد أدرك أن الارتباط بين الأسباب الداخلية والخارجية ارتباط لا تنفصم عراه. ولذلك تحدث عن هذه الأسباب بشكل متداخل وحدد مع كل منها كيف يمكن التعلب عليه لتحدث النهضة المرجوة. ويمكننا إجمال هذه الاسباب وعوامل التغلب عليها فيما يلي: لقد أدرك الأفغانى أن من أشد الأشياء وطأة على الإنسان الشرقى هو ذلك الاحساس بالدونية الذى ينتابه إذا ما نظر إلى تخلفه وتردى أوضاعه بالقياس إلى تقدم الغرب وما ينعم به أفراده من سعادة ورخاء. ويزداد الأمر خطورة اذا ما استشرى هذا الإحساس بالدونية بين الشباب الذين هم عدة المستقبل والأمل فى غد أفضل. وقد لاحظ الافغانى أن «الناشيء الشرقى يعتقد أن كل الرذائل ودواعى الحطة ومقاومات التقدم انما هى فى قومه». ويترتب على ذلك أن هذا الناشيء» يجرى مع تيار غريب من امتهان كل عادة شرقية ومن كل مشروع وطنى تتصدى له فئة من قومه أو أهل بلده ويأنف من الاشتراك فى أى عمل لم يشارك فيه الأجنبى ولو اسما ويسارع لتقديس وتصويب كل خطأ أتيه الغريب ويسهل له كل صعب ويطلع على هنات قومه وزللهم وموقع الضعف منهم. وبالإجمال يكون الآلة القاطعة الفاعلة للغريب فى جسم قومه».