كتب: محمود المنياوي منذ أول يوم للانتخابات الرئاسية في مصر خرجت للنور لافتات حملت اسم "النهضة"، حينها اعتبرته جماعة الإخوان المسلمين عنوانا عريضا لبرنامجها الانتخابي لمرشحها الدكتور محمد مرسي، وقالوا وأكدو إنه مشروع كبير اقتصادي وسياسي واجتماعي متكامل للنهوض بمصر، وبمرور الوقت وبعيدا عن برنامج الجماعة الذي عنونته ب"النهضة" إلا أنه مع مرور نصف العام ويزيد على انتخاب الدكتور مرسي بدأت النهضة تأخذ معاني سلبية في المجتمع، حتى لدى رجل الشارع البسيط لأنه لم يتحقق جديد! ولكن ما يجب أن يعيه الجميع أن النهضة مشروع فكري ومشروع أمة قبل أن يقفز عليه المصطلح الإخواني، مشروع بدأ منذ قرون على يد علماء ومفكرين عرب ومصريين أدلى كل بدلوه، من أجل تحقيق التقدم العلمي والاجتماعي والسياسي لبلاد المسلمين. هذا هو مشروع النهضة الذي أعرفه، كان موجودا قبل أن تنشأ الجماعة وكان هدفه إخراج بلاد العرب والمسلمين من ظلمات التخلف والاقتداء بالغرب في تقدمه، مع الحفاظ على التعاليم والأصول بل والاستلهام من القديم، كانت هذه هي النهضة المشروع الفكري الكبير الذي انقسم بعد ذلك تيارات واتجاهات عديدة لكن ظل هدفه واحدا. ولا أعرف من أين جاء الإسقاط الإخواني لمشروعهم الانتخابي على اسم النهضة، ولكن ما يجب أن نعرفه أن النهضة والتقدم ليسا مقتصرين على فصيل، إذا نجح نجح مشروعه وإذا فشل ألقيناه، ولكن النهضة والرغبة في التقدم ستظلان موجودتين أملاً لكل عربي ولكل مصري سواء في وجود الإخوان أو عدم وجودهم. وفي الواقع فإن بدايات الحديث عن النهضة كمشروع فكري جاءت نتيجة التخلف الحضاري الذي عاشت فيه الحضارة الإسلامية لقرون عدة، خصوصا تحت الحكم العثماني الذي يوصف بالإسلامي، حتى كانت الصدمة الحضارية التي أيقظت المسلمين من ثباتهم بعد الحملة الفرنسية على مصر 1798. ولا أعرف هل أطلق الإخوان اسم النهضة لأنهم يعتبرون أننا نعيش في عصور التخلف التي سيخرجنا منها مشروعهم! وازدهر مفهوم النهضة مع بداية عصر الصناعة في عهد محمد علي وإرساله للبعثات العلمية إلى أوروبا، التي بدأت برفاعة الطهطاوي الذي درس في فرنسا ونظرته للغرب ونقلة عن تلك الحضارة وترجمته للعديد من الكتب التي كانت –وبغض النظر إلى أي تيار ينتمي– بمثابة إشارة إلى إعادة النظر في الواقع الإسلامي والمصري وضرورة مواجهه أسباب التأخر والتراجع. ثم كان بعد ذلك التكالب الاستعماري على مصر بعد افتتاح قناة السويس ومروا بعهد الخديوِ إسماعيل وسقوط مصر في الديون حتى الاستعمار الفعلي 1882، الذي قضى تماما على أي أحلام في التقدم، مما جعل البعض يتبنى وجهة النظر المدافعة عن ضرورة تطبيق النموذج الغربي العلماني، كما هو من أجل تحقيق التقدم والسير على النهج الأوروبي. وفى المقابل ظهر الطرح الإسلامي على يد جمال الدين الأفغاني وتحدث عن إصلاح الخلافة العثمانية والجامعة الإسلامية، وبعده الإمام محمد عبده الذي نهج منهجا جديدا في الإصلاح، حيث سعى إلى دحض الأفكار العلمانية الهادمة للدين وإثبات أن الدين الإسلامي لا يرفض العلم أو العقل والمدنية، ومن ذلك رده على فرح أنطوان الذي قال في إحدى مقالاته إن الإسلام لا يحض على العقل، ولذلك لا يصلح لأن يكون نموذجا تنهض به الأمة، جاء ذلك على صفحات مجلة الجامعة، فردّ الأستاذ الإمام بكتابه "الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية" الذي جاء فيه أن الإسلام بعكس الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، يحض ويهتم أيما اهتمام بالعلم والعقل، وتبع الأستاذ الإمام في منهجه هذا الشيخ رشيد رضا.. كانت تلك هي البداية الحقيقية لمشروع النهضة قبل أن تنقسم إلى اتجاهات متعارضة، فرفاعة والأفغاني والإمام برغم اختلافهم في طريق النهضة الذي يجب اتباعه، كانوا يسعون بقدر ما يستطيعون إلى إيقاظ أو إنشاء مشروع نهضوي يخرج الأمة من دورات التأخر المتتالية. ولم يكن لهذا المشروع اتجاه واحد، بل سعى للأخذ من الغرب والحفاظ على الإسلام، ولكن تحول المشروع النهضوي بعد ذلك إلى اتجاهات متناقضة وليست متحدة الهدف، وتبني كل تيار طريقا ما بين ليبرالية وإسلامية، وكأنهما متناقضان وسعى كل منهم إلى إثبات أن الآباء الأُول للنهضة هذه هم من أنصار اتجاهه دون غيره . فالمشروع النهضوي وإن كان استجابة لنداء التقدم والخروج من عصور التأخر فإنه تحول بعد ذلك إلى انقسام داخل الجسد الواحد، بل حدث انقسام في داخل كل اتجاه ولم تكن هذه هي الحال في مصر فقط، بل كان الانقسام على المستوى الإسلامي ككل، فظهر في 1912 مشير حسين القدوي في الهند يدعو إلى أن الاشتراكية هي بالأساس قيمة إسلامية وليست غربية، ومحمد إقبال في باكستان وإعجابه بالتجربة الماركسية، والبعض الآخر يرفض الاشتراكية ويسعى لليبرالية باعتبارها من قيم الإسلام مثل أبو الأعلى المودودي(1903-1979) . إذن فالنهضة مشروع أمة كبير، من غير الإنصاف قصره على فصيل واحد، وإن كان هذا الفصيل وصل إلى الحكم وفشل إلى الآن في إبراز نتائج واضحة لمشروعه، فإن هذا لا يجب أن يُنسي الجميع أن التقدم ليس قاصرا على هذا الفريق أو ذاك، كما أن الإسلام ليس قاصرا على تجربة هذا الفصيل أو هذه الجماعة بأخطائهم أو فشلهم، بالرغم من أنه من المبكر الحكم عليه، لا تعني فشل الدين كما أنها لا تعني انتهاء مشروع النهضة الفكري وليس الإخواني.