الحزن لا يريد أن يفارق مصر والمصريين. شهداء يتساقطون يوميًا، منهم دفاعًا عن الوطن ومنهم شهداء طلبا للعلم كل من الإرهاب والإهمال يتساويان فى تحقيق نتيجة واحدة وهى موت الأبرياء ونزف الدموع واستنزاف الوطن معركتان كبيرتان لا مفر من خوضهما فى وقت واحد كلاهما يحتاجان إلى يقظة كبيرة من أجهزة الدولة ومن كل مصرى أيا كان موقعه وأيا كانت مسئوليته، وكلاهما يحتاجان إلى حزم وحسم، وإلى قبضة حديدية وإلى قوانين رادعة وإلى أيدى لا تعرف معنى التردد أو الارتعاش حين تطبق القانون على الساعين فى إسقاط الوطن عمدا أو جهلا. معركتان كل منهما يكمل الآخر فى زيادة معاناة البلاد والعباد، وكل منهما يشحن الآخر بقدر من الديمومة.. الإرهاب نعرف مصدره جيدًا، ونعرف مآربه وأهدافه الخبيثة، ونعرف كيف نواجهه، وهنا لابد من التأكيد على مسئولية الدولة وأجهزتها فقط لا غير فى شن الحرب المضادة ضد الإرهاب والإرهابيين، لا أحد آخر يمكنه أن يقوم بهذه الحرب المضادة، كل ما علينا كمواطنين وأبناء هذا البلد أن نقف وبقوة وراء الجيش والشرطة وكافة أجهزة الدولة فى حربها ضد جماعات الإرهاب وذيولها المنتشرة فى كل مكان أن نقدم لها المعلومات إن عرفنا شيئا يفيد فى هذه المعركة.. لا أحد مُطالب بأن ينظم مجموعات لمقاتلة الإرهابيين أو البحث عنهم من أجل قتلهم أو الإمساك بهم أو الثأر منهم هذه هى مسئولية أجهزة الدولة ولا أحد غيرها. هؤلاء الشباب الذين أعلنوا نيتهم تكوين مجموعة مسلحة لحرب الإرهابيين فى سيناء أو فى غيرها ليسوا سوى أحد ثلاثة احتمالات.. إما أنهم شباب مُغرر بهم من قبل أطراف تريد أن تجعل المواجهة مع الإرهاب وسيلة لزيادة حدة الفوضى فى البلاد، وأن تنزع الشرعية عن الحكومة وتدفع المجتمع إلى أن يقاتل بعضه بعضا.. أو أنهم مجموعة إرهابية صورت هذا الفيديو المخادع لزيادة إرباك المجتمع والدولة، ومن ثم التغرير بشباب أبرياء لاحقا وتجنيدهم لتحقيق أهداف الجماعات الإرهابية. وربما ثالثا هم شباب عاديون أخذتهم الحماسة ويريدون أن يكونوا فى طليعة المواجهة مع الإرهابيين وتصرفوا بُحسن نية نسبيا، ومع ذلك فما علينا سوى أن نحذرهم ومعهم كل الذين يفكرون بهذه الطريقة، فهذا العمل مرفوض تماما لأنه يصب فى صالح الجماعات الإرهابية ويساعدهم على تحقيق مآربهم الشيطانية، وبالتالى لا يمكن التسامح مع أى من هذه المجموعات الراغبة فى حمل السلاح والتى تتحرك لصالح الإرهاب والإرهابيين وليس العكس، وأيا كان نبل الأهداف التى يسعى إليها هؤلاء الذين نفترض فيهم حُسن النية، فإنهم بذلك يقعون تحت طائلة القانون، فضلا عن أنهم ينازعون الدولة أدوارها الأصيلة، فلا شرعية أبدا لمن يحمل السلاح اللهم مؤسسات الدولة الأمنية والشرطية والعسكرية وفق الضوابط الصارمة التى يقرها الدستور والقانون ويسهر على مراقبة تنفيذها قضاء مصر الشامخ، ومن يتعدى هذه الحقيقة فهو بذلك يتعدى على الوطن بكامله. qqq إن هذه التصرفات، ومهما افترضنا فيها البراءة وحُسن النية مع قدر من التسرع، فإنما تنبئ عن ضعف التكوين الفكرى والثقافى والسياسى والقانونى لكثير من الشباب، وهو أمر ندرك أنه حصيلة سنوات من التجريف الثقافى والعلمى الذى عاشته الأجيال الشابة فى العقدين الماضيين. وندرك أيضا أن من الضرورى تضمين الثقافة القانونية والدستورية العامة فى أى مواجهة فكرية مع الإرهاب، وهنا تأتى كما قلنا مرات عديدة سابقة مسئولية مؤسسات الدولة فى مجالات الإعلام والثقافة والفن والفكر والخطاب الدينى وإعداد الشباب، وإذا كانت هذه القضايا قد أهُملت لسنوات طويلة فقد جاءت اللحظة الفارقة والحاسمة التى تفرض وضع هذه القضايا على قمة سلم الأولويات الوطنية، ليس فقط كجزء من استراتيجية الحرب الشاملة على الإرهاب، ولكن أيضًا من أجل إعداد أجيال أكثر وعيًا وأكثر إدراكًا لطبيعة العصر وأكثر إلمامًا بحقوقها وبواجباتها، وأكثر إيمانًا بمعنى المواطنة الحقة. إن الانتصار على الإرهاب معناه ببساطة انتصار الحياة على الموت، وانتصار الحكمة على الجهل، وانتصار العلم النافع على الشعارات الزائفة والمزيفة، ولا يتأتى ذلك إلا بالوعى بكيف يُدار الوطن وحدود مسئولية المواطن، لاسيما فى اللحظات الفارقة كالتى تعيشها مصر الآن. qqq لا يقتصر الإرهاب على تلك الأفعال الدنيئة كالقتل وزرع القنابل لهدم ممتلكات الوطن وترويع المواطنين الأبرياء، بل يتعداه إلى التزييف والتآمر مع الخارج والإساءة لشرف الأمة وسمعتها، والسير فى ركاب الاستخبارات الدولية والتلاعب بالحقائق وإنكارها، والتشويه المتعمد لكل ما معروف نيلا لرضاء أصحاب التمويل وأصحاب القرار فى الخارج، وكم كنا نشعر بقدر من الفخر والفرحة لما قام به الوفد المصرى الرسمى وممثلو جماعات حقوق الإنسان المصرية فى مواجهة الأكاذيب والترهات التى حاولت دول ومنظمات أن ترددها باعتبارها حقائق تثبت تراجع مصر فى مجال حقوق الإنسان ومن ثم تستحق اللوم. نجح الوفد المصرى فى إجهاض مخططات كانت وراءها دول مثل تركيا وجماعة الإخوان الإرهابية، كما نجح فى الرد بالحقائق الدامغة على كل الأكاذيب التى حاولت جماعة الإخوان الإرهابية أن تنشرها وتروج لها لكى تؤثر على عملية المراجعة الدورية لحالة حقوق الإنسان فى مصر، وكذلك على التساؤلات البريئة التى طرحتها بعض الدول عن حُسن نية. كانت معركة فكرية سياسية قانونية حقوقية خرجت منها مصر مرفوعة الرأس، تفهم العالم ما الذى يجرى فى مصرنا بكل شفافية، عرف حجم التحديات التى يمثلها الإرهاب الأسود والأعمى الذى تقوم به جماعات إرهابية عابرة للدول وتمولها للأسف دول أعضاء فى الأممالمتحدة من أجل إسقاط مصر ونظامها الجديد.. كما عرف العالم أيضا مدى الانجاز الذى تحقق فى خطة الطريق التى فرضها الشعب المصرى فى 30 يونيو بعد أن أسقط نظام الإخوان الإرهابى الإقصائى إلى غير رجعة. ورغم التحديات التى تمر بها مصر الآن، ورغم أن الطريق إلى إنجاز منظومة متكاملة لحقوق الإنسان سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا ومعرفيًا مازال طويلا فمن الإنصاف القول بأن منظومة حقوق الإنسان فى مصر حققت قدرًا مهمًا من الرسوخ فى عقل ووجدان الشعب المصرى، كما أنها أصبحت منهجًا ملزمًا فى عمل الكثير من المؤسسات وليس كلها، وفى ضوء المبادئ والمواد الواردة فى دستور 2014 فهناك المزيد مما يجب إنجازه وفقًا لخطط واضحة وموارد يؤمل فى توفيرها فى السنوات المقبلة.. لكن هذا الانجاز لن يأتى لا بالصوت العالى ولا بالمهاترات ولا بالخضوع إلى ابتزاز منظمات دولية تحترف ابتزاز الدول والمجتمعات بتقارير مشوهة وأكاذيب منهجية مع قليل من الحقائق حتى توهم القارئ بمصداقية زائفة، ولكنه يأتى بالعمل وبالتخطيط والمواجهة العلمية والعقلانية والقانونية لكل ما يتعلق بأى تراجع يحدث لحقوق الإنسان، وهنا تتكامل أدوار منظمات المجتمع المدنى وأدوار المؤسسات الرسمية والوزارات المعنية، وهو تكامل لن يتحقق إلا بالعمل المشترك وبروح إيجابية وبشفافية وصراحة فى ظل سعى دؤوب لتحسين ما يجب تحسينه والوقوف بصرامة ضد كل تجاوز مهما كان حجمه ومهما كان القائم به. qqq فيظل هذا التطور الإيجابى الذى شهده مقر الأممالمتحدةبجنيف وقعت حادثة البحيرة، وراح ضحيتها طلاب علم أبرياء ومواطنون واجهوا قدرهم المكتوب، وبدلا من أن نتأمل ما الذى جرى فى جنيف بدلالاته الإيجابية ومتطلباته المستقبلية، نشر الحزن أشرعته كثيفة على كل بيت مصرى.. هذه المرة فرض الإهمال نفسه، ودفع الأبرياء الثمن غاليًا.. الإهمال لا يقل ضراوة عن الإرهاب ولا يقل ضراوة عن الحرب المعلنة إنه يأتى من داخلنا نحن، من حالة لا مبالاة يقوم المرء بالتمسك بها مرارًا وتكرارًا حتى تصبح سلوكًا عاديًا، يظن بعدها أن هذا هو المُعتاد، وقد ينجح الإهمال فى تحقيق بعض المكاسب الصغيرة لأصحابه ولكنه ينتهى دائما بكارثة تطيح بكل شئ بدءًا من سلامة الجسد وحتى نهاية الحياة نفسها. ومن المحزن هنا أن تقول الإحصاءات العالمية إن مصر هى رقم واحد فى عدد ضحايا حوادث الطرق فى السنوات الثلاث الأخيرة، وبالنسبة للخبراء فإن هذه النتيجة المحزنة لها ثلاثة أسباب مجتمعة، وهى تراجع البنية الأساسية للطرق وثغرات فى القوانين المنظمة للمرور، وأخيرًا سلوكيات السائقين سواء سائقى السيارات الملاكى أو سائقى سيارات النقل بأنواعها وأحجامها المختلفة. الحكومة والمؤسسات الرسمية مسئولة مباشرة عن تعزيز البنية الأساسية للطرق وتحسين أدائها ووضع الإشارات والخدمات اللازمة، ومسئولة عن مراجعة قانون المرور وكل القوانين التى تنظم نقل السلع بريا، وعن تنظيم سير سيارات النقل سواء فى الطرق السريعة أو فى بعض المناطق داخل المدن كما أنها مسئولة عن إطلاق حملات توعية لمواجهة إهمال السائقين وجبروت البعض منهم. للأسف الشديد، لم يعد الإهمال والتسيب واللامبالاة استثناء فى حياة الكثير من المصريين، بل أصبح نمط حياة.. أذهلنى أن يخرج علينا أحد سائقى سيارات النقل الثقيلة ليقول ويعترف بأنه يتعاطى المخدرات أثناء قيادة السيارة، وأنه يجد صعوبة فى تغيير هذه العادة التى تحولت إلى سلوك يومى رغم أنه يشعر بالذنب أحيانا.. الاعتراف بالخطأ مطلوب إن كان سيؤدى إلى تغيير العادات السيئة، أما أن يكون نوعا من التباهى فنحن هنا أمام حالات مرضية بكل معنى الكلمة. وإذا كانت الحكومة قد اتخذت قرارات بتغليظ بعض عقوبات المخالفات المرورية خاصة السير تحت تأثير المخدرات أو السير عكس الاتجاه، كنوع من الردع، فهذا وحده لا يكفى.. الردع بلا شك مطلوب فى إطار القانون، ولكن قضية مواجهة الإهمال سواء فى المرور أو فى غيره يتطلب أسلوبًا آخر أكثر شمولا وأكثر وضوحًا، أسلوب يقوم أساسًا على مشاركة المجتمع فى معالجة أخطائه وتغيير سلوكياته التى ثبت بالدليل القاطع أنها تسبب له الوبال والحزن والتراجع. مصر كلها مطالبة بأن تنظر إلى الإهمال والتسيب الذى تمكن من الكثيرين باعتباره قضية خطيرة لا تقل خطورة عن الحرب على الإرهاب، والإهمال نفسه كان سببًا فى انتشار الإرهاب، وكلا الحربين لا بديل عن الانتصار فيهما معا أيا كانت المعاناة وأيا كانت التضحيات.