من حق المصريين أن يفخروا بأداء رئيسهم فى الولاياتالمتحدة ومن حق الرئيس أن يرى منا مثل هذا الفخر مشفوعا بالشكر والتقدير .. لقد رفعت مصر عاليا وهى التى تستحق منا أكثر مما نعطى وأكثر مما نضحى. لقد ذهب السيسى إلى منتدى العالم ممثلا فى الاجتماع السنوى للجمعية العامة للأمم المتحدة، والتى تُعد بحق برلمان العالم أجمع حيث يشارك فيه قادة الدول كل يريد أن يضع بصمة على ما يجرى فى العالم وفى منطقته القريبة، وكل يريد أن يشرح إنجازاته ويقدم رسائله ويوضح ما هو غامض فى بلده على العالم، وكم كانت مصر بحاجة إلى مثل هذه الفرصة لكى يتواصل الرئيس مع قادة العالم ويبحث معهم الهموم المشتركة، ويلقى أمامهم بطموحات المصريين جميعا وتطلعاتهم نحو غد أفضل، ويشرح لهم ما كان من جماعات التطرف وكيف تصرف الشعب معهم بأسلوب حضارى. وكم كانت مصر بحاجة إلى لحظة يستمع فيها العالم بأسره لمن يشرح لهم بكل صدق وشفافية ما الذى جرى فى بلادنا فى الأعوام الثلاثة الماضية ويزيل عنهم الأوهام والتقديرات البائسة غير الصحيحة عن التطورات التى جرت بعد ثورة المصريين فى 30 يونيو 2012، وهى الثورة الشعبية الأولى فى العالم التى فرضت مفاهيم وآليات جديدة فى محاسبة كبار المسئولين حين يقصرون فى أداء دورهم، وحين يحولون مهمهتم فى حماية الشعب والعمل من أجله إلى مهمة لازدراء الشعب وتدمير مؤسساته وتخريب مستقبله، فلم تعد المحاسبة الشعبية مجرد فكرة نظرية، ولكنها أصبحت حقيقة واقعة نفذها المصريون بكامل الوعى والإصرار، والمؤكد أن هذه المحاسبة الشعبية حين أخذت طابع الثورة الجارفة لم ترق للكثيرين فى الشرق كما فى الغرب والعديد من هؤلاء لم يفهم بعد ماذا عنت ثورة المصريين على الإخوان كجماعة وفلسفة حكم وكمعتقد دينى وطريقة حياة وبناء تنظيمى سرى لا أول له ولا آخر، مما أجج مشاعر الغضب لدى الغالبية الساحقة من المصريين، والذين لم يجدوا أمامهم سوى خيار واحد فقط، وهو الإطاحة بهؤلاء الذين استغلوا الدين أسوأ استغلال، وأرادوا أن يجعلوا حياة المصريين مثالا آخر للبؤس والضياع. وهنا تعبر كلمات السيسى عن هذه اللحظة التاريخية الفارقة بكل أريحية وذكاء، فقد تمسك الشعب بهويته، «تحصن بوطنيته فثار ضد الإقصاء، رافضًا الرضوخ لطغيان فئة باسم الدين، وتفضيل مصالحها الضيقة على مصالح الشعب.. تلك بإيجاز شديد معالم اللحظات الفارقة التى عاشتها مصر فى الفترة الماضية، لكنها ليست إلا مرحلة من مسيرة ممتدة، بطول وباتساع آمال وتطلعات المصريين، ليوم أفضل وغد أكثر ازدهاراً». لقد احتار الغرب ولا شك كما احتار كثيرون فى توصيف ما حدث فعلى صعيد الشكل الظاهرى بدأ الأمر وكأنه إطاحة بتطور ديمقراطى تمثل فى رئيس منتخب، أما على صعيد الجوهر فلم يتطرق كثيرون للمعنى الكامن فى ثورة المصريين وهو أن الديمقراطية ليست انتخابا وحسب، أو رئيس جاءت به الصدفة وله الحق أن يفعل ما يريد، أو جماعة سرية غير قانونية تعمل على تغيير هوية الوطن بأسره فكل هذه الأمور وغيرها لم يدركها الغرب ومن سار على هديه فكانت الإدانات أحيانًا وكان النقد أحيانا أخرى، وكان الصمت المشفوع بتحركات تباعد مرة ثالثة وهكذا. ولعل أحد أهم نتائج زيارة السيسى للولايات المتحدة هو هذا الكم الكبير من اللقاءات التى أجراها مع رموز سياسية أمريكية وعالمية وقيادات دولية عديدة فضلا عن دعوات الزيارات التى وجهت له لأكثر من بلد، كألمانيا وكوريا الجنوبية وإثيوبيا وغيرهما، وهو التطور الذى يؤكد أن مصر الآن قد مرت بنجاح وأمان من عنق الزجاجة الذى أحاط بها لمدة تقترب من العام. هذا المرور من عنق الزجاجة هو نتيجة طبيعية لإرادة الشعب، ونتيجة طبيعية لتضامن مؤسسات الدولة فى مواجهة المؤامرات والخطط التى نفذها ولا يزال ينفذ أجزاء منها أشخاص يحملون الجنسية المصرية وآخرون من المرتزقة بهدف ترويع الشعب وإنهاكه والزج به فى أتون الصراعات الطائفية والمذهبية كما يحدث فى بلدان عربية مختلفة وكما فشلت المساعى الماضية، حتما ستفشل كل المحاولات الدنيئة لهدم مصر. إن وقوف السيسى على منبر الأممالمتحدة وبقدر ما هو نجاح لقيادته وأسلوبه السلس فى تسيير شئون مصر، بقدر ما هو نجاح لإرادة الشعب المصرى الذى فرض نفسه على العالم بأسره، وبهذا المعنى فإن رسائله التى تضمنتها كلمته المتوازنة والمعبرة عن هموم مصر الحقيقية وطموحاتها المشروعة فى التطور والنهوض، والتى صفق لها الحضور عدة مرات على غير العادة فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة هى رسائل للتاريخ بكل ما يعنيه التاريخ من شموخ وإباء.. فعلى الصعيد الداخلى كانت الرسالة بسيطة ومؤثرة معا، فمصر الآن بدأت فى التعافى وإن ببطء، وأخذت على عاتقها البدء بمشروعات اقتصادية عملاقة كقناة السويس الجديدة وشبكة الطرق التى تلف مصر طولا وعرضا، وهى فى تحركها الداخلى فإنها لا تنسى العالم كله، وتقدم له هدية كبرى تسمح له بمزيد من التجارة ومزيد من النشاط الاقتصادى ومزيد من الاستثمار. ولذا فالعالم مطالب بأن يرد الجميل، وأن يشارك بكثافة فى المؤتمر الاقتصادى الذى سيعقد فى فبراير المقبل من أجل المزيد من المشروعات والمزيد من الاستثمارات والمزيد من فرص العمل للشباب وللمرأة ولكل مصرى يحب بلده، ولكل شخص يحب مصر ويريد أن يسهم فى نهضتها الجديدة، ولعل الرسالة وصلت للقطاع الخاص فى مصر وفى خارجها.. لقد قررت مصر أن تعطى الفرصة وخاسر من لا يستثمرها. إن مصر التى تبنى نفسها الآن وتجتهد من أجل أن تنفض عن نفسها غبار الغفلة التى أصابت البعض، ليست بعيدة عن هموم العالم، وفى مقدمته التطرف والتعصب والإرهاب، وإن كانت سبقت العالم كله فى مواجهة هذه الآفات الثلاث الشريرة ودفعت فى السابق ثمنًا كبيرًا ولا زالت تدفع ثمنا آخر سوف تتحمله عن طيب خاطر حتى يقضى الله بأمره وتنتهى هذه الموجة قريبا. لقد حذرت مصر كثيرا من خلط الدين بالسياسة، وحذرت من استغلال المشاعر الدينية لدى الشعوب المسلمة فى إثارة الضغائن والصراعات والحروب، وحذرت أيضًا من الخلط المقصود الذى احترفه الغرب بين حقوق الإنسان وبين فتح الأبواب للجماعات المتطرفة باسم حرية التعبير، وها هى النتائج السوداء تفرض نفسها على العالم كله، وما داعش وأمثالها إلا مجرد ظواهر الأشياء، فالأصل يكمن فى غياب النظرة الشاملة لحقوق الإنسان والتى تجمع حقوق السياسة مع حقوق الاقتصاد مع حقوق الحياة الكريمة من تعليم ومسكن وصحة ومعرفة وثقافة.. ولقد كان الرئيس السيسى موفقًا حين ركز على خبرة مصر فى مواجهة جماعات الإرهاب والتطرف، وتركيزه على أن «الإرهاب وباء لا يفرق فى تفشيه بين مجتمع نام وآخر متقدم.. فالإرهابيون ينتمون إلى مجتمعات متباينة، لا تربطهم أى عقيدة دينية حقيقية، مما يحتم علينا جميعًا، تكثيف التعاون والتنسيق لتجفيف منابع الدعم الذى يتيح للتنظيمات الإرهابية مواصلة جرائمها، إعمالاً لمبادئ ميثاق الأمم لمتحدة وتحقيقًا لأهدافها». تتجلى نظرة مصر الشاملة فى مواجهة أزمات المنطقة من تطرف وتعصب وإرهاب وتخلف وحروب أهلية فى أمرين متكاملين، أولهما دعم بناء الدولة القومية من خلال المواطنة وتوفير الحقوق وعقد اجتماعى وتوافق وطنى وتنمية شاملة، وثانيهما المواجهة الحاسمة لقوى التطرف والإرهاب مع تحصين المجتمع ضد الانسياق خلف الفكر المتطرف. وإذا كانت الشعوب تتحمل مسئولية بناء دولتها القومية على أسس توافقية وتنموية شاملة وحقوقية محددة، فإن مواجهة التطرف والإرهاب لم تعد قضية محلية لبلد بعينه، فقد تحولت إلى هجمة عالمية، ومن ثم صارت المواجهة بالضرورة عالمية، وعلى هذا الأساس تعتبر مصر نفسها فى معركة ضد داعش وفروعها وضد كل من يمارس الإرهاب والترويع ولعل ما يجرى فى سيناء يغنينا عن الحديث.