بات مسلسل العنف والدم زلزالاً قويًا يضرب أمن واستقرار المجتمع المصرى الذى ظل لسنوات طويلة نموذجا فى الشهامة والترابط ونادرًا ما كان يتشاجر أبناء المنطقة الواحدة.. إلا أن حلقات هذا المسلسل الدموى ازدادت عنفًا فلا يمر يوم إلا ويسقط قتلى وجرحى نتيجة «خناقات» أو خصومات ثأرية أو فتنة طائفية فى ظاهرة غير مألوفة على المصريين.. «أكتوبر» تناقش هذه الظاهرة الخطيرة مع نخبة من خبراء علم النفس والاجتماع ورجال الدين الذين دقوا ناقوس الخطر ووجهوا صرخة لضمير المجتمع ليستفيق من هذه الكبوة ويخرج من هذا الوحل لتفادى سقوط الأجيال القادمة فى مستنقع العنف والدم. وعلى سبيل المثال لا الحصر بعد أحداث أسوان والصف شهدت مدينة الخصوص بمحافظ القليوبية فجر الأحد الماضى جريمة ضد الإنسانية، بدأت بمشاجرة على قطعة أرض بين أحمد إبراهيم البرنس مالك الأرض، وأحد افراد عائلة البقوشى انتهت بشطر الأول نصفين بمنشار كهربائى، وبدأت تفاصيل الواقعة عندما علم أحمد إبراهيم البرنس 34 سنة تاجر أراضٍ، وكان فى إحدى محافظات الصعيد، باعتداء أحد أفراد عائلة «البقوشىى» على قطعة أرض يملكها وجهزها لمشروع عقارى، وفور وصول البرنس إلى الأرض المتنازع عليها، فجر الأحد الماضى، اندلعت مشاجرة بينه وبين أفراد عائلة البقوشى الذى توجه على أثرها إلى أحد المخازن القريبة وأحضر منشارًا كهربائيا وشق المجنى عليه نصفين. تصاعدت وتيرة الأحداث بعد دفن «أحمد البرنس» فى مقابر العائلة بالخصوص، وتجمع عدد من الأهالى وتوجهوا إلى بيت الجانى وأضرموا فيه النيران وسقط أحد الأهالى فى المواجهات ويدعى نادر كامل هارون 35 سنة قتيلاً برصاصة فى القلب كما أصيب 3 آخرون. انتقل فريق من النيابة العامة إلى موقع الحادث لمعانية مسرح الأحداث، وقررت النيابة دفن الجثتين، وطالبت بسرعة ضبط وإحضار المتهمين وضبط الأسلحة المستخدمة كما طلبت تحريات المباحث حول الحادث. وتمكنت الأجهزة الأمنية بالقليوبية، بالاشتراك مع قوات من الجيش من السيطرة على الاشتباكات، واستخدمت الغازات المسيلة للدموع، وتم الدفع بعدد من قوات الأمن وسيارات الأمن المركزى، تحسبًا لأى حالات طارئة قد تحدث، وجار إعادة الأوضاع إلى طبيعتها. كان لابد من استطلاع آراء علماء النفس والاجتماع ورجال الدين فى هذه الظاهرة الدموية.. فى البداية تقول الدكتورة سوسن فايد أستاذ علم النفس إن هذه الجريمة مرتبطة بعدة عوامل من الواضح أن الأطراف محتقنة وحادة، وليست لديهم فضيلة الصبر، فلجأوا إلى أخذ الحق بالذراع، نتيجة حالة التوتر الحاد الذى يعيشها المجتمع المصرى، وغياب الأمن النفسى الاجتماعى والخوف على المصالح. وأكدت أن انتشار المخدرات والإدمان، خاصة فى المناطق الريفية، يؤدى إلى حالة من التوتر النفسى والخروج عن السيطرة وبالتالى ارتكاب الجرائم بأبشع الصور.. فنجد حالة مثل التقطيع بالمنشار الكهربائى يقوم بها الجانى، وبعد أن يعود إلى وعيه يقول «لا أعلم كيف فعلت ذلك». وأشارت إلى أن جريمة القتل بالمنشار الكهربائى ليست متعمدة، إذ أن آلة القتل كانت فى ساحة الجريمة عن طريق الصدفة، ولاتتم مثل هذه الجرائم إلا فى حالة الخروج عن الوعى تحت تأثير المخدرات. وأرجعت حالة التوتر العام وأزمة القيم والأخلاقيات التى يعيشها الوطن إلى إعلاء القيم المادية «المال» على القيم المعنوية لدى الأفراد.. وكذلك غياب العدالة الناجزة، وعدم الثقة فى إعطاء كل ذى حق حقه فى أقرب وقت ممكن، وغياب دولة القانون وحدوث التجاوزات دون حساب، والانفلات الأمنى والاعتماد على التأمين الذاتى وانتشار السلاح بين الأهالى. وترى أنه لا خيار للخروج من هذا المناخ المتوتر الذى انحرف بمسار الدولة إلى العنف والجريمة، إلا ببدء مناخ جيد تؤثر فيه الأخلاقيات والقيم المعنوية، وتأمين حياة الناس إذ يجب تصحيح المناخ ومواجهة الانفلات وعمل ردع عام فى الشارع لكى تحجم ظواهر العنف بكل أشكاله. وذكرت عدة عوامل أخرى مهمة على مستوى الفرد، من تأمين متطلبات المعيشة وإيجاد رزق كريم، وحماية الناس من العوز والحفاظ على الكرامة الإنسانية، تؤدى إلى مناخ جيد يمنع ارتكاب الجرائم والوقوع فى المحظور والندم، ويمنع إنتاج مثل هذه السلوكيات الشاذة التى يرفضها المجتمع. غياب الأمن بينما تقول د.سامية الساعاتى أستاذ علم الاجتماع جامعة عين شمس، أن جرائم القتل انتشرت بعدة أشكال فى المجتمع المصرى سواء كانت بمنشار كهربى أو غيره، فليست الوسيلة هى الأهم فى جريمة القتل.. ولكن الأهم هو معنى الجريمة، وأرجعت السبب فى ذلك إلى عدم الشعور بالأمان وعدم الالتزام وإشاعة الفوضى وانتشار العنف.. وتتساءل كيف لحوار بين شخصين بينهما خلاف على قطعة أرض أن يكون القتل هو أحد الحلول الحاسمة؟ وأكدت الساعاتى أن هذه الجرائم ظاهرة حديثة على مصر، ولكنها ستزول بعد انتشار الأمان ووجود عقاب رادع للمجرمين، فرؤية الدماء باستمرار جعلت الناس تزداد إجرامًا، وما نحن بصدده جريمة مركبة ومعقدة.. تكونت عواملها فى فترة زمنية طويلة ولكن علم الاجتماع يخبرنا بأن ما سببته العوامل على مر الزمن لايزول إلا من خلال وقت طويل جدًا. وعلق الدكتور محمد الشحات الجندى، عضو مجمع البحوث الإسلامية والأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، على ظاهرة القتل المتعمد وانتشارها فى المجتمع المصرى، بأن ما يحدث نتيجة حدوث تغيرات فى الشخصية المصرية، التى أصبحت تميل إلى العنف، بعد أن كانت تتسم بأنها مسالمة للغاية، كما أصبحت تهتم بالمادة وتراجعت القيم، ولم تعد العلاقات الاجتماعية بالتماسك والقوة التى كانت عليها، حتى رأينا أن الجرائم ترتكب لأتفه الأسباب، بل وصل الأمر إلى انتشار الجريمة بين من تربطهم قرابة من الدرجة الأولى فالولد يقتل أباه والزوج يقتل زوجته، لافتا إلى أن كل هذا لم يكن معروفًا فى المجتمع المصرى. وأوضح د. الجندى أن غياب الوازع الدينى وتقليص دور المسجد يكاد يكون سببًا فى انتشار هذا النوع من الجرائم التى تنم عن حقد ورغبة فى الانتقام. فكنا نجد المصرى يخشى أن يفعل شيئًا بمجرد أنه يعرف أنه حرام أما الآن لم يعد يفرق بين الحرام والحلال، مشددًا على ضرورة استعادة دور المسجد لغرس ثقافة السلام بدلًا من الكراهية، مع وجود الرادع القانونى. كما شدد على ضرورة أن يركز الخطاب الدينى على هذه الأزمات التى يعانى منها المجتمع وأن تكون هناك دعوة للإصلاح وصحوة الضمير، مع ضرورة الاعتراف بأننا نعانى أزمة انفلات دينى وأخلاقى يجب أن تتجه رسالة المسجد إليها، لافتًا إلى أنه لو عاد دور المسجد كما كان عليه يمكننا أن نتحكم فى الأمور ونحول ثقافة الكراهية إلى المودة والمعاملة الحسنة، فيقول تعالى چک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ?چ وأكد عضو مجمع البحوث الإسلامية على أهمية دور الإعلام، منتقدًا من يروج لما أسماه «ثقافة الفهلوة» والخروج على القانون، متمنيا انتشار التوافق وعودة دور المسجد والمدرسة والأسرة حتى يعود المجتمع متدينا. انهيار الأخلاق فى حين قال الشيخ على وصفى إمام جامع عمرو بن العاص، وعضو جبهة علماء الأزهر إن الحالة الدينية فى مصر، حاليًا متردية، والأخلاق فى أزمة كبيرة، مؤكدًا أن الواجب على المسلمين حفظ الأموال والأعراض، وما نراه من أزمات تعود فى الأساس إلى غياب الوازع الدينى والأخلاق، مع أن نبى هذه الأمة محمد صلى الله عليه وسلم جاء ليتم مكارم الأخلاق. وتابع: أن النبى صلى الله عليه وسلم حذر من الدم فقال، عليه الصلاة والسلام حين نظر إلى الكعبة «إنى لأعلم حرمتك عند الله ولكن حرمة الدم المسلم أعظم حرمة عند الله منك» لافتا إلى أن ما نراه الآن من قتل وعنف أساسه البعد عن الله وسنة رسوله كما يعود إلى الفهم الخاطئ لنصوص القرآن والسنة، فقد يفهم البعض آيات وأحاديث بشكل خطأ ويفسرها على هواه ينطلق من خلالها إلى ترهيب الناس وترويعهم معتقدًا أنه على الحق وأن هذا من الدين، فى حين أن الدين من هؤلاء براء لأن الإسلام ما جاء بإرهاب وتعمد قتل وإنما جاء بالسلام والاستقرار فيقول تعالى چچ چ ? ?چ. وأوضح الشيخ وصفى أن النبى صلى الله عليه وسلم كان خُلقه القرآن، وما يظهر فى المجتمع إنما هو من قلة العقول والإفهام إلى أن النبى حذر من قتل المسلمين فقال «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار.. فقالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»، فالقتل حرام شرعًا، وايضاع الفتنة بين الناس حرام، لأنه قد يمشى الإنسان بالنميمة بين عائلتين فيتقاتلا، وهذا النمام لا يدخل الجنة، حيث قال صلى الله عليه وسلم «لا يدخل الجنة نمام»، فما حدث بين الصحابة من قتال كان بإيقاع من الخوارج الذين أوقعوا بين على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان. ودلل عضو جبهة علماء الأزهر بمواقف كثيرة للرسول عليه الصلاة والسلام نهى فيها عن القتل، منها ما حدث فى إحدى الغزوات عندما قتل أسامة بن زيد أحد الرجال الذين يقاتلونهم حين شهد أن لا إله إلا الله، فقال له النبى لما قتلته قال، إنما قالها خوف من السيف، قال أشققت عن قلبه»، وكذا ما حدث مع عمر بن الخطاب حين هم لقتل أحد المسلمين الذين عصوا النبى فقال له صلى الله عليه وسلم «يا عمر لعله يصلى.. فقال له عمر فكم من مصٍل يقول بلسانه ما ليس بقلبه، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمر ما أمرت أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق عن بطونهم». وحدد وصفى بعض النقاط التى يجب الأخذ بها لعلاج مثل هذه المشكلات التى تظهر بين الحين والآخر أهمها أن يقوم كل من الأزهر والكنيسة بدوره الفعال لتوحيد الصف والالتئام ليعود المجتمع رجلا واحدا، إضافة لوجود القوانين الرادعة التى تردع هذا القتل وتعليم الناس أمور دينهم الحقيقى الوسطى دون إفراط ووقف ترخيص الأسلحة.