أيام قليلة ويرحل عنا عام 2013 تاركًا خلفه الكثير من الأحداث والتجاذبات السياسية، وبعد قيام ثورات الربيع العربى بعامين أو ثلاثة لا تزال دول المنطقة مصابة بالتخبط وعدم الاستقرار السياسى والاقتصادى والأمنى. وما يمكن استخلاصه من المشهد المحبط لعام 2013 هو ترسيخ الانطباع بأن العرب لا يحسنون الفرص التى تتاح لهم، ولا يستطيعون تنفيذ ما اتفقوا عليه رغم ما فيه من مصلحة للأوطان. فكل الجداول الزمنية التى تعهد حكام عرب بتنفيذها للخروج من مشاكل سياسية واقتصادية، مضى العام ولم يتحقق منها شىء، ويبقى الأمل فى العام القادم، فقد ترى المشاكل المزمنة والملحة طريق الحل. توالت الأحداث فى الجزائر خلال عام 2013 بين السياسى والأمنى كالهجوم على مجمع المحروقات بتقنتورين فى عين أميناس (جنوب شرق البلاد)، وتصدع بيت جبهة التحرير الوطني، إلا أن الوضع الصحى لرئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة برز كعنوان رئيسى، لما فجره من جدل بلغ حد المطالبة بتطبيق فصل العزل السياسى الوارد فى المادة 88 من الدستور الجزائرى. وفتحت عودة بوتفليقة من باريس بعد فترة علاج طويلة قضاها هناك، أسئلة حول المستقبل السياسى للبلاد، لاسيما أنها مقبلة على رئاسيات ترى عدد من الأحزاب، خاصة منها تلك المقربة من السلطة، أنه مرشحها، وهو ما لم تقبله أحزاب المعارضة على اعتبار وضعه الصحى الذى ينقص من أهليته لعهدة رابعة، وإن كانت هذه الأحزاب فشلت إلى الآن فى إيجاد مرشح توافقى. وكان يوم 27 أبريل، تاريخ نقل الرئيس بوتفليقة إلى باريس بعد إصابته «بنوبة قلبية» بداية لترقب الشارع الجزائرى خاصة النخب التى انتقدت، مع توالى الأيام الصمت الذى فرضته السلطات حيال الحالة الصحية للرئيس، معتبرين أن من حق الشعب معرفة الحقيقة. وطالبت المعارضة بتطبيق المادة 88 من الدستور وحث البرلمان على التصريح ب «ثبوت المانع»، حتى يبدأ التحضير لمرحلة ما بعد بوتفليقة. وبعد مرور 81 يوما، عاد بوتفليقة من باريس لتفتح أسئلة أخرى حول العهدة الرابعة التى يقول حزب جبهة التحرير الوطنى إنه الأجدر بها حتى وإن كان الرئيس نفسه لم يعلن إن كان سيترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة أم لا فى ربيع 2014. هذا وتعانى ليبيا من حالة انفلات أمنى خاصة فى بنغازى وهو ما ترتب عليه من حوادث الاختطاف والاغتيالات، وكان أبرزها اختطاف رئيس الحكومة على زيدان فى العاشر من شهر أكتوبر الماضى، واتهم زيدان كلاً من محمد الكيلانى ومصطفى التريكى العضوين بالمؤتمر الوطنى العام بالضلوع فى عملية اختطافه، الأمر الذى نفاه النائبان. كما تعانى من وجود التشكيلات المسلحة وفى نهاية العام دخلت أغلب المدن فى عصيان مدنى للمطالبة بخروجها وتسلمت وزارة الداخلية ورئاسة الأركان أغلب المقرات. وشهدت قطر تنصيب الشيخ تميم بن حمد آل ثانى فى يونيو من هذا العام أميراً للبلاد خلفاً لوالده حمد بن خليفة بعد تنازله عن الحكم. وتشهد العراق على مدار العام الكثير من الأحداث ولا يزال العراك بين السنة والشيعة والأكراد قائما مما يخلف الكثير من القتلى والجرحى. فى الأجندة ملفات عديدة شغلت الرأى العام، هى الأزمات المتعلقة بالمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، وبالاستقرار السياسى فى لبنان، وبالأوضاع فى كل من سوريا واليمن وتونس، والقاسم المشترك فيما بينها هو أن حلولها بيد أصحابها المباشرين، وقد قرروا هم ذلك واتخذوا خطوات عملية بحثا عن الحل، بغض النظر عن الدور الخارجى الذى بدا متراجعا عن الضغط القوى أو التدخل الصريح، كما كانت هناك جداول زمنية تعهد هؤلاء بأنفسهم أن يتحقق الحل خلالها، وكلها جداول زمنية ارتبطت بضرورة إحراز تقدم هنا أوهناك خلال عام 2013. وفى لبنان احتدم الخلاف بين المعارضة والموالاة كالمعتاد منذ اغتيال الحريرى قبل عدة سنوات مضت وانهارت الاتفاقات كالمعتاد أيضا، وعاد شبح المواجهة بين تيار المستقبل وتيار حزب الله والحلفاء لهذا وذاك ليهدد استقرار البلاد فى ظل امتداد الأزمة السورية إلى لبنان، ولم تصمد حكومة نجيب ميقاتى التوافقية أمام التهديدات من الجانبين، فتقدم بالاستقالة وتقرر إسناد تشكيل الحكومة إلى غيره، ولكن الحكومة الجديدة لم تتشكل وظلت حكومة ميقاتى تصرف الأعمال طوال العام، وعاد شبح العنف مجددا فى طرابلس مرة وفى جنوببيروت تارة أخرى وتواصلت الحروب الكلامية بين التيارين دون أن ينجح أحد من الأطراف اللبنانية فى فك طلاسم الأزمة السياسية، لينقضى العام دون أى إنجاز. سوريا مثلت خروجآ عن القاعدة بعض الشيء لأن أزمتها شهدت تأثيرا قويا للعوامل الخارجية، ولكن هذا لا ينفى أن الطرفين المباشرين وهما الحكومة والمعارضة خاضتا معا معركة سياسية شرسة بجانب المعارك المسلحة للتفاعل مع الحل السلمى الذى طرحه المجتمع الدولى متمثلا فى صيغة جنيف- 1 وجنيف- 2، وفى بداية عام 2013 توقعت القيادات الغربية وكذلك المبعوث الدولى العربى أن يشهد العام تفعيلا للحل السلمى برغم كل الشواهد على الأرض التى كانت تشير إلى استحالة ذلك. ومع قرب انتهاء العام بدا الجلوس على مائدة المفاوضات أمرا واردا برغم الرفض الذى جاء من المعارضة والحكومة معا، وعلى ما يبدو أن روسيا وإيران نجحتا فى طمأنة نظام الأسد من الذهاب إلى جنيف، كما نجحت الولاياتالمتحدة فى طمأنة المعارضة من الموضوع ذاته دون أن تتكشف العوامل التى قادت إلى هذا التغيير فى المواقف بالنسبة لمؤتمر جنيف. وأما اليمن فقد سارت فيها الأوضاع فى نموذج مثالى للحل على صعيد اجتياز المرحلة الانتقالية، ورغم ذلك لم يكن أسعد حظا، فقد تم انعقاد المؤتمر الوطنى للحوار الذى ضم كل الأطياف وتقرر أن يستمر 6 أشهر ينتهى خلالها من وضع تصور لعشر قضايا رئيسية تشكل فى مجملها مقومات الحكم الجديد فى البلاد بدءا من وضع الدولة حتى مستقبل الجنوب وصعدة، وكان المؤتمر جزءا من الخطة التى تم الاتفاق عليها للمرحلة الانتقالية والتى بدأت بخروج عبدالله صالح من الحكم، وقد أمكن التوصل للخطة بجهود ناجحة من الدول الخليجية والأمم المتحدة ودعمتها العواصمالغربية الكبرى. وعندما بدأ المؤتمر أعماله فى بداية الصيف لعام 2013 أحاطته أجواء متفائلة من القوى السياسية اليمنية كلها وكذلك الإقليمية والدولية. ومضت مناقشات المؤتمر ساخنة ولكنها إيجابية تعكس رغبة فى الخروج من الأزمة، ولكن بمضى الوقت تفجرت الخلافات الواحدة بعد الأخرى وخصوصا فيما يتعلق بشكل الدولة، هل تبقى دولة مركزية أم تصبح فيدرالية أم اتحادية، وعاد الجنوبيون يعلنون تنصلهم من المؤتمر وأنهم لم يشاركوا فيه. ومع قرب انتهاء المدة المحددة للمؤتمر لم يكن المشاركون قد توصلوا بالفعل إلى اتفاق حول القضايا الخلافية وأبرزها شكل الدولة، وتعرض المؤتمر والمشاركين لانتقادات حادة من شباب الثورة والأحزاب والجماعات المشاركة ذاتها. وتبقى تونس مثالا نموذجيا لعبور المرحلة الانتقالية مثل ما جرى فى حالة اليمن، ولكن بإضافة عوامل أخرى تزيد من الشعور بالإحباط تتعلق كلها بتناقضات القوى الثورية ذاتها قبل أى شيء آخر. فمن المعروف أن الحكم الانتقالى تشكل من ثلاث رؤوس هى المجلس التأسيسى الذى تم انتخابه وأوكلت له مهمة وضع دستور جديد للبلاد والحكومة لإدارة السلطة التنفيذية ورئاسة الجمهورية، ولأن خريطة الطريق كانت واضحة إلى حد كبير فى الحالة التونسية، فقد كان من المتوقع أن يشهد عام 2013 نجاحا ملحوظا للمرحلة الانتقالية وخصوصا فيما يتعلق بصياغة الدستور الجديد، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث بل حدث العكس تماما، فلا المجلس التأسيسى أنجز مهمته ولا الحكومة أدارت شؤون الناس بكفاءة ولا الرئيس قام بدوره فى تقريب المواقف بين القوى السياسية المعارضة وبين الحكومة والمجلس التأسيسى. ما يمكن استخلاصه من المشهد المحبط لعام 2013 هو: أولا ترسيخ الانطباع فى العالم الخارجى بأن العرب لا يحسنون الفرص التى تتاح لهم نتيجة تطورات خارجية (أمة الفرص الضائعة)، بل لا يحسنون ما يتفقون هم بأنفسهم عليه، فالأمثلة السابقة نماذج لقضايا خصت مجتمعات وأنظمة حكم عربية وقوى سياسية معارضة اشتركوا جميعهم فى إدارتها وكانت إرادتهم حرة إلى حد كبير (بعيدة عن التدخل الخارجي) ومع ذلك أفشلوها بأنفسهم. وثانيا أنه حتى فى حالة التوصل إلى حل ما فإنه يبقى عاجزا لأنه يتضمن فى داخله عوامل فشله، بمعنى أنه قد يحمل عناصر للنجاح ولكنه بالقدر نفسه يحمل عناصر الفشل. وثالثا أن الأطراف العربية المباشرة فى أى أزمة تتعامل بمنطق أن يحصل أى طرف منها على كل شيء أو أن يبقى الوضع على ما هو عليه مرتبكا ومرشحا للصراع فى أى لحظة مع أى تغير فى موازين القوى. ورابعا أن يبقى الوضع العربى فى أى ملف من الملفات الساخنة مثل حالة المريض الذى لا يشفى ولا يموت أى عليلا لأجل غير مسمى.