طوال 88 دقيقة هى مدة عرض الفيلم الوثائقى البديع «دعاء .. عزيزة» الذى كتب له السيناريو وصوّره وأخرجه وأنتجه سعد هنداوى، كنت أتخيل أن يجد هذا العمل المؤثر مكانه فى دار العرض السينمائى، كما حدث من قبل مع أفلام وثائقية جيدة مثل «تحرير 2011 .. الطيب والشرس والسياسى»، و «عن يهود مصر» لأمير رمسيس، لايقل فيلم «دعاء .. عزيزة» أهمية عن تلك الأفلام فى قدرتها على اكتشاف الدراما فى قلب التفاصيل الواقعية، وفى قدرة صانعيها على تقديم فيلم متماسك يخلو من الملل، وملئ باللحظات الإنسانية، والمشاهد التى يختلط فيها الضحك والبكاء، الحقيقة أنه فيلم أكثر تشويقا وبراعة عن كثير من الأفلام التى يطلقون عليها أفلاما روائية ظلماً وعدوانا، ربما يصلح «دعاء .. عزيزة» أيضا لكى يعرض فى الفضائيات بدلا من برامج التوك شو السخيفة، التى تكرر بعضها ولا تضيف لمشاهدها أى جديد. يحكى الفيلم الذى تم تجميع مادته المصورة من عام 2005، وصولا إلى عام 2012، عن حكاية بنتين من مصر، ارتبطتا بصداقة وبتجربة مختلفة، دعاء (25 سنة) الفتاة التى تركت أسرتها المصرية المهاجرة فى باريس، وقررت أن تعود إلى مصر لتعيش فيها، وعزيزة (30 عاما) التى فعلت العكس، حيث أصابها الملل من عملها بقناة نايل تى فى، ضاقت بالرقابة فى عصر مبارك، تركت أسرتها فى مصر، وهاجرت بمفردها إلى فرنسا، لتعمل أولا ضمن مشروع غريب خاص بتجميع أمنيات البشر، وإرسالها إلى الفضاء،، وانتهى بها المطاف فى 2012 لتكون إحدى مذيعات قناة فرنسا 24 الشهيرة، استلفت نظر هنداوى هذه الحركة المعاكسة بين صديقتين، كل واحدة منهما اتخذت قرارا بتغيير حياتها، ونفذت القرار، وتحملت مسؤوليته أيضا. ينقسم الفيلم إلى جزءين، بمصاحبة موسيقى تامر كروان المعبرة، الجزء الذى تم تصويره بين القاهرة وباريس عام 2005، ثم الجزء المماثل الذى صوّر بين 2011/ 2012، لمتابعة حصاد الصديقتين وتجربتهما بعد الثورة المصرية، نجح سعد هنداوى ببراعة فى تحويل الكاميرا إلى مرآة عكست ليس فقط تغيرات الشخصيتين الشكلية، ولكن أيضا مشاعرهما وأحلامهما وإحباطاتهما سواء فى مصر أو فى فرنسا، كما استخدم الكاميرا لكى يعرفنا على عائلتى الفتاتين، وخلق مونتاج رباب عبد اللطيف حالة من الجدل الذى لم ينته، يجسد حيرة دعاء عبد الرازق (وهذا هو اسمها بالكامل) وزميلتها عزيزة واصف، بين البقاء فى وطن الذكريات والعاطفة، أو الذهاب إلى وطن التحقق والبحث عن الذات، ومع ذلك لم يغلق الفيلم أقواسه فى النهاية، طرح أسئلته، وتركنا نسأل نحن أيضا نفس الأسئلة عن معنى الوطن، وأهمية الإختيار، والثمن الذى يمكن أن ندفعه عندما نقرر مصائرنا. ساهم فى استخراج الدراما من تلك الشخصيات أنها بالأساس شخصيات منفتحة وتلقائية وصريحة، لذلك تكلمت دعاء وعزيزة بحرية، أطلقتا العنان فى أوقات كثيرة لدموعهما الغزيرة، وضحكاتهما المرحة، عزيزة ظهرت أكثر نضجا، قالت إنها شعرت بالغربة وعدم الإنتماء لبلد تغير تماما عن سنوات طفولتها حتى سن العاشرة، تحدثت بوضوح عن التدخل فى برامجها فى عهد مبارك، ذكرت أن أمها مجرية، وأن ثقافتها فرنسية، كان غريبا أن الأم المجرية عاشقة مصر هى التى رفضت سفر ابنتها، أما الأب فقد تفهم رغبة ابنته فى السفر، لأنه رباها بطريقة جادة لم تعد تصلح فى زمن الفساد والفهلوة والفوضى، رغم وصول عزيزة إلى باريس، واندماجها بسرعة فى الحياة العملية، إلا أنها تقول إنها صارت حساسة جدا لأى نقد يوجهه الفرنسيون لوطنها، أو حتى للمسلمين مع أنها مسيحية. دعاء تبدو أبسط وأقل نضجا، أقرب ما تكون إلى طفلة كبيرة، تربت فى باريس، كانت تكره الحر والزحام فى مصر، فجأة اكتشفت سحر بلدها دون أن تحدد أسباب ذلك، ربما كان السبب حلمها بأن تتزوج مصريا، عادت لتعمل مذيعة فى أون تى فى، واجهت مصاعب كثيرة فى التعامل مع سائقى التاكسى والناس عموما، يصور هنداوى لقاءين بين دعاء وعزيزة أحدهما فى باريس، والثانى فى القاهرة، نتعرف على أسرة دعاء فى فرنسا، الأب موافق على عودتها إلى مصر، خاصة أنها ستقيم عند أقاربها، دعاء تشعر بالغربة وسطهم، الأم تستنكر أن تترك ابنتها فرنسا لتعيش فى مصر، شقيقها الذى لا يجيد الكلام بالعربية يسخر من أخته، تسترجع دعاء علاقتها مع زميلة دراستها الفرنسية، فى أحد أجمل مشاهد الفيلم، تودع دعاء عزيزة ، كل واحدة تركب قطارا للمترو عكس اتجاه الأخرى، فى القاهرة تسجل الكاميرا دموع الفتاتين وسط مواساة زميلتهما الثالثة المذيعة ريم ماجد، فى الجزء الخاص بعامى 2011/ 2012، تتغير وجوه دعاء وعزيزة، الأولى أصبحت أكثر رشاقة، والثانية أصبحت مثل نجمات السينما، دعاء أصبحت تذهب لتغطية مهرجان كان لصالح محطتها المصرية، وشاركت فى أحداث الثورة، بينما أصبحت عزيزة مذيعة مشهورة، لم تعد تكره بلدها، تصالحت معه، ربما لأنها رأته عن بعد، أصبحت تحن إلى لمسات المصريين الدافئة بعيدا عن الحياة الفرنسية التى تتسم بالفردية، تذهب معها الكاميرا لمقابلة صديقتيها ، واحدة لبنانية والثانية فلسطينية، لديهما نفس الأزمة والتمزق بين وطن الذكريات والأسرة، ووطن العمل والتحقق، مازالت دعاء حائرة ، تسأل نفسها أحيانا عما إذا كانت قد أضاعت حياتها بالعمل فى مصر، لم تعثر على العريس المناسب، حلمها الآن أن تعود لفرنسا لتقدم نشرة الأخبار بالفرنسية، ولكنها اكتسبت خبرة أكبر بالحياة، تعلمت أن الدنيا لا تعطى الإنسان كل شىء، على الجانب الآخر، ينتهى الفيلم وعزيزة فى انتظار أول أطفالها من زوجها الفرنسى، لا أحد يعرف ماذا ستفعل دعاء وعزيزة بعد ذلك، ربما تعود عزيزة إلى مصر، وتحل محلها دعاء، المستقبل مفتوح والأسئلة معلّقة، ولكن النموذجين ورحلتهما ممتعة ورائعة، إنها الفتاة المصرية الجديدة، التى تجمع بين الجذور المصرية، والثقافة الغربية، ليست أزمة هوية ، ولكنها أقرب إلى رحلة وراء الحلم من أجل التحقق، عمل مهم ومؤثر وبارع يحكى عنا نحن مثلما يحكى عن بطلتيه، وثيقة مدهشة عن عصره وناسه تستحق المشاهدة والمناقشة أيضا.