لم يكن النبى ( صلى الله عليه وسلم)أول نبى يهاجر فى سبيل الله بل مرّ بهذاالامتحان كثير من الأنبياء .. وقد أخبرنا الله تعالى بأن إبراهيم عليه السلام هاجر من موطنه إلى مصر وغيرها داعياً إلى التوحيد، وأن يعقوب ويوسف عليهما السلام هاجرا من فلسطين إلى مصر وأن لوطاً هجر قريته لفسادها وعدم استجابتها لدعوته. وأن موسى عليه السلام هاجر بقومه من مصر إلى سيناء فراراً بدينه من طغيان فرعون. هكذا فإن الهجرة من سنن النبيين، وقد كانت هجرة نبينا عليه الصلاة والسلام خاتمة لهجرات النبيين . وكانت نتائجها عميقة شكلت منعطفاً تاريخياً حاسما. والهجرة فى تاريخ الأنبياء السابقين كان سببها التهديد بالطرد والنفى أحد صنوف الإيذاء التى واجهها الأنبياء السابقون واتباعهم. فقد أورد القرآن الكريم حوارا موحدا جاء على لسان كل الأنبياء فى كل عصر، جرى بينهم وبين خصومهم المشركين، اذ كان المشركون فى كل عصر يهددون الرسل فيه بالطرد والإخراج والنفى إذا لم يعودوا إلى ملة الكفر، وهذا بالنص ما جاء على لسان مشركى مديَن إلى نبيهم شُعيب عليه السلام: (قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) وجاء فى القرآن الكريم أن بعض الرسل اضطر فعلا للهجرة، إبراهيم عليه السلام هدده أبوه بالرجم وآذنه بالطرد. (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً) ، وإذعن إبراهيم وهاجر. (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً)، وهاجر مع إبراهيم ابن أخيه لوط (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) وقال إبراهيم (إِنِّى مُهَاجِرٌ إلى رَبِّى)، ثم استقر لوط عليه السلام فى «سدوم وعموره» ودعاهم للتوحيد والكف عن المحرمات فهددوه بالطرد إن لم ينته عن دعوته. (قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، ولم ينته لوط بل أعلن (قَالَ إِنِّى لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ) أى المبغضين، ولأنه استمر على دعوته ولم يأبه بهم فقد تآمروا على إخراجه وتنفيذ تهديدهم. (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ). وجاء الوحى للوط عليه السلام يأمره بالهجرة وترك هذه القرية العاصية. (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ). ومعظم الأنبياء قد اضطروا للهجرة فقد عرفت الهجرة فى تاريخ الأنبياء السابقين قبل الهجرة التى قام بها النبى محمد ( صلى الله عليه وسلم) وأتباعه. وهجرة الأنبياء والرسل ارتبطت بالتعذيب والفتنة. فقوم شعيب خيروه بين الطرد والرجوع للكفر. (نُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أو لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا)، وآزر يهدد ابنه بالرجم ويقرن تهديده بالطرد: (لئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيًّا)، وفى الحديث الذى تكرر فى سورة إبراهيم بين كل رسول وقومه، قالت الرسل: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا)، ورد عليهم الكفار. (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أو لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا)،فالرسل توكلوا على الله وصبروا على الأذى ورد الكفار على صبر الرسل بتهديدهم بالإخراج من بلادهم وبالفتنة عن دينهم. ونجد نبى الله موسى عليه السلام يرجو النجاة من العنت والأذى وبفضل الاعتزال والهجرة خوفا من جبروت فرعون وطغيانه، بالإضافة إلى أن من أهداف رسالته أن يهاجر بنو إسرائيل من مصر. يقول تعالى على لسان موسى لفرعون وملئه. (وَإِنِّى عُذْتُ بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ، وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِى فَاعْتَزِلُونِ) أى أن موسى عليه السلام يستعيذ بالله من أن يرجموه، ويدعو فرعون ان لم يؤمن به أن يتركه يعتزله بقومه. وفى قصة الفتية المؤمنين من اهل الكهف يصمم الفتية على الهجرة واعتزال قومهم خوفا من الرجم أو الفتنة عن الدين. (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إلى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته)،وبعد أن أووا إلى الكهف ورقدوا فيه ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا ثم استيقظوا لم ينسوا ما ينتظرهم من عذاب قومهم إذا عثروا عليهم: (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أو يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا). وبسبب طغيان المشركين وإيذائهم للأنبياء إلى درجة التهديد بالرجم والطرد والقتل فإن العقاب الإلهى كان يحل سريعا بالمشركين فيهلكهم بالصاعقة أو الصيحة أو الغرق كما ورد فى قصص المشركين من قوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وفرعون ..فلم يرد فى القصص القرآنى حديث مفصل عن جهاد وقتال قام به الأنبياء السابقون واتباعهم إلا ما ورد فى قصة بنى إسرائيل بعد موسى مع ملكهم طالوت حين طلبوا من نبيهم أن يبعث ملكا يجتمعون عليه ليقاتلوا العمالقة (أَلَمْ تَرَ إلى الْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِى لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)، ويلاحظ أن الجهاد هنا لم يكن مفروضا وإنما طلبه بنو إسرائيل بأنفسهم، وخشى النبى ( صلى الله عليه وسلم) وهو بين قومه فى بعض الروايات من نكوصهم عن الجهاد بعد أن يفرض عليهم فأكدوا تصميمهم على الجهاد فقد أخرجوا من ديارهم وأبنائهم. وبعد ذلك التصميم فعندما فرض عليهم القتال فعلا ولَّى معظمهم الأدبار. وهنا يبدوا الفارق بين فلسفة الهجرة فى عهد الأنبياء السابقين وهجرة النبى محمد ( صلى الله عليه وسلم)،إذ أن هجرته مرتبطة بالجهاد. هجرة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) وصحبة أبى بكر الصديق رضى الله عنه لما علم كفار قريش أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) صارت له شيعة وأنصار من غيرهم، ورأوا مهاجرة أصحابه إلى أولئك الأنصار الذين بايعوه على المدافعة عنه حتى الموت، اجتمع رؤساؤهم وكبارهم فى دار الندوة، وهى دار بناها قصى بن كلاب، كانوا يجتمعون فيها عند ما ينزل بهم حادث مهم، اجتمعوا ليتشاوروا فيما يصنعون بالنبى ( صلى الله عليه وسلم). فقال قائل منهم: نحبسه مكبلا بالحديد حتى يموت، وقال آخر: نخرجه وننفيه من بلادنا، فقال أحد كبرائهم: ما هذا ولا ذاك برأى؛ لأنه إن حُبس ظهر خبره فيأتى أصحابه وينتزعونه من بين أيديكم، وإن نُفى لم تأمنوا أن يتغلب على من يحل بحيهم من العرب، بحسن حديثه وحلاوة منطقه حتى يتبعوه فيسير بهم إليكم، فقال الطاغية أبو جهل: الرأى أن نختار من كل قبيلة فتى جلداً ثم يضربه أولئك الفتيان ضربة رجل واحد؛ فيتفرق دمه فى القبائل جميعاً؛ فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميع القبائل. فأعجبهم هذا الرأى واتفقوا جميعاً وعينوا الفتيان والليلة التى ادوا تنفيذ هذا الأمر فى سَحَرها، فأعلم الله تعالى رسوله ( صلى الله عليه وسلم) بما أجمع عليه أعداؤه، وأذنه سبحانه وتعالى بالهجرة إلى يثرب «المدينةالمنورة»، فذهب إلى أبى بكر الصديق رضى الله عنه وأخبره وأذن له أن يصحبه، واتفقا على إعداد الراحلتين اللتين هيأهما أبو بكر الصديق لذلك، واختارا دليلا يسلك بهما أقرب الطرق، وتواعدا على أن يبتدئا السير فى الليلة التى اتفقت قريش عليها. وفى تلك الليلة أمر عليه الصلاة والسلام ابن عمه على أبن أبى طالب رضى الله عنه أن ينام فى مكانه ويتغطى بغطائه حتى لا يشعر أحد بمبارحته بيته. ثم خرج ( صلى الله عليه وسلم)، وفتيان قريش متجمهرون على باب بيته وهو يتلو سورة «يس»، فلم يكد يصل إليهم حتى بلغ قوله تعالى: (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ)، فجعل يكررها حتى ألقى الله تعالى عليهم النوم وعميت أبصارهم فلم يبصروه ولم يشعروا به، وتوجه إلى دار أبى بكر رضى الله عنه وخرجا معاً من خوخة فى ظهر البيت، وتوجها إلى جبل ثور بأسفل مكة فدخلا فى غاره. وأصبحت فتيان قريش تنتظر خروجه ( صلى الله عليه وسلم)، فلما تبين لقريش أن فتيانهم إنما باتوا يحرسون على بن أبى طالب لا ( صلى الله عليه وسلم) هاجت عواطفهم، وارتبكوا فى أمرهم، ثم سلوا رسلهم فى طلبه والبحث عنه من جميع الجهات، وجعلوا لمن يأتيهم به مائة ناقة، فذهبت رسلهم تقتفى أثره، وقد وصل بعضهم إلى ذلك الغار الصغير الذى لو التفت فيه قليلا لرأى من فيه. فحزن أبو بكر الصديق رضى الله عنه لظنه أنهم قد أدركوهما، فقال له النبى ( صلى الله عليه وسلم):(لاَتَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا)، فصرف الله تعالى أبصار هؤلاء القوم وبصائرهم حتى لم يلتفت إلى داخل ذلك الغار أحد منهم، بل جزم طاغيتهم أمية بن خلف بأنه لا يمكن اختفاؤهما به لِمَا رأوه من نسج العنكبوت وتعشيش الحمام على بابه. وقد أقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) وصاحبه بالغار ثلاث ليال حتى ينقطع طلب القوم عنهما، وكان يبيت عندهما عبد الله بن أبى بكر ثم يصبح فى القوم ويستمع منهم الأخبار عن رسول الله وصاحبه فيأتيهما كل ليلة بما سمع، وكانت أسماء بنت أبى بكر تأتيهما بالطعام فى كل ليلة من هذه الليالى، وقد أمر عبد الله بن أبى بكر غلامه بأن يرعى الغنم ويأتى بها إلى ذلك الغار ليختفى أثره وأثر أسماء. وفى صبيحة الليلة الثالثة من مبيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) وصاحبه بالغار، وهى صبيحة يوم الاثنين فى الأسبوع الأول من ربيع الأول سنة الهجرة «وهى سنة ثلاث وخمسين من مولده ( صلى الله عليه وسلم)، وسنة ثلاث عشرة من البعثة المحمدية» جاءهما بالراحلتين عامر بن فهيرة مولى أبى بكر؛ وعبد الله بن يقط الذى استأجراه ليدلهما على الطريق، فركبا ودف أبو بكر عامر بن فهيرة ليخدمهما، وسلك بهما الدليل أسفل مكة، ثم مضى بهما فى طريق الساحل. وبينما هم فى الطريق إذ لحقهم سراقة بن مالك المدلجى؛ لأنه سمع فى أحد مجالس قريش قائلا يقول: إنى رأيت أسودة بالساحل أظنها محمدا وأصحابه. فلما قرب منهم عثرت فرسه حتى سقط عنها، ثم ركبها وسار حتى سمع قراءة النبى ( صلى الله عليه وسلم) وهو لايلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، فساخت قوائم فرس سراقة فى الض فسقط عنها، ولم تنهض إلا بعد أن استغاث صاحبها بالنبى ( صلى الله عليه وسلم) وقد شاهد غباراً يتصاعد كالدخان من آثار خروج قوائم فرسه من الض، فداخله رعب شديد ونادى بطلب الأمان، فوقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) ومن معه حتى جاءهم وعرض عليهم الزاد والمتاع فلم يقبلا منه شيئاً؛ وإنما قالا له: اكتم عنا، فسألهم كتاب أمن؛ فكتب له أبو بكر ما طلب بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم)، وعاد سراقة من حيث أتى كاتما ما رأى، وقد أخبر أبا جهل فيما بعد، وقد أسلم سراقة يوم فتح مكة وحسن إسلامه. واستمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) وصاحبه فى طريقهما حتى وصلا قُباء، من ضواحى المدينة، فى يوم الاثنين من ربيع الأول، فنزل بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) على بنى عمرو بن عوف ونزل أبو بكر رضى الله عنه بالسُّنْح «محلة بالمدينة أيضا» على خارجة بن زيد، ومكث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) بقباء ليالى؛ أنشأ فيها مسجداً، هو الموصوف فى القرآن الكريم بأنه أسس على التقوى من أول يوم، وصلى فيه عليه الصلاة والسلام بمن معه من المهاجرين والأنصار، وقد أدركه ( صلى الله عليه وسلم) بقباء على بن أبى طالب بعد أن أقام بمكة بعده بضعة أيام ليؤدى ما كان عنده من الودائع إلى بابها.