صدر قرار رئيس جمهورية مصر العربية رقم 484 لسنة 2013 بالتشكيل الوزارى الجديد وقد تضمن فيما تضمنه من وزارات وزارة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية Ministry of Transitional Justice and National Reconciliation وقد تولى هذه الوزارة القاضى الدولى القدير المستشار محمد أمين العباسى المهدى رئيس مجلس الدولة الأسبق والقاضى السابق فى المحكمة الجنائية الدولية وسيراً فى ذات الاتجاه فقد أوضحنا فى المقال الأول من هذه السلسة والمنشور بمجلة أكتوبر بتاريخ 20/7/2013 أن الظروف السياسية والاجتماعية التى تمر بها مصر فى هذه الأيام تقتضى ضرورة حشد جميع الجهود العلمية والإعلامية المخلصة لمصر وذلك لتحقيق أهداف قومية سامية هى إرساء قواعد السلام الاجتماعى والمصالحة الوطنية فى ربوع المجتمع المصرى أو ما يطلق عليه فى القانون الجنائى المقارن العدالة الانتقالية Transitional justice والتى تناولناها بالشرح التفصيلى فى سلسلة مقالات منشورة فى مجلة أكتوبر الغراء وفى مؤلفنا: « موسوعة شرح الدستور المصرى الجديد لسنة 2012» . ويؤدى السلام الاجتماعى - بطبيعة الحال - إلى انسجام العقد الاجتماعى بين أفراد المجتمع والسلطة الحاكمة وإلى تحقيق المبادئ فوق الدستورية Supra constitutional Ultra constitutional المتعلقة بالرضائية Compatibility والتعاقدية Contracting فى الدولة، وقد تناولنا فى مقال سابق المحاور المختلفة التى تساعد على الوصول إلى هذا الهدف العزيز والذى نتمناه جميعاً لمصرنا الغالية: نؤكد فى هذا المقام على الحقيقة التاريخية المعروفة من أن الشعب المصرى هو من أكثر الشعوب تديناً وتقديساً للدين ومن هنا فإن الدين باعتباره قوة كبرى خفية يحملها الإنسان، يظهر أثره على سلوك الفرد فى أقواله وأفعاله، كما يظهر أثر الدين فى سيطرة الفرد على أهوائه وغرائزه، وبذلك يتحقق السلام الاجتماعى والسلام الذاتى للفرد. ونحن نرى أن السلام الاجتماعى للفرد والمجتمع ينبع من الإيمان بوجود الرقيب الإلهى الأعلى الذى لا يغفل ولا ينام وذلك تصديقاً لقول الله تعالى فى كتابه الكريم:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (الآية 18 من سورة قّ) يعيش المجتمع المصرى بعد ثورة 30/6/2013 مرحلة تغير سريع، حمل فى طياته أصنافاً من المتناقضات والمغريات، تباينت فيه الهوية وزادت الغربة، وكان لابد من تفعيل خطوط الدفاع الاجتماعى وإرساء قواعد السلام الاجتماعى لنضمن للمجتمع تحصينه من التصدع والانهيار ليبقى صامداً ومقاوماً أمام ما يجتاحه من تغيرات سريعة متلاحقة قد يتخلف عنها ما لا يحمد عقباه من صراعات داخلية وطائفية لم يعرفها المجتمع المصرى على مدى تاريخه العريق، فيجب فى هذه المرحلة أن نحاول بناء روح مصرية جديدة بين الأفراد والجماعات والأحزاب المختلفة ويجب تبنى كل التغيرات الحميدة التى تعزز السلام الاجتماعى وتستكمل بناء المجتمع على أسس وضوابط اجتماعية صحيحة. تتمثل خطوط الدفاع الاجتماعى فى أشكال متعددة من السلام الاجتماعى والتى تتضمن محاور رسمية ومحاور غير رسمية وهى تساعد على تحصين المجتمع المصرى ووقايته من مخاطر التغيرات الاجتماعية والسياسية المفاجئة والتى تساهم فى تنظيم شئون المجتمع وتدبير احتياجاته ومتطلباته المتغيرة والملحة فى المرحلة الحالية، وتساعد على تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية. ونحن نرى أنه يساهم فى إرساء قواعد السلام الاجتماعى فى مصر الأشكال الرسمية للضبط الاجتماعى المتمثلة فى القانون واتجاه السلطة السياسية فى المجتمع ودعوتها إلى ذلك صراحه وضرورة إصدار اللوائح التنظيمية التى تعبر عن هذا الاتجاه السياسى والاجتماعى الذى يعيه وينفذه رجال السلطة العامة وأفراد المجتمع. إن الأشكال غير الرسمية للضبط الاجتماعى بدورها تحقق السلام الاجتماعى فى مصر ومن هذه الأشكال غير الرسمية للضبط الاجتماعى الدين والأعراف والتقاليد والرأى العام وغيرها من عناصر التأثير الأخرى التى تؤثر فى الضبط الاجتماعى والسلام الاجتماعى، فتنطبق عليها نفس القوة فى حجم تأثيرها، فالأعراف والتقاليد قد يشوبها الضعف وقد تتغير، كما أن الرأى العام ربما يتأثر بطرق ووسائل التوجيه ويتخذ مسلكا باتجاه المؤثرات الإعلامية المختلفة ويرجع ذلك إلى عدم ثبات القاعدة التى تحكم الرأى العام المتغير فى أغلب الأحيان. ونحن نرى أن الدين يُستثنى من قاعدة التغيير الأبدية التى تخضع لها طرق الضبط الاجتماعى المختلفة وذلك لأن الدين يعتبر قوة خفية خالدة يحملها الإنسان فى قلبه وعقله، ويظهر أثر الدين على سلوكه البشرى فى أقواله الملتزمة بقواعد الدين وأفعاله المقتدية بأصول الدين على النحو السالف بيانه وقد أوضحنا ذلك تفصيلاً فى كتابنا «موسوعة شرح الدساتير المصرية والمستويات الدستورية الدولية». وتأسيساً على ما تقدم يتكون السلام الاجتماعى فى المقام الأول فى أعماق النفس من خلال الالتزام الداخلى للفرد والانضباط الشخصى للذات والإحياء التلقائى للضمير البشرى، وهو بكل ذلك يصبح صاحب الأثر البالغ على سلوك الفرد والمجتمع ويؤدى إلى تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية. وقد كان لزاماً علينا أن نمنح الدين – الإسلامى أو المسيحى أو غيره - حقه من البحث والاهتمام، ولعل ما تعيشه مصر فى هذه المرحلة يزيد من حجم الاهتمام بهذا اللون من ألوان السلام الاجتماعى، كما أننا لا نتحيز إن قلنا أن جميع أشكال الضبط الاجتماعى والسلام الاجتماعى الأخرى تدخل تحت لوائه. أو بمعنى آخر لها أصول تنبثق من الدين ذاته. ويعتبر القرآن الكريم المصدر الأول للتشريع الإسلامى وسوف نتناول فى هذا المقام بعض الآيات القرآنية الكريمة التى تؤكد مكانة الدين كأحد الضوابط الاجتماعية التى تساهم فى إرساء السلام الاجتماعى عموماً – والمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية على وجه الخصوص. وقد سبق لنا أن تعرضنا فى المقال السابق لأمر الله سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم وهو يؤكد عز وجل أنه من يدخل مصر فهو آمن وسالم إن شاء الله تعالى وذلك طبقاً لما جاء فى الآية 99 من سورة يوسف، كما تعرضنا لتقرير الله سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم من أن أبناء مصر يشتهرون بالكرم وحسن المعشر والضيافة وذلك طبقاً لما جاء فى الآية 21 من سورة يوسف. وهذه الأمور الثابتة بكتاب الله سبحانه وتعالى سوف تساعد على تحقيق السلام الإجتماعى والمصالحة الوطنية وسوف نتناول فيما يلى استكمال شرح كيفية تحقيق السلام الاجتماعى والمصالحة الوطنية فى مصر فى المرحلة الراهنة وعلى وجه الخصوص ما ورد فى القرآن الكريم فى هذا الشأن من أن مصر هى أفضل بيت للإقامة والعبادة كما أوضحت ذلك الآية 87 من سورة يونس، وأن القيام على حكم مصر مدعاة للفخر والعظمة والقوة التى أشارت إليه الآية 51 من سورة الزخرف، وأن مصر هى أرض الخير والأمن الغذائى ومقصد أهل الدنيا والآخرة وتنطبق عليها أوصاف مدينة الخيرات التى أشارت إليها الآية 61 من سورة البقرة ، وذلك فيما يلى: أولاً: مصر هى أفضل بيت للإقامة والعبادة وهى جديرة بالمصالحة الوطنية: يقول الله تعالى فى كتابه الكريم {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } الآية 87 من سورة يونس. وتؤكد هذه الآية الكريمة أن مصر هى أفضل بيت للإقامة والعبادة ويؤكد ذلك معنى أوحينا إلى موسى وأخيه هارون أن اتخذا لقومكما بيوتًا فى «مصر» تكون مساكن وملاجئ تعتصمون بها واجعلوا بيوتكم أماكن تصلُّون فيها عند الخوف وأدُّوا الصلاة المفروضة فى أوقاتها. وبشِّر المؤمنين المطيعين لله بالنصر المؤزر والثواب الجزيل منه سبحانه وتعالى. ثانياً: القيام على حكم مصر مدعاة للفخر والعظمة والقوة التى يجب تدعيمها بالمصالحة الوطنية: يقول الله تعالى فى كتابه الكريم {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلَا تُبْصِرُونَ} الآية 51 من سورة الزخرف. وتؤكد هذه الآية الكريمة أن القيام على حكم مصر مدعاة للفخر والعظمة والقوة ويؤكد ذلك معنى قول الله تعالى ونادى فرعون فى عظماء قومه متبجحًا مفتخرًا بمُلْك «مصر»: أليس لى مُلْك «مصر» وهذه الأنهار تجرى مِن تحتي؟ أفلا تبصرون عظمتى وقوتى وضعف موسى وفقره؟ ثالثاً: مصر هى أرض الخير والأمن الغذائى ومقصد أهل الدنيا والآخرة وتنطبق عليها أوصاف مدينة الخيرات التى أشارت إليها الآية الكريمة وتتطلب المصالحة الوطنية بين أهلها: يقول الله تعالى فى كتابه الكريم {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } الآية 61 من سورة البقرة. تؤكد هذه الآية الكريمة أن مصر هى أرض الخير والأمن الغذائى ومقصد أهل الدنيا. وتعنى هذه الآية الكريمة أن الله تعالى يوجه حديثه إلى قوم موسى اذكروا حين أنزلنا عليكم الطعام الحلو والطير الشهى فبطِرتم النعمة كعادتكم وأصابكم الضيق والملل فقلتم: يا موسى لن نصبر على طعام ثابت لا يتغير مع الأيام فادع لنا ربك يخرج لنا من نبات الأرض طعامًا من البقول والخُضَر والقثاء والحبوب التى تؤكل والعدس والبصل. قال موسى - مستنكرًا عليهم: أتطلبون هذه الأطعمة التى هى أقل قدرًا وتتركون هذا الرزق النافع الذى اختاره الله لكم؟ اهبطوا من هذه البادية إلى أى مدينة تجدوا ما اشتهيتم كثيرًا فى الحقول والأسواق. ولما هبطوا تبيَّن لهم أنهم يُقَدِّمون اختيارهم - فى كل موطن - على اختيار الله ويُؤْثِرون شهواتهم على ما اختاره الله لهم، لذلك لزمتهم صِفَةُ الذل وفقر النفوس وانصرفوا ورجعوا بغضب من الله، لإعراضهم عن دين الله ولأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين ظلمًا وعدوانًا، وذلك بسبب عصيانهم وتجاوزهم حدود ربهم. وعلى ذلك فإنه يجب على أهل مصر الذين نزلت فيهم آيات القرآن الكريم المذكورة فى هذا المقال والمقال السابق عليه أن يسارعوا إلى تحقيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية. وسوف نتناول استكمال شرح كيفية تحقيق السلام الاجتماعى والمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية فى مصر بعد ثورة 30/6/2013 وذلك فى مقالات تالية إن شاء الله تعالى. E-mail:[email protected]