عندما قابلتها أول مرة رأيتها تجلس على نفس المكتب الذى كنت أجلس عليه منذ أكثر من عشرات السنين . نظرت إليها وتذكرت نفس البنت الذى جاءت هنا يوما وكلها أحلام وعينيها تمتلئ بالأمل والإشراق وهى الأن أصبحت أكثر خبرة وأكثر حنكة لكنها لم تتخل عن طيبتها وحبها للحياة والآخرين .. بنت بسيطة وجميلة ورقيقة وواضح عليها التربية والأخلاق ا لحميدة .. ومع الوقت كنت أحاول من وقت لآخر أحذرها من مغبة الآخرين ولؤمهم وشرورهم خفت عليها ولم أجد يوما أحدًا خاف على كما خفت عليها , ومع الوقت شعرت بأمومة تجاهها وأحببتها حبا جما .. ونما شعور فى قلبى أنها فعلا كانت ستكون ابنتى لولا أننى رفضت الزواج من أبوها عندما تقدم لخطبتى منذ كنت فتاة صغيرة فى الخامسة والعشرين .. وإحساس عميق يؤكد لى ذلك أنها فعلا الابنة التى كنت أحلم بها أو هل تقربها منى لأنها تعرف أننى يوم كنت أحدى المرشحات للزواج من أبيها .. على الرغم أن أسم الأب مختلف والمهنة مختلفة .. لكن الشاررع الذى تسكن فيه والشبه الكبير بينها وبين جدتها السيدة الفاضلة وهذا يؤكد لى صدق إحساسى .. وكبرت الحكاية فى دماغى عملت لها يدين وقدمين وساقين تسير فيهما فى عقلى وقلبى وكأنها الحقيقة الخالصة .. وطبعا هذا خيال مؤلف يجعل من الطيف حياة كاملة تتحرك على الأرض وتعيش وتتنفس .. واشتغل المؤلف فى أعماقى يقول لى، هى تشبه كثيرا السيدة التى أخذتنى لحضنها وقبلتى فرحة بى لأنها تمنت يوما أن أكون زوجة لابنها الشاب الذى حصل على الدكتوراة توا , وتريد أن تزوجه من بنت حلال مثل أولاد أخيها الذى تربت هذة الفتاة بينهم وتعرف أنها بنت ناس طيبين وأفاضل، والله هى تشبه كثيرا هذه السيدة الرقيقة. وجاء الشاب يرانى فى مقر عملى وكانت مقابلة غير موفقة وذهب كل منا إلى حاله وألف عين ترصد وتتكلم وتبحلق فى الخاطب الذى جاء ليرانى بعين الحقد والحسد وغيرة البنات، وتزوج هو وأكيد أنجب البنات والصبيان . وربما الغرور الذى صور لى وقتها أن هناك الأفضل وأننى يجب أن أنتظر، ولم يأتينى مثله . وكان هو الأفضل ممن تقدموا لى بعد ذلك، هل القدر هو الذى أتى بهذه الفتاة لتعمل معى فى نفس المجال وتخطو نفس الخطوات الذى خطوتها ويكون الشبة الكبير بينها وبين جدتها هو الذى أيقظ فى أعماقى هذه المشاعر الجميلة تجاهها وكأنها الابنة التى حلمت بها يوما. وهى أيضا تحبنى وتخاف على بل أحيانا تنصحنى بماذا أفعل وماذا لا أفعل، وتعرف طباعى وتعرف خصالى وترانى دائما فى صورتى الحقيقة التى لايعرفها أحد وأدركتها بفطرتها الذكية، والابنة تفوقت على أمها فى الفطنة . ودائما أشجعها على التفوق وهى أول المعجبين بكتابتى الآن وأحرص دائما أن تقرأنى ما كتبت لأنى أقدم دائما النصح لكل من فى سنها ليتجنبوا أخطائى التى سببها الحقيقى جهلى فى فهم الأشرار الذين أحاطونى وحقدوا على دون سبب ألا أننى الأفضل على طول الخط . وهى رقيقة هادئة وراقية ومتدينة ومهذبة . وأنا كذلك ولكننى أكثر عصبية وإيقاعى أسرع حتى وأنا فى هذه السن المتقدمة، وأعجب كثيرا من طبائع هذا الجيل الذى ليس لديه إحساس بأى قيم أو مثل تعلمناها نحن من آبائنا وأجدادنا فهم ينظرون إلينا وكأننا يجب أن نوضع بأفكارنا فى المتاحف لأن ذلك لايتماشى مع العصر والزمن , ولكنها ليست كذلك وأقول فى نفسى أنها تربت على القيم الجميلة، آحترام الكبير وحب الخير للناس ومد يد المساعدة لكل محتاج ومحاولة حل مشكلته وذوق رفيع فى الملبس المحتشم والأداء الجميل فى العمل، وأرى أنها تدرك جيدا الأشياء وتدرك حقيقة الأشخاص دون عناء ويكون رأيها ىفى محله . ولذلك لاأخاف عليها الآن من الأشرار ولؤم ومكائد صغار النفوس . سألتها يوما أنت تسكنين فى حى كذا وفى شارع كذا أجابت نعم، والله نفس الشارع الذى كان الخاطب القديم يسكن هناك، ولكن هل ما زال يحتفظ بهذا السكن العائلى أم أنتقل لسكن آخر، ثم أكملت كلامى عن الجدة الكريمة التى رأتنى زوجة لابنها وكنت غبية فى عدم اكتراثى، وحكت أنهم من صعيد مصر وليس من دولتا مصر وأن والدها وأمها أقارب، وأن أختها الكبرى سنها تقريبا لايمكن أن ينجبها هذا الخاطب القديم فى نفس التوقيت شعرت وقتها أن خيالى أخذنى بعيدا كعادته وأن لإعجابى بها تمنيت أن تكون أنتى حتى ولو فى الخيال وهى تسعد جدا باعتبارى لها كابنتى . وكنت أتمنى أن تكون ابنته لأرى فعل القدر وقسوته، الذى دائما يرينا العجب ويرينا أخطاءنا بعد أن يكون الآوان قد فات، والحكاية اشتغلت فى أعماقى فترة وارقتنى، وعملت لها ذيلًا وعشت أياما أعذب حالى لماذا رفضت هذا الشاب يوما ولا هو الذى رفضنى النتيجة واحدة، وهل أتى بابنته لتكون زميلة لى لمجرد أن يقول لى أنا سرت أبا وأنت لم تصبحى أما، والحكاية أرقتنى والذكريات كلها هنا مؤلمة وأرجو أن أتركها لهم قبل أن اترك هذا المكان لتكون دليلا على آثامهم التى لن يغفرها لهم الله ولا حتى الحجر .لأنى لن أحمل معى من ذكريات تؤرق على حياتى، أشخاص أرادوا إيقاف حياتى المهنية، أشخاص سرقوا جهدى وتعب السنين واعتبروه نهبا خاصا، أشخاص تاجروا حتى باللحم الحى وبيعه غال رخيص النتيجة واحدة .. عذاب ووحدة وآلام لاتنتهى .. لكن ما يعزينى بعض الناس الذين فيهم بعض الخير الذى افتقدناه حتى من أقرب الناس حولك.