هذه التحالفات الانتخابية التى يجرى الإعلان عنها بين الأحزاب والتيارات السياسية والشخصيات العامة.. استعدادا للانتخابات البرلمانية المرتقبة والمقرر إجراؤها بعد إقرار الدستور الجديد.. هذه التحالفات تبدو الحدث الأهم فى المشهد السياسى الراهن، باعتبارها مظهراً ودليلاً على حيوية وصحوة سياسية لا تخفى دلالتها، بقدر ما تعنى فى نفس الوقت أن الانتخابات المقبلة سوف تشهد معارك حزبية ساخنة. ليس سراً أن هذه التحالفات المختلفة بين عدد من القوى والتيارات الثورية واليسارية والليبرالية تستهدف فى الأساس التصدى لغلبة التيارات الإسلامية وفى مقدمتها حزب الحرية والعدالة.. الذراع السياسية لجماعة الإخوان إضافة إلى التيار السلفى والجماعات الإسلامية بأحزابها، وهى الغلبة التى حققتها هذه التيارات فى كل من انتخابات مجلسى الشعب والشورى والرئاسة. وإذا كانت تلك الانتخابات الثلاثة التى جرت خلال المرحلة الانتقالية قد عكست بجلاء قوة التنظيم لدى تيارات الإسلام السياسى وتجذّرها فى عمق المجتمع المصرى.. فى الريف والحضر خاصة لدى الطبقات الدنيا والمهمّشة.. اقتصادياً واجتماعياً، فإنها (تلك الانتخابات) كشفت فى نفس الوقت عن ضعف الأحزاب والتيارات الأخرى.. سواء القائمة قبل الثورة أو التى تأسست بعدها. ??? مشكلة الأحزاب والقوى السياسية غير الإسلامية وسبب ضعفها أنها بدت نخبوية بأكثر منها جماهيرية، ثم إنها ليست ملتصقة بغالبية المصريين من الفقراء ومحدودى الدخل وعلى النحو الذى جعلها غير قريبة من هموم وقضايا وأوجاع هؤلاء الناخبين وعلى العكس تماماً من جماعة الإخوان والتيار السلفى. ولذا فإنه بينما كانت الماكينة الانتخابية لتيارات الإسلام السياسى تعمل بقوة بين صفوف الناخبين لحشد التأييد الجماهيرى، فإن قيادات وكوادر الأحزاب والتيارات الأخرى كانت توجه خطابها الانتخابى عبر الفضائيات وهو الخطاب الذى ضل طريقه إلى غالبية الناخبين. ثم إن ائتلافات شباب الثورة بدت هى الأخرى عاجزة عن طرح نفسها على جماهير الناخبين بوصفها طليعة الثورة وصانعتها فى المقام الأول، وقد تبدّى هذا العجز واضحاً ليس فى تلك الانتخابات بل أيضاً فى غيبة الحضور الفاعل والمشاركة الإيجابية فى الحراك السياسى طوال المرحلة الانتقالية ومنذ بدايتها، وهو الأمر الذى يمكن تبريره بالنظر إلى محدودية الخبرة السياسية لهؤلاء الشباب الثوار الذين أشعلوا شرارة الثورة بإصرار مذهل، وهذه الخبرة المحدودة كانت السبب أيضاً فى تشرذم تلك الائتلافات وتفتت قواها وعلى النحو الذى أضعفها وجرى إقصاؤها من المشهد السياسى. ليس ضعف الأحزاب والتيارات الليبرالية والمدنية واليسارية ولا تشرذم ائتلافات شباب الثورة فقط هما السبب الوحيد رغم أهميته وراء غلبة التيارات الإسلامية ولكن أيضاً لأن هذه التيارات ومع التسليم بقوة تنظيماتها وتجذّرها فى عمق المجتمع المصرى اعتمدت فى المقام الأول على التأثير الطاغى للدين لدى عموم المصريين، حيث ينحاز الكثيرون تلقائياً وبالفطرة وبصرف النظر عن التوجه السياسى والبرامج الانتخابية إلى من يرفعون لافتة الإسلام باعتبار أن خطابهم السياسى يركّز على المعتقدات والمشاعر الدينية فى الأساس، وهو خطاب بالغ التأثير فى الكثير من المصريين.. من العامة والبسطاء بل أيضاً فى المتدينين من كافة الطبقات الاجتماعية. غير أنه يبقى الإقرار بحق أى تيار سياسى فى طرح برنامجه والتوجّه بخطابه السياسى الذى يراه محققاً لأهدافه الانتخابية، وعلى الشعب أن يختار وينتخب بإرادته الحرة ممثليه من بين الأحزاب المتنافسة، وتبقى التجربة هى الفيصل وعلى أساسها وفى ضوئها قد تتغير نتائج الانتخابات فى كل دورة، ومن ثم يجرى التداول السلمى للسلطة، وهذه هى الديمقراطية. ? ولأن التحول الديمقراطى الذى شهدت مصر بدايته بفعل ثورة 25 يناير ومع قيام الجمهورية الثانية يُعدّ أهم وأكبر مكتسبات الثورة، فإن إرساء الديمقراطية وتكريسها يستلزم وجود أحزاب قوية وفاعلة وحاضرة فى المشهد السياسى والواقع المجتمعى. وجود الأحزاب القوية هو الضمانة الوحيدة والحقيقية لإرساء الديمقراطية واستقرار النظام الديمقراطى فى مصر، إذ أن قوة الأحزاب وتعددها ما بين ثلاثة أو أربعة أحزاب متنافسة من شأنها ضمان التداول السلمى للسلطة، وهذا التداول هو الذى يحول دون احتكار حزب أو تيار بعينه للسلطة والحكم لسنوات طويلة ممتدة حتى لو كان ذلك مستنداً إلى صناديق الانتخابات. ثم إن إرساء وممارسة التداول السلمى الديمقراطى للسلطة كأساس للديمقراطية يستلزم قيام معارضة قوية فى مواجهة حكم الأغلبية وبما يتيح لها الانتقال من المعارضة إلى السلطة دون قيود أو عراقيل أو تسلّط من جانب من يجلسون فى مقاعد الحكم، إذ أن قمع الأغلبية للمعارضة يعنى استبداد الحزب الحاكم وتأبيده فى السلطة.. تجربة الديمقراطية «الديكورية» والحزب الوطنى فى النظام السابق.. نموذجاً وشاهداً. ? لقد كان لدى مصر تجربة ديمقراطية ليبرالية ناجحة ومتميزة سبقت بها دول المنطقة والعالم الثالث، غير أنها توقّفت مع قيام نظام يوليو 1952 تحت مظلة الحكم العسكرى، حتى تجربة التعددية التى بدأها الرئيس السادات عام 1979 لم يُكتب لها النجاح، إذ كانت مظهرية وشكلية، خاصة أنه ترأس الحزب الوطنى الذى أسسه ليكون حزب الأغلبية الدائمة، ومعه حزبان آخران لزوم المعارضة «الديكورية» التى استهدفها وهو ما تأكد حين لم يحتمل عودة حزب الوفد إلى الحياة السياسية. ثم جاء مبارك الذى ورث رئاسة الحزب الوطنى ضمن ميراث السلطة والحكم، وحيث كرّس هيمنة الحزب واحتكاره للسلطة حتى أسقطته الثورة بعد أن أوصل مصر إلى ما وصلت إليه من خراب وتدهور وانهيار. ? إن التحوّل الديمقراطى الذى تشهده مصر بعد ثورة 25 يناير وبفعلها هو حجر الأساس فى بناء نظام الحكم الديمقراطى المدنى المستقر على أنقاض نظام مبارك الاستبدادى الفاسد، وهذا النظام الديمقراطى الذى يتأسس حالياً هو الضمانة الضرورية والحقيقية لاستكمال تحقيق أهداف ومطالب الثورة فى الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والعدالة السياسية أيضاً. ? لقد أحسن قادة الأحزاب والقوى السياسية والشخصيات العامة المعنية بالشأن العام صنعاً بإقامة تلك التحالفات الانتخابية والتى من شأنها وجود تكتلات حزبية قوية وفاعلة وقادرة على المنافسة وحصول أى منها على الأغلبية فى انتخابات مقبلة.. تفعيلاً لمبدأ تداول السلطة. ? لأنه لا ديمقراطية فى غيبة تداول السلطة بين أحزاب متنافسة، فإنه وبالضرورة لا تداول للسلطة فى غيبة أحزاب قوية، وذلك ما يمكن أن يتحقق بالإعلان عن التحالفات الحزبية التى تمت مؤخراً. ?