فور علمى بخبر وفاته دخلت فى نوبة من البكاء الهيستيرى لأن البابا شنوده كان بالنسبة لى أكثر من صديق بل كان أبا روحيا لى منذ أن كنت طالبا بالجامعة.. هكذا بدأ الإذاعى والكاتب فايز فرح صاحب صالون فايز فرح الثقافى حديثه مع «أكتوبر»، وفتح لنا قلبه متحدثا عن بعض الجوانب الإنسانية للبابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الذى رحل عن عالمنا فى يوم الأحد الماضى.يقول الإعلامى فايز فرح تعرفت على البابا شنودة عندما كنت طالبا بقسم التاريخ بكلية الآداب جامعة القاهرة وهو نفس القسم ونفس الكلية التى تخرج فيها قداسته، وقتها كان للطلاب المسيحيين أسرة طلابية تجمعهم داخل الكلية اسمها «أثناسيوس»، وكان الأب الروحى للأسرة بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية الأسقف شنودة الذى كان أسقف التربية الكنسية والكلية الاكلينيكية وكنت شاباً شقياً أعشق الفلسفة رغم أننى كنت بقسم التاريخ وكنت دائما أحاور الأسقف شنودة وأوجه له أسئلة فلسفية صعبة لكن كل إجاباته كانت تقنعنى وتشعرنى بأن هذا الرجل رجل دين وفيلسوف حقا وأن فلسفتى لا تساوى شيئا على الاطلاق. ومن هنا بدأت صداقتى للبابا شنودة كان ذلك فى منتصف ستينيات القرن الماضى وبعد أن تخرجت من الجامعة عملت بالإذاعة وقمت بعمل مسابقة فى الإنجيل استعنت فيها بالأنبا شنودة الأسقف فى وضع أسئلة المسابقة وبعد هذا التعاون توطدت صداقتنا أكثر وبعد أن اختير بابا للإسكندرية فى 14 نوفمبر 1971 قضيت معه يوم السبت 13نوفمبر كاملا فى دير الأنبا بيشوى. فى هذا الوقت لم يكن هناك إعلام مسيحى على الاطلاق، فى هذا اليوم وجدته ينام على مصطبة حجرية عليها لحاف فقط لأنه لا يستطيع أن ينام على مرتبة بسبب بعض آلام كانت تلم به فى العمود الفقرى ولأنه كان يحب الفكاهة كان يسخر من مرضه وأطبائه وكان يقول (أطباء العظام دائما عظام). ويكشف الكاتب فايز فرح عن شىء غير معروف بالنسبة لكثيرين وهو أن البابا شنودة كان يحب الرئيس السادات جدا وكانا صديقين حميمين قبل أن يشتد الخلاف بينهما ويفرض عليه الإقامة الجبرية فى دير الأنبا بيشوى وكان يقول علاقتى بالرئيس السادات شهر عسل دائم لأن السادات كان يحب أن يسمعه ويستمع لاقتراحاته وكان مؤمناً به كشخصية دينية مثقفة لكن بعض الشخصيات المسيحية العامة من المنافقين للسلطة ساهمت فى الخلاف وأتذكر أنه فى أول حوار أجريته مع البابا تحدث عن مصر وأهمية مصر وفند مزاعم اليهود بأنهم شعب الله المختار وليس من حق اليهود احتلال فلسطين.لذلك كان له قول مأثور وهو (ربنا موجود). ويضيف: سألته فى إحدى المرات عن الحكمة التى يؤمن بها فقال: أؤمن بقول الحكيم الصينى كونفوشيوس «بدلا من أن تلعنوا الظلام أضيئوا شمعة» البابا شنودة كان يحب سماع الموسيقى كثيرا وكان يشعر كداوود النبى بأن الإنسان يجب أن يرتل بكل الأصوات الجميلة. وقداسته كانت له رؤية فى كل شىء فى نظام المواريث مثلا كان يقول إن المرأة يجب أن تورث مثل الرجل وكان متمسكاً بنصوص الإنجيل فى الزوجة الواحدة وعدم الطلاق. ويضيف فايز فرح بما أننى كنت التقى به كثيرا بل كنا نجلس طوال اليوم معا فى مكتبه وكان يقتنى مكتبة عظيمة كنت آخذ منها بعض الكتب لقراءتها حتى شعرت بالتقارب الفكرى بينى وبينه بجانب أنه كان أبا روحيا لى وكنت أقول له إنه يوجد بيننا أوجه للتشابه كثيرة مثل أننى خريج نفس القسم الذى تخرج فيه فى قسم التاريخ كلية الآداب جامعة القاهرة وحتى انضمامه لنقابة الصحفيين كعضو منتسب وعندما التقيته فى آخر مرة وأهديته كتابى (عباقرة وعشاق) الصادر عن دار المعارف قلت له أنا مكسوف أهديك هذا الكتاب لأنه عن العشق والهوى فقال لماذا تشعر بالخجل أنا قرأت عن حب العقاد لسارة كثيرا. الأدب ليس فيه خجل وأخذ الكتاب وكان سعيدا به وفى مرة أخرى قلت له يا سيدنا أنت من العباقرة المصريين ولو لم تكن البابا شنودة الثالث كنت ستكون مثل عباس العقاد أو توفيق الحكيم أو سلامة موسى لأنك ولدت لكى تكون مشهورا. ويستطرد: قداسته صاحب كاريزما غير عادية وكان ودودا ضاحكا صاحب نكتة فعندما دعاه بعض شيوخ الازهر ليلقى محاضرة هناك قال أنا فى الأزهر مقدرش أظهر. وذهب إلى هناك وألقى محاضرة، وأعتقد أنه غير من الفكر الدينى التقليدى فى أن الدين حزن وبكاء وندم وعدم حب للحياة لكن هو أظهر أن الدين ابتسامة وبهجة وأمل فى الحياة الأخرى. فى عيد الميلاد المجيد فى العام قبل الماضى عاتبنى قائلا: يبدو أنى لم أعطك عنوانى كى تزورنى يا فايز، وهنا شعرت بالخجل الشديد فقلت له أنا طلبت الموعد لكن السكرتير لا يبلغك وأخذ يبحث عن السكرتير الأسقف المسئول لكنه هرب، لذلك لم أفاجأ عندما علمت بأن هناك خلافا حدث بين قداسته وبين هذا الشخص لأنه لايوصل له طلبات الناس فى مقابلته. وعندما كنت أذهب اليه بصحبة المهندسين الاذاعيين أو بعض الإعلاميين المسلمين كانوا حريصين على معرفته وهو أيضا وكان يقربهم منه جدا لدرجة كانت تجعلنا نغير منهم أحيانا لأنه كان يحبهم أكثر منا. قداسة البابا كان عبقريا وكان يستطيع تدبير الحل لكل مشكلة واسع الثقافة والاطلاع وطنى وعاطفى محب بكل قلبه وله كتاب شهير اسمه المحبة أم الفضائل فقد كان عاشقا لمصر والمصريين. ويضيف: كان للراحل موقف ظريف مع الشيخ محمد متولى الشعراوى حيث كان بعض الأقباط يضيقون ذرعا بأحاديث الشيخ الشعراوى الأسبوعية لأنه كان يهاجمهم وكانوا يشكون للبابا وعندما ذهب الشعراوى إلى لندن للعلاج لإجراء عملية جراحية هناك وجد البابا فرصة سانحة للتقرب إليه فأرسل إليه بعض الأساقفة فى لندن وقدموا له بعض الهدايا فتعجب الشيخ الشعرواى وحرص على مقابلة البابا شنودة فور عودته من لندن بصحبة د. على السمان الذى كان صديقا مشتركا، وكان لقاؤهما وديا جدا وأصبحا بعد هذا اللقاء صديقين حميمين. وخلال اللقاء أهدى البابا شنودة الشيخ الشعراوى كتاباً فى الدين الاسلامى وتعجب الشعراوى وقال له هذا الكتاب ليس عندى ولم أره من قبل. وأخيرا يقول فايز فرح: استقبلت خبر وفاته بالبكاء الشديد ومازل الدمع يفيض من عينى حتى الآن واستقبلت مكالمات عديده تعزينى فى وفاته وتعجبت من أول مكالمة تلقيتها لأنها كانت من صديق سعودى من قرائى هو وزوجته هذا الرجل بلا شك سيترك فراغا كبيرا لأنه قلما يجود به الزمان.