الشائعات لعبة قديمة، عمرها هو عمر الحروب نفسها؛ ففى كل حرب، يسعى العدو دوماً لهدم الجبهة الداخلية، وإشاعة البلبلة فيها، وبث روح الفرقة فى الشعوب، وقطع كل رباط ثقة، بينها وبين قياداتها ودفاعاتها، بحيث يصنع منها جبهة جديدة، ينشغل بها عدوه، فتسهل هزيمته، فى جبهة الحرب والقتال ... الشائعات لعبة، استخدمها الفراعنة، وانتهجها البربر، وبرع فيها التتار، الذين كانت تسبقهم الشائعات التى ابتكروها، والتى تبالغ فى قوتهم وبأسهم وجبروتهم؛ لكى ترهب عدوًَّهم، من قبل حتى أن يواجههم ... ولقد نجحت الشائعات، التى بثها الألمان، فى الشعب الروسى، إبان الحرب العالمية الأولى، فى إشعال وإذكاء جذوة الثورة الروسية، التى كان على رأس مطالبها الانسحاب من الحرب ... ثم جاءت الحرب العالمية الثانية، وجاء معها الفكر النازى، الذى أدرك أهمية الدعاية والشائعات، حتى أنه أنشأ، وربما لأوًَّل مرة، وزارة البروباجاندا، أو الدعاية، والتى رأسها (جوزيف جوبلز)، أحد مؤسسى علم الشائعات، المعروف الآن ... والشائعات فن من فنون عالم الجاسوسية، له تقسيماته وأنواعه وتأثيراته، ولكل شائعة من تصنيفاته مهمة، وغاية، وهدف، يجعلها أحد فنون الحياة، وفن عميق أيضاً، يدرك كيفية استخدام الشائعة الصحيحة، فى الوقت الصحيح؛ لبلوغ الهدف الصحيح ... فالشائعات ليست كلها من طراز واحد، بل هى تندرج نحو نوعين كبيرين من التقسيمات: نوع يعتمد على هدفها، والآخر يعتمد على مصدرها ... والشائعات التى ترتبط بمصدر الشائعة، هى الشائعات البيضاء، والشائعات السوداء، والشائعات الرمادية ... والمصطلح هنا لا صلة له بهدف الشائعة، ولا يعنى أن الشائعة البيضاء ذات هدف نبيل، أو العكس بالعكس، إنما يرتبط بمصدرها فحسب؛ فالشائعة البيضاء هى شائعة معلومة المصدر، مثل خبر ينشر أو يذاع فى التليفزيون الإسرائيلى مثلاً، ويثير بلبلة فى الشارع المصرى، أو ينشر على لسان مسئول أمريكى، يحتل مكانة رفيعة، ولكنه ليس صاحب القرار الرئيسى، فيثير بلبلة هنا، لما حواه من تهديدات ومخاوف وتصريحات، ليست فى النهاية سوى تعبير عن وجهة نظر صاحبها، الذى يمكن فوراً التصريح بأنه ليس فى موقع إصدار القرار، إذا ما أتت الشائعة بنتيجة عكسية ... أما الشائعة الرمادية، فهى شائعة يصعب تحديد مصدرها بالضبط؛ إذ أنها تنطلق وتنتشر فى الشارع، ويتناقلها ويردًَّدها البعض، مما يزيد من انتشارها السريع، على الرغم من أنها لم تأت على لسان شخص بعينه، ولم تصدر عن جهة معلومة، وليس هناك حتى ما يمكن أن يثبتها أو ينفيها؛ لذا فهى شائعة مجهولة المصدر، تحدث تأثيراً كبيراً، دون أن ينتبه أحد إلى ضبابية ورمادية مصدرها ... الشائعة السوداء أمرها يختلف؛ فهى تصدر عن مصدر، يخالف تماماً ما توحى به، أو ما تنسب إليه ... كأن تتحًَّدث بها إذاعة ناطقة بالعربية مثلاً، وتبدو وكأنها إذاعة وطنية، فى أغنياتها، وإعلانها ومضمونها، ومعظم نشراتها الاخبارية، والتى تدس فيها الشائعات، التى هى سر وجودها من الأساس ... وتلك الإذاعات، ولأنها تتخذ مظهراً وطنياً؛ لتدس السم فى العسل، تحظى فى المعتاد بنسبة مستمعين عالية، وبنسبة مصداقية كبيرة بين الناس، مما يرفع من قيمة دورها، عندما تدس شائعاتها، بين الأوساط البسيطة، والمتابعة لها، خاصة أنها تنفرد أحياناً بمجموعة من الحقائق، ترفع ثقة الناس بها إلى الحد المطلوب ... والشائعات، بكافة تصنيفاتها، تعتمد على قاعدة أساسية، توًَّصل إليها خبراء علم النفس، منذ سنوات وسنوات ... قاعدة تقول: «إن الناس مستعدون لتصديق الكذب، مهما بدا زيفه، إذا ما صادف هواهم، وتكذيب الصدق، مهما بلغ وضوحه، إذا ما خالف هواهم».... المسألة إذن ليست فى صدق أو كذب ما يقال، ولكنها فى رغبة الناس فى تصديق أو تكذيب ما يقال ... ولكن دعنا نعُد إلى الشائعات نفسها، وإلى تقسيماتها، حيث تنقسم من منطلق الهدف، إلى ثلاثة تصنيفات أخرى، وهى الشائعات المتفجًَّرة، والشائعات الزاحفة، والشائعات الغائصة ... والشائعة المتفجًَّرة، هى شائعة سريعة المفعول، معًَّدة بحيث تتفجًَّر فى المجتمع، تحت ظروف بعينها، لكى تحقًَّق هدفاً تكتيكياً سريعاً، مثل شائعة موت (هتلر)، التى أطلقت عام 1941م؛ فى محاولة لإثارة بلبلة كبيرة، يمكن من خلالها العمل على قلب نظام الحكم... وشائعة فرار القيادة، مع الأيام الاولى لثورة يناير 2011م، والتى أشاعت الاضطراب فى صفوف قيادات الشرطة ...وهذا النوع من الشائعات يقتصر على فترات المواجهات المباشرة، ولا يصلح للتعامل على مستوى كبير، او لفترات طويلة، إذ أنه ينكشف فى سرعة، بعد أن يحقًَّق الهدف المرجو منه، على عكس الشائعات الزاحفة، ذات التأثير الاستراتيجى طويل المدى، وهى شائعة تعتمد على الانتشار، والتوًَّغل فى المجتمع، بحيث تتناقلها الألسن، وتضيف إليها، وتعمل على تقويتها، دون أن تدرى، فتزحف الشائعة فى المجتمع وتزحف، وتصبح بالنسبة إليه غير قابلة للجدل، بحيث يكون تكذيبها أشبه بالكذب، وليس بكشف الحقيقة، لذا فالشائعة الزاحفة تعد من أخطر أنواع الشائعات، لقدرتها على تغيير تفكير مجتمع كامل، مع مرور الوقت ... أما الشائعة الغائصة، فهى شائعة من نوع خاص، تظهر فى ظروف بعينها، ثم تغوص فى المجتمع، وتعود للظهور مرة أخرى، كلما عادت الظروف نفسها، وهو نوع من الشائعات، التى تعتمد على تكرار ظروف بعينها، فى مجتمع بعينه ... هذا بالإضافة إلى نوعين أساسيين كبيرين من الشائعات، تندرج تحتهما كل أنواع الشائعات الأخرى، بمختلف تصنيفاتها، وهما الشائعة الاستراتيجية، والتى تندرج تحتها كل أنواع الشائعات، التى تستهدف ترك أثر دائم فى المجتمع كله، على نطاق واسع، وتستهدف كل فئات المجتمع بلا استثناء، على المدى الطويل، والشائعة التكتيكية، التى تستهدف فئة من الشعب، أو حتى الشعب كله لتحقيق هدف سريع ومرحلى، والوصول إلى نتائج قوية وفورية ... والشائعات، على الرغم من كونها وسيلة شديدة الفاعلية، لضرب الجبهة الداخلية، وربما الجبهة الخارجية المباشرة أيضاً، فإنها ليست الوسيلة الوحيدة للحرب النفسية، ولهدم الجبهات الداخلية، فهناك وسائل اكثر قوة، وأكثر عنفاً أيضاً، ولهذا حديث ...قادم.