الكتابات فى عالم الجاسوسية كثيرة ومتنوًَّعة، ولها قدرة مدهشة على جذب اهتمام القارئ، أياً كانت نوعيته، وأياً كان مستواه الفكرى .... ويرجع هذا إلى أن كتابات الجاسوسية ليست كلها من نمط واحد، إنما تنقسم إلى خمسة أنواع مختلفة، وفقاً لطبيعة الكاتب وتاريخه، فهناك العميل أو الجاسوس السابق، الذى يروى تفاصيل العملية، التى قام بها، دون كشف النقاط بالغة السرية، أو التفصيلات الدقيقة، التى يمكن أن تكشف آخرين، أو تفسد سرية عمليات تالية، وذلك النوع من كتًَّاب أعمال الجاسوسية، لابد من إخضاع كتاباته لمراجعة دقيقة، من قبل الجهاز الذى قام بعملية لحسابه؛ إذ أن شعوره بالزهو قد يدفعه أحياناً، ودون إدراك، إلى كشف ما لا?ينبغى كشفه، أو تفخيم دوره فى مرحلة ما، على حساب الحقيقة البحتة، خاصة أن لعبة الجاسوسية تستهوى دوماً من يتوغلون فيها، عندما تتكًَّلل عمليتهم بالنجاح، ويصبح من العسير عليهم الخروج من اللعبة، أو الاقتناع بأنها دوماً، بالنسبة لهم، لعبة محدودة، تنتهى بنهاية العملية، مما يساعد على أن ينسج خيالهم الكثير من التفاصيل، التى لم تحدث أبداً، أو إعادة صياغة بعض التفاصيل، بحيث يكون الكاتب فيها هو البطل الأوحد، على عكس الحقيقة ... النوع الثانى من كتابات الجاسوسية، هو ذلك الذى يكتبه رجال مخابرات سابقون، عن عمليات أداروها، أو شاركوا فيها، أو حتى خططوا لها أو تابعوها، وهذا النوع، على الرغم من ندرته فى هذا العالم، هو نوع من الكتابات شديدة الحساسية؛ إذ أنها قد تكون صادقة تماماً، وهذا يتعارض مع طبيعة رجال المخابرات، ومع قسم السرية، الذى يلتزمون به، أثناء وبعد فترة خدمتهم، وحتى آخر يوم فى حياتهم، وإن كانت هناك بعض الكتابات، لمن تمرًَّدوا منهم على الولاء لأجهزتهم السابقة، ونشروا بعض التفاصيل، التى تسبًَّبت فى كوارث كبيرة، فقد قام أحد رجال المخابرات الأمريكية السابقون، بنشر أسماء عدد من العملاء، المنتشرين فى أرجاء العالم، وتفاصيل ما أفادوا به المخابرات الأمريكية، فى فترة خدمتهم، مما أدى إلى سلسلة من الاغتيالات، لعملاء ورجال مخابرات، مازالوا فى الخدمة، وإلى إفشال أكثر من عشر عمليات، كانت تسير بنجاح، فى أماكن مختلفة من العالم ... هذا فى حال أن تكون الكتابات صادقة، ولكن هناك احتمال آخر، لأن تكون تلك الكتابات مقصودة ومدروسة؛ لتوصيل رسالة ما، إلى جهة أخرى، أو الشوشرة على معلومات تخص عملية ما، أو دس معلومات، تفسد عملية قادمة، أو محتملة، وهذا يعنى أن بعض تلك الكتابات، التى يفترض أنها تصدر عن مصدر ثقة، ليست أهلاً تماماً للثقة، على الرغم من أنها توحى بعكس هذا ... ولكن هذا لا يمنع من أن بعض الكتابات، فى هذه النوعية الثانية، كان لها أبلغ الأثر، فى تعريف الكثيرين، بطرق التفكير وإدارة الأمور، فى أجهزة مخابرات بعينها، وكيف أن هذه الطرق تم تطويرها، مع الخبرات المكتسبة، فى اجهزة مخابرات أخرى، مثل كتاب (لعبة الأمم)، لرجل المخابرات السابق (مايلز كوبلاند)، والذى كشف كيف أن أجهزة المخابرات الكبرى تستطيع التلاعب بمقادير أمم كاملة، من أجل تسييد مصالحها الشخصية، حتى لو بلغ الأمر حد إثارة القلاقل والفتن، أو العمل على إشعال الثورات، أو السعى لإحباطها وإفشالها، وكيف أن تلك الأجهزة تصنع دوماً مماثلاً لكل الشخصيات العالمية، أى أن يعد الشخص، ذهنياً ونفسياً، بحيث يصير تفكيره، وتصير ردود أفعاله، مماثلة تماماً لشخص بعينه، له تأثير كبير فى مجتمعه، وهذا حتى يمكن توقع أفعال وردود أفعال الشخص الأصلى، تجاه سياسات معينة، أو مواقف بذاتها، تماماً مثلما حدث مع الرئيس العراقى السابق (صدًَّام حسين)، والذى تم دفعه دفعاً لاحتلال الكويت، وصيغت كل الانذارات التى وجهت إليه، بحيث تستفزه صيغتها، وتدفعه لرفضها فى عنف، مما يمنح الآخرين الفرصة لمهاجمته، وتدمير آلته العسكرية، التى باتت تشكًَّل أيامها خطراً على الحليف الأمريكى الرئيسى فى المنطقة، وهو (إسرائيل) ... على الجانب الآخر، نجد كتابات أشبه بالدراسات، يضعها رجال مخابرات ذوو شأن كبير، وتعد مرجعاً علمياً فى فن الجاسوسية، أو فى أحد فروعه، وربما كان من أشهرها، فى عالمنا العربى، كتاب (الحرب النفسية)، والذى صدر فى جزءين كبيرين، لمدير المخابرات الأسبق (صلاح نصر)، والذى وضع فيهما خلاصة دراسته لأساليب الحرب النفسية، وطرق التأثير فى العدو، عبر أنواع مختلفة من الشائعات، منها الشائعات المتفجرة، التى تطلق إحداث تأثير سريع ومباشر، فى الحالات الحرجة، والشائعات الزاحفة، التى تتغلغل فى المجتمع فى بطء، لإحداث تأثيرات دائمة ومستمرة، والشائعات الغائصة، والمعًَّدة بحيث تختفى لفترة ما، ثم تعود وبقوة، عندما تتغيًَّر الظروف، أو تعود الحاجة إليها ... وفى كتابه أيضاً، تحدًَّث (صلاح نصر) عن طرق استجواب الجواسيس، وكيفية وضعهم تحت ضغط نفسى مدروس، بحيث يضطرون إلى الاعتراف بالحقيقة...والحقيقة وحدها .. بعد أن تفشل محاولات الاعتراف الكاذب، المعد مسبقاً، والذى يطلق عليه اسم (الخطة ب) أو (الخطة ج),,, وهكذا ... والكتاب تحدث أيضاً عن بعض تقنيات التجسًَّس، التى كانت مستخدمة أيامها، من الحبر السرى، وحتى أجهزة كشف الكذب، التى استخدمت قديماً، فى استجواب بعض الجواسيس، قبل أن يثبت فشلها، فى انتزاع اعتراف حقيقى، من شخص تم تدريبه على مواجهتها والتعامل معها ... أما النوع الرابع من كتابات الجاسوسية، فهو ذلك الذى يقوم به مؤرخون، أو دارسون لهذا العالم الغامض، دون أن يشاركوا فعلياً فيه، إنما تكون الكتابات أشبه بالأبحاث العلمية، التى تسعى إلى دراسة علم التجسًَّس، والذى صار علماً معترف به، فى كثير من الدول، ودراسة نظرياته وطرقه، والبحث فى أسباب النجاح والفشل فيه، لوضع نظريات جديدة بشأنه، أو تفنيد النظريات القديمة، أو المستخدمة فعلياً فى حينه، وهذا النوع شديد الندرة فى عالمنا العربى؛ بسبب الأسوار التى تحيط عالم التخابر فيه، مع قلة عدد المهتمين أو الدارسين، لمثل هذا العلم ... ولكن فى الكتابات الغربية، سنجد مراجع تتحدًَّث عن علم وفن التجسس، بدءاً من إعداد رجل المخابرات، وحتى الفحص النفسى للأشخاص، الذين يتم اختيارهم كجواسيس... يتبقى عندنا النوع الأخير من كتابات الجاسوسية، وهو روايات الجاسوسية، غير المستمدة تماماً من أرض الواقع، وهى أكثر الكتابات غزارة، فى هذا المجال، وبعضها له فائدة كبرى، لأجهزة المخابرات نفسها، كما سيتضح، فى حديث قادم بإذن الله.