استحوذت أزمة التمويل الأمريكى لعدد من منظمات المجتمع المدنى على اهتمام المراقبين السياسيين خصوصاً بعد رد الفعل المتشنج لواشنطن تجاه تفتيش النيابة العامة المصرية بعض المنظمات غير الرسمية وثبوت حصولها على مبالغ مالية ضخمة مقابل ما أسمته هذه المنظمات بالدعوة إلى الديمقراطية والحرية والليبرالية. «أكتوبر» التقت نخبة من الخبراء لرصد أبعاد القضية المتصاعدة خصوصاً بعد التهديدات الأمريكية بقطع المعونة عن مصر على خلفية الأزمة، فضلاً عن تقييم الموقف المصرى تجاه التمويل فى الفترة الراهنة وهل يعد ورقة ضغط أمريكية ضد السياسة المصرية؟ أم أنه يمكن الاستغناء عنها انسجاماً مع روح ثورة 25 يناير التى نادت بالحرية والكرامة لجميع المصريين.فى البداية أكد محمد كامل عمرو وزير الخارجية ضرورة خضوع جميع المنظمات العاملة فى مصر، أيا كانت جنسيتها، للقانون المصرى فيما يتعلق بإجراءات التسجيل والعمل وممارسة أنشطتها. وفيما يتعلق بالمعهدين الديمقراطى والجمهورى، ومايتصل بمنع مسئوليهما من السفر إلى حين استكمال التحقيقات معهما قال عمرو إن هذه مسألة قضائية بحتة يتناولها حاليا قاضيا التحقيق، وبالتالى لا تملك الحكومة المصرية التدخل فيها، مشددا على ضرورة احترام استقلال القضاء المصرى. ومن جانبه طالب اللواء عادل سليمان المدير التنفيذى للمركز الدولى للدراسات المستقبلية والاستراتيجية على ضرورة الاستغناء عن التمويل الأمريكى، خاصة أن المعونة من المفروض أن تنتهى من الناحية العملية عام 2010 وأضاف: المعونة فعليا تقلصت لتصل إلى 1.3مليار دولار للجانب العسكرى، و415 مليون دولارلدعم الاقتصاد، وهذا يعنى التسليم بالشروط التى تفرضها هذه المعونة مقابل الخضوع للمطالب الأمريكية التى تمثل تدخلا سافرا فى السياسة المصرية داخليا وخارجيا وهذا مرفوض تماما، وبالتالى لابد أن نجد له بديلا من مواردنا العادية، فالمعونة ليست أبدية. وشدد سليمان على أنه يجب على مصر أن ترفض المعونة إذا استشعرت أنها تمس بسيادتها أو تمثل أى إهانة لكرامتها أو أنها تلزمها بالتبعية للقرارات الأمريكية مؤكدًا أنه من الطبيعى أن يخضع توزيع المعونة للِجان فنية معنية بالأمر، تكون تابعة للحكومة»، وأن يتم «التوزيع وِفقا للشَّكل الذى تحتاج إليه مصر، وليس الذى يخدم المصالح الأمريكية فقط . وأوضح سليمان أن المعونة الأمريكية ليست منحة أو عطية أو هبة من الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى مصر، ولكنها جاءت طبقا لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، بسبب أن أمريكا كانت تزود إسرائيل بشكل مستمر مما يتيح لها بتكرار العدوان على مصر، ومن خلال المعونة كانت أمريكا تحافظ على التوازن المصرى الإسرائيلى بالحد المعقول والمقبول. واعترف بأن موضوع المعونة أصبح أمرا يعكر صفو العلاقات بين البلدين، مشيراً إلى أن مصر لا تحتاج لهذه المعونة، ومن الممكن الاكتفاء بالتعاون التجارى بين البلدين، الذى يبلغ أضعاف المعونة الاقتصادية». وحذر السفير نبيل فهمى سفير مصر السابق فى الولاياتالمتحدة من اختزال العلاقات المصرية الأمريكية فى مسألة المعونة، موضحا أن مصر أعلنت مرارا أنها لاتقبل أن تخضع أو تغير مواقفها ومبادئها من أجل أى مقابل، وليس فقط المعونات. وأوضح أن استخدام المعونة كعنصر ضغط قد فشل فى العديد من المناسبات رغم المحاولات العديدة من البعض للتأثير على مصر بها. وقال إن هذه المعونة، سواء الاقتصادية أو العسكرية، شراكة يتم الاتفاق على أوجه صرفها وعلى حجمها وإلا فلا حاجة إليها، مضيفا أن التخلى عن المعونة الاقتصادية وحتى العسكرية لن يضر مصر بعد الثورة وعلى العكس سيحرر إرادتها المستقلة أكثر ويرفع الطوق الأمريكى الذى يقيد سياستنا. ورقة ضغط ومن جهتة أكد عصام شيحة، عضو الهيئة العليا بحزب الوفد أن المعونة الأمريكية لم تعد ورقة ضغط على مصر خاصة بعد الثورة وبعد قرار المصريين بالتعامل بندية مع أى دولة أخرى، كما أن مصر تعلن بصفة رسمية أنها فى غنى عن تلك المعونة ومن هنا فهى لا تمثل سيفا مسلطا على رقبة صانع القرار المصرى إذا استطاعت مصر التخلى عنها وهى لا تؤثر فى الاقتصاد المصرى خاصة أن جزءا كبيرا منها يذهب إلى منظمات المجتمع المدنى. وأوضح أن مصر دولة محورية لا تستطيع أمريكا العمل دون دورها وإن كان قد تراجع هذا الدور فى السنوات الأخيرة إلا أن مصر الآن تستعيد هذا الدور سريعاً إقليميا ودوليا مؤكدا أن أمريكا لا تستطيع قطع المعونة، وقد سبق أن هددت عشرات المرات وفى الحقيقة أن المصالح الأمريكية المرتبطة بتلك المعونة أكثر من مصالح مصر، كما أن 50% من إجمالى المعونة الاقتصادية إلى مصر يذهب لصالح الشركات الأمريكية التى تعمل فى القاهرة وإلى الخبراء الأمريكيين الذين يحصلون على حوافز ومنح. وأكد الخبير العسكرى صفوت الزيات أن الاستفادة من المعونة الأمريكية هو أمر متبادل بين مصر وأمريكا على الرغم من أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تحافظ دائماً على التفوق النوعى لإسرائيل، بينما 250 مليون دولار، وهى حجم المعونة الاقتصادية المقدمة من أمريكا لمصر لا تعنى الكثير للبلدين لكن الذى لا يمكن تجاهله أن العلاقة مع أمريكا تمثل أحيانا المرور من الباب الملكى للوصول للمؤسسات العالمية وصندوق النقد الدولى ولاشك أن مصر تعيش فى أوضاع اقتصادية صعبة وهى بحاجة لإعادة الهيكلة الاقتصادية وعندما تسترد مصر عافيتها يمكنها أن تتحرر من أمور كثيرة على رأسها المعونة الأمريكية أما الآن فالحفاظ على العلاقات الجيدة مع أمريكا لفترة أمر مطلوب ومهم وقائم مشدداً على أن الولاياتالمتحدة ليست جمعية خيرية ولا يمكن أن تقدّم أى معونات إلا إذا أدركت أنها تصب فى صالح الأمن القومى الأمريكى مؤكدا أنه لا يجب الحديث الآن عن خضوع أو تبعية بل مواءمات ومصالح مشتركة وعلى مصر أن تحافظ على المعونة الأمريكية وتسعى لزيادتها فى تلك المرحلة حتى يتم إعادة هيكلة النظام السياسى وبرامج التنمية وعندها ستكون مصر أكثر تحررا. ويرى الزيات أن تمويل الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدنى يخضع لقواعد قانونية يجب أن يلتزم بها أصحاب هذه المؤسسات أما ما يدخل البلد من أموال غير معلنة وتحت أى مسمى فيعد خطأ كبيرا ويؤكد أن أصحاب هذه الجمعيات على درجة كبيرة من الجهل لأنهم لا يدركون حجم هذا الخطأ ولا مدى خطورته، وهناك منح أمريكية تهدف إلى تسويق بعض المشاريع التى تدعو إليها أمريكا كمشروع الشرق الأوسط الكبير والتصالح مع الكيان الصهيونى وصولا للتطبيع الكامل والتمهيد للغزو الثقافى والفكرى والسياسى. وقال إن المشكلة تكمن فى انعدام الشفافية، لذلك ينبغى على السلطات المعنية فى مصر أن تكشف للرأى العام مصادر تلك الأموال التى يتم ضخها والتصدى لمحاولات اختراق المال الأجنبى الذى لا نعرف حقيقته من خلال تفعيل القانون، مضيفا أن الولاياتالمتحدةالأمريكية ضخت ملايين الدولارات فى دول عربية منها مصر، لتأسيس قنوات فضائية وصحف تعمل وفق أجندات أمريكية. علاقة وثيقة وفى السياق ذاته طالب سفير مصر لدى واشنطن سامح شكرى بضرورة رعاية جمعيات ومنظمات المجتمع المدنى المسجلة باعتبار أن لها علاقة وثيقة مع أجهزة الدولة وتعمل فى إطار أولويات المجتمع المصرى، ومواردها وأوجه صرفها يتم مراقبتها من الجهاز المركزى وذلك من أجل أحداث نوع من الشفافية. وأكد أن مستقبل العلاقات بين البلدين لن يتاثر بتلك الخلافات حيث إن هناك اتصالات وثيقة تتضمن تأكيدات أمريكية على أهمية التوصل إلى حل لهذه المشكلة، كما أن الفرصة ما زالت متاحة لتوضيح أى لبس أو سوء فهم من أنشطة هذه المنظمات وعلينا أن نحترم ونعلى مسيرة القانون والقضاء المصرى. وأوضح أن الحكومة المصرية تدرك الدور الذى تستطيع أن تلعبه منظمات المجتمع المدنى المحلية أو الدولية فى دعم المجتمع المصرى سواء سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا مادام هو متفقا مع القوانين المصرية ومتفقا مع الأولويات المصرية، لكن من ناحية أخرى هناك قلق من موضوع منظمات المجتمع المدنى. يذكر أنه، باعتراف الخبراء الأمريكان وتقارير الجيش الأمريكى نفسه فإن قطع المعونة أو التهديد بذلك سيفقد أمريكا نفوذها ويحدث ضربة قاصمة للسياسات الأمريكية، حيث يقول الدبلوماسى الأمريكى السابق (روبرت هنتر)، إن من مصلحة أمريكا الإبقاء على المعونة لحماية تحالفها مع مصر، كما أضاف عضو الكونجرس (ستيف شابوت) أن هذه المعونة تبدو كثمن بخس لأمريكا تدفعه مقابل المخاطر التى تجنبها المعونة لأمريكا، بخلاف المكاسب الأخرى.