قبل أن تقرأ يشرفنى أن أقدم اليوم لقراء أكتوبر السيرة الذاتية لواحد من أبطال مصر الحقيقيين الذين سجل التاريخ أسماءهم بحروف من نور لدورهم الوطنى العظيم.. والهدف من عرض سيرة الفريق أول محمد أحمد صادق وزير الحربية الأسبق، أحد رجالات قواتنا المسلحة الباسلة ليس لمجرد تمضية الوقت.. ولكن لاستخلاص العبر والدروس من قصة حياة رجل عظيم خدم مصر فى صمت ليقدم نموذجًا مضيئًا لشباب الثورة ولكل الأجيال الحالية والقادمة فى قيم الفداء والعطاء . وأستميح قارئنا العزيز عذرًا فى أننا مهما كتبنا عن بطلنا العظيم فلن نوفيه حقه، كما أننا أغفلنا عن عمد بعض أعماله الوطنية فى خدمة وطنه وأمته لأن أوان الكشف عنها لم يحن بعد.. رئيس التحرير فى الحلقة الماضية تحدث الفريق محمد صادق عن باقى تفاصيل صفقة الأسلحة الألمانية التى حصلت عليها إسرائيل، فحاولت ألمانيا كسب ود الرئيس عبد الناصر بتقديم دعم مالى لمصر بلغ 70 مليون مارك ألمانى حتى لا تقطع مصر علاقاتها معها ثم كشف الفريق صادق أوراق صفقة تهريب القائد النازى وحصول مصر على حقيبة مليئة بالمستندات حول المخططات اليهودية فى المنطقة مقابل العملية التى قام بها صادق وكانت بمثابة كنز ثمين حصلت مصر عليه من القائد الألمانى وكشف عن دوره فى تغيير الصورة داخل الجالية المصرية بمدينة «بون» الألمانية وكشفه لمخططات التنظيم الدولى للإخوان ليعود وبصحبته الغواصة الجيب التى كانت تحتاج اليها البحرية المصرية فى ذلك الوقت. فى هذه الحلقة يعود الفريق محمد أحمد صادق إلى القاهرة عام 1965 بعد انتهاء فترة عمله ملحقا عسكريا فى ألمانيا لمدة عامين ليصبح كبير معلمى الكلية الحربية وينقل العديد من الخبرات والدراسات إلى طلبة الكلية الحربية ليكافئه المشير عبد الحكيم عامر بتوليه أمن القوات المسلحة بتولى مسئولية إدارة المخابرات الحربية عام 1966ومنذ اليوم الأول لتحمله المسئولية بدأ يعمل على تطوير المخابرات الحربية وتزويدها بالإمكانيات التى تساعدها فى أداء واجبها، فقد كان يتطلع إلى جهاز مخابرات قوى لديه رجال أكفاء وأجهزة حديثة ونظم عمل متطورة وفعالة واستطاع صادق أن ينشر رجاله فى كل مكان للحصول على المعلومات وقد رصدت المخابرات الحربية تحركات غير طبيعية فى 4 يونيو وعمليات إحلال للقوات والمعدات على الجانب الآخر وتم الابلاغ إلا أن قيادة الجيش لم تحرك ساكنا وفى صباح يوم 5 يونيو قامت القوات الإسرائيلية بالهجوم على وسط سيناء لتكرر سيناريو ما حدث عام 1956 وتمركزت فى منطقة أم بسيس وذلك قبل الهجوم الجوى الذى دمر المطارات الحربية المصرية بساعة ونصف الساعة إلا أن القيادة لم تحرك ساكنا أيضا لانشغالها بالصراع على السلطة لتحدث الكارثة ويتقطع الجيش المصرى الذى تسلح بما قيمته ألف مليون دولار خلال عشر سنوات وتبخرت أكبر قوة جوية فى الشرق الأوسط ثم اكتملت فصول المأساة بسقوط المدينة المقدسة والضفة الغربية وقطاع غزة وانهيار الجبهة السورية. وعقب هزيمة 5 يونيو 1967 كان الانسحاب غير منظم وراء الخسائر التى منيت بها القوات المسلحة فى ذلك الوقت سواء الدبابات أو المدرعات أو المجنزرات أو العتاد والذخيرة كل هذا تركه الجنود والضباط المصريين خلفهم من كثرة المذابح وأعمال القتل الجماعى التى قام بها الإسرائيليون للجنود المصريين فى سيناء حيث كانت تصنع لهم حفر ويتم ابادتهم بالكامل والحديث للواء محمد صادق مدير المخابرات الحربية فى ذلك الوقت بحسب مذكراته التى نستعرض بعض أوراقها. ويستكمل قائلا: كلفنى الرئيس عبدالناصر عقب الهزيمة بالبحث عن الجنود المصريين الشاردين فى سيناء وانقاذهم من الوقوع فى الأسر واتصل بمحافظى السويس وبورسعيد للمساهمة فى هذه العملية وعرضت على الرئيس أن تقوم المجموعة 39 من رجال المخابرات بهذه العملية بالتعاون مع أبناء سيناء الوطنيين ولم تكن المجموعة فى ذلك الوقت قد سميت بهذا الاسم ووافق الرئيس وتم تكليف المقدم أركان حرب إبراهيم الرفاعى قائد المجموعة باستطلاع قوة العدو يوم 7 يونيو على طريق العريش القنطرة وقام الرفاعى ومن معه بتجميع ضباط وجنود سرية دبابات النقيب طارق واصل نجل العميد عبدالمنعم واصل قائد اللواء 14 مدرع فى ذلك الوقت والذى كان مصابا فى المستشفى وتم نقل طارق واصل وجنوده غرب القناه وواصلت عناصر قوات الصاعقة القتال تحت ضغط العدو حتى رأس العش واحتلت موقعا دفاعيا شرق بورفؤاد. وخلال أسبوع من الجهد المكثف لعناصر الصاعقة والمخابرات وأبناء سيناء تم تجميع 8000 ضابط وجندى وكانت أعداد اخرى فى حماية ابناء القبائل فى سيناء وقد أسهمت عملية الاجلاء المنظم لأفراد القوات المسلحة فى سيناء إلى عدم وقوع المزيد من الخسائر فى الأفراد وسرعة انضمام هؤلاء المقاتلين الى وحداتهم استعدادا ليوم الفصل مع العدو. وعقب الهزيمة قام اليهود بتجميع مخزون هائل من الاسلحة والمعدات المصرية التى خلفتها عملية الانسحاب غير المنظم للقوات المصرية من أجل إعادة استخدامها من دبابات ومدرعات وغيرها من الاسلحة والذخائر، وكان لابد من منع قيامهم بذلك وتدميرها بالكامل. يضيف اللواء صادق حسب مذكراته: بالفعل تقدمت بمقترح للرئيس جمال عبدالناصر للحيلولة دون استخدام إسرائيل لهذه الذخيرة ضد القوات المصرية وكان متخوفا من خرق وقف اطلاق النار فى الوقت الذى مازالت القوات المسلحة لم تفق من كبوتها، فاقترحت عليه تأسيس منظمة سيناء العربية وكانت مكونة من أبناء سيناء وضباط وافراد القوات الخاصة وعناصر المخابرات لتكون ستارا ودعما للعمليات التى تقوم بها عناصر القوات الخاصة لأن الأعراف والمواثيق الدولية تبيح لأبناء الأرض مقاومة المحتل كما أنه فى حالة وقوع أحد فى الأسر سوف يكون من أهل سيناء، وهنا وافق عبد الناصر على التنفيذ فكلفت المقدم إبراهيم الرفاعى وأفراد مجموعته الذين كانوا يمتلكون شجاعة الأسود بالعملية وفى ليل يوم 4 يوليو تم الإعداد للعملية حيث عبرت المجموعة المقاتلة إلى الضفة الشرقية للقناة حتى وصلت الى اماكن تجميع المعدات ومع الساعات الاولى من صباح يوم 5 يوليو أى بعد الهزيمة بشهر سمع دوى انفجارات كقنبلة ذرية صغيرة هزت المنطقة وشوهدت ألسنة اللهب من على مسافة 100 كيلومتر وسقط أفراد سرية المظلات الإسرائيلية الموجودة بالموقع بالكامل قتلى فى الانفجار كما دمرت العربات المدرعة والدبابات والمعدات الموجودة بالموقع أو بالقرب منه وعبر مروان الحكيم أحد أبطال القوات المسلحة القناة بهدف نسف قضبان السكة الحديد فى القنطرة شرق وتم نسفها وعليها قطار محمل بالذخيرة ليحدث زلزالا آخر فى الشمال وقرر العدو الرد باستئجار 5 مسجلين خطر من القنطرة ليعبروا القناة ويفجروا قضبان السكة الحديد غرب القناة وتمكنت القوات المصرية من القبض على ثلاثة أشقياء منهم وفر اثنان ليقيما فى القنطرة شرق تحت حماية الاحتلال وكلفت رجال المخابرات الحربية بالقبض عليهم، وبالفعل استطاعوا إحضار الخائنين بناء على أوامرى وتمت محاكمتهم وإعدام أحدهم وشنق الآخر نفسه داخل الزنزانة. عقب الهزيمة كانت قد انهارت الروح المعنوية لدى القوات وكان لابد من القضاء على صورة العفاريت الذين أخذوا سيناء فى ساعات، ولن يتحقق ذلك إلا بالعمل خلف خطوط العدو وإلحاق خسائر واضحة فى صفوفه يمكن للقوات الموجودة بالجبهة أن تراها لاسيما أن الخسائر البشرية هى الخسائر التى تؤثر على إسرائيل بشكل فادح قيادة وشعبا، غير أن عمليات فى عمق العدو تحتاج إلى وحدة خاصة يتميز كل افرادها بالكفاءة القتالية العالية والروح المعنوية والايمان العميق بالله والوطن. وبحسب أوراق اللواء محمد صادق اسند إلى المقدم أركان حرب ابراهيم الرفاعى مهمة تشكيل المجموعة القتالية وانتقاء أفرادها التى سوف توكل لها مهمة العمل خلف خطوط العدو وتكون تبعيتها لإدارة المخابرات الحربية حتى تبتعد عن تعقيدات القيادة العامة وتوفر لها فرصة التدريب والتسليح والإمكانيات التى تتطلبها خطط وبرامج العمل بالإضافة إلى الحرص على سرية المعلومات وخطط العمليات والقدرة على التنسيق المباشر مع مكاتب المخابرات الحربية المنتشرة فى أنحاء الجبهة ليصبح بذلك الفريق صادق الأب الروحى للمجموعة 39 قتال. وفى نوفمبر عام 1967 أدخل الإسرائيليون نوعا جديدا من الصواريخ الى الجبهة فى مواجهة الجيش المصرى وفشلت كل وسائل معرفة نوعية هذه الصواريخ كما فشل الاستطلاع بالنظر والتصوير الجوى فى ذلك ولم تقدم المخابرات السوفيتية إجابة وحتى الجاسوس الذى كان مستعدا لإحضار عينة من هذه الصواريخ طلب 2 مليون جنيه وكانت المجموعة 39 قتال هى الحل فكلفت الشهيد ابراهيم الرفاعى والحديث هنا متواصل للفريق صادق حسب أوراقه بالقيام بعملية بعد منتصف ليلة 13 نوفمبر حيث عبر الرفاعى ورجاله القناة وعادوا بثلاثة صواريخ دفعة واحدة. أما منظمة سيناء العربية والتى تأسست فى يوليو من نفس العام بمقترح تقدمت به للرئيس عبدالناصر ووافق عليه لتكون درع الحماية لعناصرالقوات المسلحة المصرية العاملة خلف خطوط العدو وتلهب ظهر القوات الإسرائيلية فى سيناء بالعمليات الفدائية، حيث تم دفع مجموعات تسمى (مؤخرة العدو) من رجال المخابرات والاستطلاع مكونة من فردين أو ثلاثة معهم أجهزة لاسلكى وبعض المعلبات والمياه وفى ظروف صعبة جدا كانوا يستمرون بالشهور داخل سيناء يراقبون تحركات العدو وانشاءاته وقدموا قصصا بطولية عظيمة فى الخفاء لا يعلم أهلهم عنها شىء بل إن بعضهم استشهد وبعضهم أسر وكانت أول العمليات هى عملية شرق ممر متلا فى 11 يوليو 67 واستمرت عشرة أيام وكانت عبارة عن ثلاث دوريات ظلت احدها بقيادة الملازم أول جميل حماد حتى 8 ديسمبر ومكثت لمدة 3 أشهر داخل سيناء يعاونها أبناء سيناء من أعضاء المنظمة. قامت منظمة سيناء العربية بمهاجمة أهداف العدو على مستوى النطاق التعبوى أو التكتيكى أو الاستراتيجى وبلغت العمليات الفدائية أكثر من 700 عملية منها على سبيل المثال تعرض مقر الحاكم العسكرى الاسرائيلى بالعريش ومكتب المخابرات الاسرائيلية ومطار العريش للهجمات من قبل الفدائيين من أبناء المنظمة ورجال الصاعقة كما تم تدمير أكثر من دورية راكبة للعدو بالألغام سواء على شاطئ خليج السويس فى أبوزنيمة ودهب والطور ووادى فيران أو مخارج ملاحات بورفؤاد المواجهة لرمانه وبالوظة بالاضافة الى تدمير العديد من خطوط المواصلات والمياه. قابل الرئيس عبدالناصر قادة منظمة فتح (ياسر عرفات، فاروق قدومى، وصلاح خلف) بالقاهرة وقال لهم إنى سوف أشعر بسعادة لا توصف لو استطعتم أن تمثلوا الشعب الفلسطينى والإرادة الفلسطينية على المقاومة سياسيا باشتراككم وعسكريا بأعمالكم ولماذا لا تكون فتح بالنسبة إلينا كما كانت جماعة شتيرن أو جماعة بيجن بالنسبة لليهود إن عليكم أن تكونوا سلاحنا غير الرسمى وعلى هذا الأساس سنقدم لكم كل ما نستطيع من عون، وطلب الرئيس عبد الناصر فى نهاية اللقاء أن تنطلق ولو رصاصة واحدة يوميا فى الأراضى المحتلة. فى الحلقة القادمة يستكمل الفريق صادق عرض مذكراته حول حرب الاستنزاف وتوليه رئاسة الأركان.