بعد ثلاثة أشهر من قيام ثورة 25 يناير الماضى.. وبالتحديد فى 16 أبريل.. أصدرت المحكمة الإدارية العليا حكمها التاريخى بإطلاق رصاصة الرحمة على الحزب الوطنى.. الذى ظل جاثما على صدورنا لمدة 33 عاما.. وفى نفس اليوم.. سلمت المحكمة محمد رجب آخر أمين عام للحزب شهادة وفاة الحزب ليتم حله، وأن تؤول أمواله ومقاره للدولة. ومنذ انطلاق هذه الرصاصة فى قلب الحزب الوطنى وحتى الآن.. تداعت عندى العديد من الخواطر والمواقف السياسية عن هذا الحزب المنحل.. الذى كنت شاهدا ومعاصرا لمولده فى أغسطس 1978 يوما بيوم. وقد طال بى العمر ومرت السنون الطوال حتى استمعت إلى رئيس المحكمة القاضى «مجدى العجاتى» وهو يعلن بكلمات واضحة تماما وفاة الحزب الوطنى الديمقراطى فى عام 2011.. لنطوى صفحة سوداء من تاريخنا الحزبى والبرلمانى سيتوقف أمامها المؤرخون والمحللون كثيرا، ويكتبون عنها مالها وما عليها! وأظن أن من حق شباب 25 يناير الذى فجر ثورة مصر على الفساد والظلم والدولة البوليسية أن يعرف بالضبط ماذا حدث فى هذه التجربة الحزبية التى عاشتها مصر من قبل على مدى 35 سنة.. لأننى أحسب أن شباب 25 يناير قد عاصروا فعلا وفاة الحزب الوطنى.. وشاهدوا بأعينهم وعلى شاشات الفضائيات ألسنة اللهب وهى تشتعل فى المبنى الرئيسى للحزب بكورنيش النيل فى أحداث الثورة.. ولكنهم لم يعاصروا بداية سنوات هذه التجربة الحزبية التى عشناها منذ أن بدأنا الاتجاه نحو التعددية الحزبية فى عام 1976 وإلغاء النظام الشمولى الذى كان ممثلا فى تنظيم واحد عرف باسم الاتحاد الاشتراكى ومن قبله الاتحاد القومى ومن قبلهما هيئة التحرير. وكان الاتحاد الاشتراكى يمثل تحالف قوى الشعب العاملة.. وهو أعلى سلطة فى البلاد.. وقالوا وقتها إن الانضمام له اختيار للمواطنين وليس إجباريا.. ولكن اتضح أن الهدف منه هو ضرورة موافقة قيادات الاتحاد الاشتراكى على كل من يريد الترشح لعضوية مجلس الأمة أو عضوية مجالس إدارات النقابات العمالية أو المهنية وكذلك عند التعيين لمنصب العمدة أو شيخ البلد! وأذكر أن الرئيس أنور السادات بعد انتصار حرب أكتوبر فى عام 1973 بدأ يفكر فى تطوير الاتحاد الاشتراكى الذى كان يعتبر التنظيم السياسى الأوحد فى مصر.. ولهذا قرر طرح عدة أفكار لتطوير هذا التنظيم الواحد من أجل دعم مسيرة الديمقراطية على حد قوله. وقال أيضا وقتها اننا خرجنا من مرحلة الشرعية الثورية إلى مرحلة الشرعية الدستورية وكان يقصد مرحلة الاستقرار الدستورى بعد صدور الدستور الدائم فى عام 1971 . وأثناء المناقشات التى كانت تتم فى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى ظهرت بعض الأفكار لعمل منابر داخل الاتحاد الاشتراكى نفسه.. وكانت الفكرة بالتحديد من عضو الاتحاد الاشتراكى محمود أبووافية (عديل الرئيس السادات) وكان نائبا فى مجلس الشعب أيضا. وقد أقر المؤتمر القومى للاتحاد الاشتراكى هذه الفكرة فى يوليو 1975.. وافق عليها السادات فى مارس 1976، ولكن بشرط أن يضم الاتحاد الاشتراكى هذه المنابر مع المحافظة على مكاسب العمال والفلاحين، والوحدة الوطنية بين المصريين. *** وأذكر أننا أصبنا بصدمة كبرى ومفاجأة لم نكن نتوقعها من كل هذا العدد الكبير الذى تقدم لتكوين منابر داخل الاتحاد الاشتراكى من كل الاتجاهات والأطياف السياسية حتى وصل العدد إلى 40 منبرا فى شهر واحد فقط! وغضب الرئيس السادات ولم يعجبه كل هذا العدد الضخم من المنابر وقرر أن يقتصر كل هذا العدد على ثلاثة منابر فقط هى: *منبر الأحرار الاشتراكيين ويمثل التيار اليمينى. *منبر مصر الديمقراطى الاشتراكى ويمثل تيار الوسط. *منبر التجمع الوطنى الديمقراطى ويمثل التيار اليسارى. وقد وافقت الهيئة البرلمانية للاتحاد الاشتراكى- والتى يمثلها أعضاء مجلس الشعب والبالغ عددهم 360 عضوا- على إقامة هذه المنابر بصورة نهائية. ولكن تمت الموافقة بعد ذلك على اقتراح د. رفعت المحجوب الأمين الأول للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى على تغيير مسمى المنابر إلى اسم التنظيمات. وقد أجريت انتخابات مجلس الشعب فى نوفمبر 1976 تحت هذا المسمى.. وكانت أنزه انتخابات برلمانية عرفتها مصر فى تاريخها.. وقد أدارها بنزاهة شديدة اللواء ممدوح سالم وزير الداخلية فى ذلك الوقت.. ولم تسجل فيها أى حالة تزوير واحدة لصالح أى مرشح! ويكفى القول بأن هذه الانتخابات أفرزت لنا العديد من زعماء المعارضة تحت القبة.. والذين صالوا وجالوا من أجل صالح المواطنين.. والدفاع عن مصالح الوطن.. وليس عن مصالحهم الشخصية وأذكر منهم النواب د. محمود القاضى والمستشار ممتاز نصار والمستشار عادل عيد وعلوى حافظ وكمال أحمد وقبارى عبد الله وأبو العز الحريرى وعبد الفتاح حسن ود. محمد حلمى مراد وكمال الدين حسين وخالد محيى الدين (عضوى مجلس قيادة الثورة). وغيرهم من النواب الكثّر الذين كانوا يهزون مقاعد الوزراء من تحتهم من خلال استجواباتهم وأسئلتهم وطلبات الإحاطة التى يقدمونها للحكومات فى ذلك الوقت. *** وأذكر أن الرئيس السادات فى الجلسة الافتتاحية لهذا المجلس- الذى تكون لأول مرة فى ظل التعددية والتى عقدت فى 11 نوفمبر 1976- أعلن عن تحويل مسمى هذه التنظيمات إلى أحزاب سياسية وإطلاق حرية الأحزاب للمواطنين بعد توقف دام 23 سنة عندما قرر مجلس قيادة الثورة حل الأحزاب فى يناير 1953 ومصادرة أموالها لصالح الشعب.. وبالتالى عادت الأحزاب مرة أخرى إلى مصر. وأصبح فى مصر ثلاثة أحزاب هى: حزب مصر العربى الاشتراكى ويرأسه ممدوح سالم، وحزب الأحرار الاشتراكيين ويرأسه مصطفى كامل مراد، وحزب التجمع التقدمى ويرأسه خالد محيى الدين. *** لكن كيف تحول حزب مصر إلى الحزب الوطنى برئاسة السادات وهرول أعضاء مجلس الشعب للانضمام إلى هذا الحزب حتى قبل أن يعلن السادات عن برنامجه؟.. وماذا عن الأزمة التى أثارها أستاذنا الكبير مصطفى أمين عن هذا الحزب الجديد وأغضبت السادات؟ هذا ما سوف نتعرض له فى خواطرنا القادمة إن شاء الله.