الفساد المالى يمكن تداركه ومحاصرته مع مرور الوقت والزمان، بينما الفساد الأخلاقى ليس من السهل تقويمه، وسرقة الأموال يمكن استردادها إنما كيف تمكن استعادة ما سرق من التاريخ، أو تم تزويره؟ فأكثر صعوبة على الإنسان أن يجد إنجازاته أو إسهاماته للمجتمع تنسب أو ينسبها لنفسه شخص آخر ، هذا ما حدث مع المؤرخ الدكتور مصطفى العبادى أستاذ الآثار بجامعة الإسكندرية والعالم الشهير فى تاريخ مصر فى العصر اليونانى الرومانى، والعضو الرئيسى فى مشروع إحياء مكتبة الإسكندرية هذا المشروع الذى استغرق منه سنوات طويلة من أجل إحيائه، وظل صابرا ومثابرا من أجل أن يخرج المشروع للنور، وبالفعل تمكن من رؤية هذا المشروع حقيقة واقعة أمامه فى أكتوبر عام 2002. ثم فجأة وبدون سابق إنذار يجد الدكتور أحمد فتحى سرور رئيس مجلس الشعب السابق ينسب لنفسه أنه صاحب فكرة إحياء مكتبة الإسكندرية عندما كان وزيرا للتعليم. وبسؤال الدكتور مصطفى العبادى عن شعوره عندما قرأ هذا الكلام؟ ضحك قائلا: لقد قرأت نكتة وضحكت، لأن الكل يعرف حكاية مشروع إحياء المكتبة ويعرفون دورى جيدا فى هذا المشروع، وما قاله رئيس مجلس الشعب السابق يدخل ضمن فساد النظام السابق بكل أوجهه حيث ظنوا أن البلد ملك خاص لهم، ونسبوا لأنفسهم أى إنجاز دون أى إحساس بالذنب. وأضاف: هذا النظام بدأ منذ عام 1952 وحتى الآن كما هو بأشكال وأساليب متعددة،استطاع إقناع المصريين بأنهم غير مستعدين للديمقراطية، وهو كلام عار تماما من الصحة بل إن من يقول إن المصرى لايصلح للديمقراطية هو نفسه غير مؤهل للديمقراطية، لأن الكلام صفة المتكلم. وقال: خرجت فى مظاهرات وأنا طالب بالثانوية ضد الملك من أجل الديمقراطية، وكنا نمارسها بشتى صورها، وأتذكر ناظر مدرسة الرمل الثانوية «الناصرية فيما بعد» - وهو أحمد بك الحكيم وكان ابن عم توفيق الحكيم - عندما قام بفصل الطالب «شريف ذو الفقار» شقيق الملكة فريدة لمدة أسبوع لأنه جاء إلى المدرسة ودخل الفناء بسيارته الخاصة، ولم يحدث له شىء أو يلومه أحد، فماذا كان يمكن أن يحدث لو تم موقف مثل هذا فى نظام مبارك؟ مضيفا: لقد فسدت الإدارة المصرية كلها فسادا شديدا، وبعد إصابتها بحالة من اليأس والانكسار قام الشباب بكسر حاجز الخوف ونحن الآن فى مرحلة حاسمة وهو ما يجعلنى متفائلا، وكل ما أتمناه ان يقوم النظام الجمهورى البرلمانى فى مصر حتى يمنع قيام ديكتاتور جديد لأننا ضعاف أمام السلطة والأموال، وحتى أمنع الفرصة لهذا الإغراء، فهناك مثل إنجليزى يقول: «القوة مفسدة والقوة المطلقة مفسدة مطلقة». من هنا كانت البداية/U/ وعن بداية فكرة إحياء مكتبة الإسكندرية يروى د.العبادى الحكاية ل «أكتوبر» مستشهدا بما قاله الدكتور طه حسين فى افتتاح جامعة الإسكندرية فى أكتوبر 1942 حينما ألقى الدكتور طه حسين كلمة مهمة أمام الملك فاروق وكانت الحرب العالمية على أشدها، ومنها فقرة هامة حيث قال: «..وقديما يا مولاى قال هيرودوت مصر بلد العجايب، وها نحن أولاء فى خضم حرب عالمية وقوات الحرب على مرمى منا، تتصارع عند العلمين ونحن نؤسس جامعة من أجل المعرفة والمستقبل والسلام». موضحا أن بلد العجايب، التى تحدث عنها هيرودوت ومن بعده طه حسين استطاعت تنفيذ مشروع إحياء مكتبة الإسكندرية، هذا المشروع الذى كانت تصاحبه رعاية إلهية، لأنه مر بمشاكل عديدة وظروف صعبة وكان يمكن أن يتوقف لأسباب كثيرة، إلا أن هذه الرعاية الإلهية كانت صاحبة الكلمة العليا فى إنهاء المشروع وخروجه للنور، وهو ما سأشرحه لك تفصيلا.. فالحكاية بدأت فى نوفمبر 1972 فى محاضرة عامة بنادى أعضاء هيئة تدريس جامعة الإسكندرية بدعوة من الدكتور لطفى دويدار، قلت فيها « إذا كانت جامعة الإسكندرية تريد الاستنارة والاستزادة علميا وفكريا فلابد أن تؤسس مكتبة لأن ظروف الحرب أثناء افتتاح جامعة الإسكندرية لم يجعل هناك فرصة لعمل مبنى خاص للمكتبة»، وتحمس لكلمتى وقتها الدكتورفؤاد حلمى أستاذ الهندسة والعمارة، ونائب رئيس الجامعة وقتها، وكانت هذه المحاضرة بمثابة اللبنة الأولى للمشروع، فبدأنا أنا ولطفى دويدار وفؤاد حلمى، فى البحث عن أرض لتنفيذ هذا المشروع، وكان أمامنا ثلاثة أماكن: أرض كوته، ومكان المكتبة الحالى، وارض مصطفى كامل وكانت تابعة للجيش وبها أكشاك للجنود الإنجليز، واقترحت وقتها أرض مصطفى كامل ولكن وجود الجيش بها وظروف الحرب حالت دون ذلك، وكنا وقتها فى 1974، واخترنا الموقع الحالى للمكتبة نظرا لأنه أكبر مساحة من أرض كوتة، وكانت ملكا للجامعة ومرت سنوات توقفت فيها الفكرة بسبب ظروف البلد، وفى أوائل الثمانينات بدأنا نعيد الموضوع مرة أخرى، وفى عام 1984 قام الدكتور فريد مصطفى رئيس جامعة الإسكندرية وقتها بتكوين لجنة ثلاثية لدراسة مشروع إحياء المكتبة، وتكونت اللجنة منى، والدكتور لطفى دويدار والدكتور محسن زهران، لأن الدكتور فؤاد حلمى كان قد رحل، وكان من المهم أن يكون لدينا أستاذ فى الهندسة باللجنة، وكان اليونسكو يريد خطابا موجها من الحكومة لتتم دراسته بشكل جدى، ويأتى هنا دور جندى مجهول من الجنود الذين ساعدوا فى إحياء الفكرة وتنفيذها وهو الدكتور مصطفى كمال حلمى وزير التعليم الأسبق، وطلبنى وقال لى إن هناك وزراء فى الوزارة ضد المشروع لأنهم يرون أننا يجب ألا نطلب من اليونسكو المساعدة فى إنشاء مكتبة ولكنه طلب منى كتابة صيغة الخطاب وسوف يقنع المجلس بإرساله لليونسكو وننتظر رد اليونسكو . وكانت المفاجأة أن اليونسكو أخذت الموضوع بشكل جدى، وأرسلوا اثنين من المتخصصين فى مجال المكتبات من فرنسا وسويسرا ليقابلا اللجنة، وليريا الوضع، وطلبا منا معرفة حالة المكتبات فى مصر عموما، فقمت بعمل تقييم لأهم مكتبات فى مصر وهى: مكتبة جامعة القاهرة، ومكتبة دار الكتب بالقاهرة، ومكتبة البلدية بالإسكندرية وقدمته للجنة اليونسكو. حرب باردة/U/ تابع العبادى: بعد مرور عامين، بالتحديد فى 1986 كان مدير اليونسكو أفريقيا من السنغال هو «أحمد مختار أمبو» وهو الوزير سابقا للتعليم فى بلده وكانت له مواقف تتميز بالليبرالية وذو نزعة إنسانية، وساعد عددا من دول العالم الثالث واصطدم مع أمريكا ووصل فى خلاف معها إلى أن قامت أمريكا بتجميد عضويتها فى اليونسكو ووراءها إنجلترا، وسحب البلدان تمويلهما وأصبحت حربا باردة على المستوى الثقافى. وفى مارس 1986 أبلغنى الدكتور فريد مصطفى رئيس جامعة الإسكندرية أن مختار أمبو مدير اليونسكو سوف يحضر لمقابلتنا بخصوص مشروع المكتبة، بالفعل تقابلنا بمبنى الجامعة وكان يوم جمعة، وقد أثر هذا الرجل فينا بكلماته حيث قال: «أنا لا أملك مالا ولاسلطة لكن أنا أؤيد هذا المشروع بكل ما أملك من عزيمة وإرادة لأنى مؤمن بأن هذا المشروع إذا نفذ بمستوى الفكرة التى أوصت به، فربما يغير الخريطة الثقافية بالمنطقة بأسرها « كانت كلمة مشجعة جدا، وأذكر أنه نصحنا باستخدام كلمة «إحياء مكتبة الإسكندرية القديمة» وليس فقط إنشاء مكتبة الإسكندرية، موضحا أننا أصحاب مشروع إنسانى وفكرى رائد فى تاريخ الإنسانية وهو مكتبة الإسكندرية القديمة وبالتالى يجب التركيز على إحيائه. وفى يونيه 1986 تم عرض المشروع على المجلس التنفيذى لليونسكو للتصويت وكان عدد أعضائه 51 عضوا وتمت الموافقة بأغلبية 49 صوتا ورفض اثنين فقط، أما الصوتان اللذان رفضا فهما: إسرائيل،وجنوب أفريقيا (قبل مانديلا). ولعلنا هنا نرجع لموضوع العناية الإلهية حيث إن أمريكا وإنجلترا كانتا مجمدتين لنشاطهما وكانتا يمكن بإيعاز من إسرائيل أن تتدخلا تدخلا كبيرا لوقف المشروع أو لعدم التصويت عليه، وأيضا فرنسا كانت تدعم أمبو، وبالتالى تمت الموافقة فى جلسة تاريخية. دور سرور/U/ وأضاف: فى عام 1987 قام اليونسكو بدعوتى لإدارة ندوة علمية فى باريس حول مكتبة الاسكندرية القديمة ومشروع إحيائها، وكان الدكتور أحمد فتحى سرور وزيرا للتعليم وقتها وتمت دعوته بصفته وزيرا للتعليم، وأذكر أن الدكتور سرور لم يكن موفقا حتى فى كلمته حيث إنه تحدث عن الفرق بين ثقافة الشرق وثقافة الغرب، وأن الغرب حضارته وثقافته مادية بينما نحن لدينا روحانيات وإنسانيات، قال هذا وهو يتحدث فى باريس عاصمة النور ولو كان نظر من الشرفة لرأى قوس الثورة الفرنسية بكل فلاسفتها ومفكريها الذين يؤمنون بالإنسان. ثم وضع حجر الأساس للمشروع فى عام 1988، بإشراف اليونسكو وأذكر أننى قابلت وقتها المشير عبد الحليم أبو غزالة وكان وزيرا للحربية وقتها، وقلت له إن مصممى المشروع من النرويج أوصوا بتخصيص مكان السلسلة على الكورنيش وهو تابع للقوات المسلحة فرد قائلا: هذا المكان ليس له قيمة للجيش، ولكن من يريد المكان عليه أن يشتريه، وعندما سألته عن السعر قال 8 ملايين جنيه، وهذا طبعا كان عام 1988، ولم يكن لدينا أموال تكفى لشراء المكان. وفى نفس العام طلب منى اليونسكو أن أؤلف كتابا عن مكتبة الإسكندرية واتفقت معهم أن يكون هذا الكتاب بثلاث لغات الإنجليزية والعربية والفرنسية، على أن أقوم أنا بكتابة النسختين العربية والإنجليزية ويتولون هم ترجمة الكتاب بالفرنسية. وفى 1990 تمت الدعوة لاجتماع أسوان الشهير الذى تم خلاله الدعوة لإحياء مكتبة الإسكندرية ومشاركة العالم كله فى هذا المشروع الحضارى المهم وحضره مدير اليونسكو وقتها «فيديريكو مايور» الأسبانى الذى جاء بعد أمبو وكان أيضا متحمسا للمشروع وهو من كتب مقدمة كتابى عن مكتبة الإسكندرية الذى طلبه اليونسكو. أيضا الدكتور فتحى سرور حضر اجتماع أسوان بصفته وزيرا للتعليم، حتى أنه سألنى فى هذا الاجتماع عن كتابى الذى ألفته عن مكتبة الإسكندرية، فقلت له الكتاب موجود باليونسكو يمكنك طلبه منهم. الجدير بالذكر أننى دعيت لاجتماع أسوان بدعوة من اليونسكو وليس من الحكومة المصرية. والآن يأتى فتحى سرور ليقول إنه صاحب فكرة إحياء مكتبة الإسكندرية أو حتى شارك فيها وهى نكتة ضحكت عليها كثيرا، لأن حضوره الاجتماعات كان بصفته وزيرا وأى شخص مكانه كان يتولى منصب وزير التعليم كان سيحضر الاجتماع لكنه لا علاقة له بمشروع إحياء المكتبة من قريب أو بعيد. ثم جاءت حرب العراق 1990 وكانت الأوضاع فى المنطقة غير مستقرة، فمرت السنوات ثم بدأت اللجنة عملها بجدية من جديد وتولى د. محسن زهران إدارة المشروع حتى جاء الدكتور إسماعيل سراج الدين ليتولى إدارة المكتبة فى 2001، وهو إنسان مثقف ويتمتع بقبول دولى كبير، وله شعبية فى الخارج واتصالات قوية واستطاع سراج الدين أن يعطى واجهة براقة للمكتبة. ومن الطرائف أنه فى عام 2001 وأثناء الإعداد للافتتاح الرسمى لمكتبة الإسكندرية تم عمل العديد من الحوارات معى عن مشروع المكتبة، ولكنى فوجئت بأن أحد كبار الصحفيين الذين ينتمون للحكومة، يكتب مقالا كبيرا عن المكتبة ويقول منافقا لسوزان مبارك «إن الدكتور مصطفى العبادى عندما دعا لمشروع مكتبة الإسكندرية كان يقرأ أفكار سوزان مبارك» فى نفاق واضح، وقتها ضحكت كثيرا، فقد كنت أقرأ أفكارها منذ عام 1972. وقال:ما أتمناه لمكتبة الإسكندرية أن تصبح مركزا للبحث العلمى على المستوى العالمى، وهذا امر ليس سهلا ويحتاج إلى أموال طائلة، ولكن لو استطعنا عمل ذلك فيمكن أن تشهد مصر تحولا علميا كبيرا فى السنوات القادمة. ويختتم الدكتور مصطفى العبادى كلامه قائلا: لابد أن نعرف أن هناك جنودا مجهولين ساهموا فى إطلاق مشروع مكتبة الإسكندرية مثل «جالك توكتليان» وهو أرمانى من مواليد الإسكندرية وكان يتولى إدارة المشروعات باليونسكو وهو شاعر ومثقف وكان متحمسا جدا لمشروع المكتبة الذى اعتبره رد جميل لحبه للإسكندرية التى كتب أشعاره عنها، بالإضافة بالطبع لمختار أمبو مدير اليونسكو الأسبق، والدكتور مصطفى كمال حلمى وزير التعليم الأسبق، وآخرين عديدين قد لا تسعفنى الذاكرة فى ذكرهم الآن.