كانت حجة إسرائيل “المعلبة” والجاهزة للشحن إلى أى مكان فى العالم، لكى تبرر تهربها من عملية السلام.. أن الفلسطينيين منقسمون على أنفسهم، وأنه من المستحيل التفاوض مع نصفهم والاتفاق معهم على سلام.. يأتى نصفهم الثانى فينقضه فى اليوم التالى!.. وكان السؤال الذى يتشدق به قادة إسرائيل ويرددونه فى كل مناسبة وبغير مناسبة هو: مع من نتفاوض؟.. من الذى يمثل الشعب الفلسطينى.. حماس أم السلطة؟!.. وكان انقسام الفلسطينيين وصراعهم هو طبق الذهب الذى قدموا عليه لإسرائيل.. حجتها “المعلبة”!.. بعد المصالحة الفلسطينية تغيرت المعادلة ولم تعد الحجة تنفع إسرائيل كمبرر للتهرب من عملية السلام.. صحيح أن المصالحة الفلسطينية لم تكن لوجه الله.. وأن ما يحدث فى سوريا.. الداعم الرئيسى لحماس.. فرض عليها - حماس - إعادة حساباتها والإسراع بالمصالحة.. لكن هذه ليست قضيتنا.. المهم أن الفلسطينيين لم يعودوا منقسمين.. فماذا فعلت إسرائيل؟!.. إسرائيل لم يعجبها بالطبع اتفاق الفلسطينيين فأبدى قادتها استياءهم من هذه الخطوة.. ولم يكتفوا بالاستياء وإنما سارعوا بالإعلان عن بناء 1500 منزل جديد فى القدسالشرقية.. وليس هناك هدف آخر إلا تنفيذ المخططات الإسرائيلية.. وضرب المصالحة الفلسطينية!.. صحيح أن سياسة بناء المستوطنات قديمة لكن إعلان إسرائيل عن بناء 1500 وحدة سكنية فى القدس فى هذا التوقيت له دلالته الخاصة.. المسألة فى الواقع لا تقتصر على هذا الإعلان.. ففى أعقاب المصالحة الفلسطينية تحولت تصريحات القادة الإسرائيليين عن المستوطنات والاستيطان إلى نوع من الهستيريا السياسية!.. موشى يعالون وزير الشئون الاستراتيجية الإسرائيلية هاجم تصريحات رئيس الوزراء نتنياهو التى عبّر فيها عن نيته إبقاء تواجد عسكرى إسرائيلى بالضفة الغربية على حدود نهر الأردن.. فى أية تسوية مستقبلية مع الفلسطينيين.. يعالون قال: إن كلام نتنياهو معناه أنه ينوى إخلاء المستوطنات القريبة من نهر الأردن.. الأمر الذى أرفضه وبشدة.. لأن هذه المستوطنات يجب أن تبقى جزءاً من السيادة الإسرائيلية.. وإلى الأبد!.. فى نفس الوقت طلب حزب الليكود الإسرائيلى من رئيس الوزراء نتنياهو ضم مناطق الضفة الغربية التى تضم المستوطنات الإسرائيلية.. الحكومة الإسرائيلية نفسها أعلنت عن خطة - هى الأولى من نوعها - فى تاريخ المشروع الاستيطانى.. تهدف إلى تحصين وتعزيز أمن المستوطنات والبؤر الاستيطانية فى الضفة الغربية.. أما تكلفة الخطة التى تريد الحكومة الإسرائيلية اعتمادها فتصل إلى مليار شيكل إسرائيلى!.. وكالعادة تتفوق وقاحة ليبرمان وزير الخارجية الإسرائيلى على الجميع فيصدر تصريحا من نوع «مستفز جداً» يقول فيه إن إسرائيل لن تقوم بتجميد بناء المستوطنات ولو حتى لثلاث ساعات!.. وليس الهدف كما ذكرت إلا أن تنفذ إسرائيل خططها ومخططاتها.. وتضرب المصالحة الفلسطينية.. فمن المؤكد أن استمرار الحكومة الإسرائيلية فى بناء مستوطنات جديدة.. خاصة فى القدس.. وإصرارها على عدم تجميد بناء المستوطنات - حتى خلال فترة التفاوض مع الفلسطينيين - والإعلان عن خطط مستقبلية بشأن المستوطنات.. من المؤكد أن ذلك كله سيكون له رد فلسطينى وإجراءات.. ليس بالضرورة أن تتفق عليها حماس والسلطة.. بل إن الأرجح هو أنه سيكون عليها خلاف بين الاثنين!.. وأرجو أن يعتبر القارئ أن كل ما ذكرت هو مقدمة طويلة للحديث عما جرى فى مصر فى الأيام الأخيرة.. أو تحديداً المظاهرات التى أحاطت بالسفارة الإسرائيلية فى القاهرة وحاولت اقتحامها!.. * * * تزامنت المظاهرات والاعتصامات التى جرت حول السفارة الإسرائيلية مع ذكرى النكبة الفلسطينية.. الذكرى بالطبع مناسبة حاول من خلالها الكثيرون التعبير عن غضبهم من الممارسات الإسرائيلية تجاه العرب على وجه العموم والفلسطينيين على وجه الخصوص.. خاصة أن هناك انطباعاً فى الشارع المصرى الثائر أن النظام السابق كان على وفاق تام مع إسرائيل.. وأنه كان يساعدها على تنفيذ مخططاتها!.. هل هذا الانطباع صحيح أم خاطئ؟!.. ليست هذه هى قضيتنا.. وإنما قضيتنا هى ما حدث حول السفارة الإسرائيلية.. والذى ساهم بدوره فى إضافة مزيد من الضربات الموجعة لاستقرار الشارع المصرى واستعادة هدوئه!.. خاصة أنه تم اعتقال عدد من المتظاهرين والمعتصمين بالإضافة إلى إصابة عدد غير قليل منهم!.. ماذا حدث؟!.. هاجم عدد كبير من الشباب مقر السفارة الإسرائيلية بالقاهرة فى منطقة كوبرى الجامعة بالجيزة وحاولوا اقتحامها.. وراح المتظاهرون يرددون شعارات يطالبون من خلالها بقطع العلاقات فوراً مع إسرائيل وطرد السفير الإسرائيلى بالقاهرة.. والأهم إلغاء اتفاقية السلام!.. ولا أظن أن إسرائيل تريد أكثر من ذلك!.. * * * منذ قيام ثورة يناير.. وخلال الأيام الأولى من نجاحها.. طرحت إسرائيل مخاوفها على العالم حول مستقبل اتفاقية السلام.. وكان غريبا أن تعلن الصحف الأمريكية عن استطلاع للرأى فى مصر يؤكد أن 56% من الشعب المصرى يريدون إلغاء المعاهدة!.. اليهود فى أمريكا يجيدون لعبة استطلاعات الرأى.. لكن هل جرى بالفعل هذا الاستطلاع؟.. وكيف استطاعت الجهة التى قامت بهذا الاستطلاع.. القيام به فى ظل ظروف الفوضى والغياب الأمنى فى مصر؟!.. الاحتمال الأكبر أنه استطلاع «مفبرك» هدفه أن تجذب إسرائيل أنظار العالم لقضية خطيرة تبعده عن سياستها الاستيطانية وموقفها المتعنت من عملية السلام!.. إلغاء اتفاقية السلام فى هذا التوقيت يفتح باب الاحتمالات واسعا لقيام حرب بين مصر وإسرائيل.. فهل مصر مستعدة الآن لهذه الحرب؟!.. لا أتحدث هنا عن قدرات القوات المسلحة المصرية ولا عن استعداداتها للدفاع عن حدود وأراضى مصر.. فمن المؤكد أنها قادرة على ذلك.. خاصة أننا سمعنا تصريحات من مسئولين عسكريين يؤكدون من خلالها أن الوحدات العسكرية المنتشرة فى شوارع المدن المصرية.. ومعظمها من الشرطة العسكرية ليس لها تأثير كبير على قدرات القوات المسلحة.. ومع ذلك فإن هناك قاعدة عامة يعرفها الخبراء العسكريون وهى أن من يختار توقيت الحرب - وليس الذى يفرض عليه هذا التوقيت - هو عادة الذى يحقق الانتصار!.. فلماذا نترك الفرصة لإسرائيل لكى تجد المبرر والعذر لشن حرب تختار هى توقيتها؟!.. فى نفس الوقت فإننا لا نستطيع أن ننكر أن الجيش يتحمل مسئولية الأمن إلى حد كبير فى ظل ظروف الانفلات الأمنى.. صحيح أن هذه المسئولية لا تقلل من قدراته لكن الحرب تحتاج إلى تركيز وتفرغ.. ثم لابد بعد ذلك أن نسأل أنفسنا: هل تسمح ظروفنا الداخلية بدخول حرب؟!.. أتحدث هنا عن الجبهة الداخلية والتى لا تقل أهمية عن جبهة خط النار.. وأظننا نذكر - أو على الأقل سمعنا - عن خطط تأمين الجبهة الداخلية خلال حرب أكتوبر المجيدة والتى كانت جزءاً من خطة الحرب.. فهل يتم استدراجنا إلى حرب وجبهتنا الداخلية بهذه الفوضى؟!.. لكن هل معنى إلغاء اتفاقية السلام وقوع حرب بين مصر وإسرائيل؟!.. إلغاء الاتفاقية يمكن أن يكون السبب الرئيسى لنشوب هذه الحرب.. وقد يكون العامل الوحيد.. ليس لأن مصر تريد الحرب وإنما لأن إسرائيل تبحث عن أى حجة تنفذ بها مخططاتها الاستيطانية وتتنصل بها من عملية السلام مع الفلسطينيين.. وليس هناك أفضل من حجة الحرب مع دولة لها حجم وثقل مصر.. ثم إن إسرائيل لها مآرب فى سيناء فهى تطمع فى استقطاع جزء منها لتهجير الفلسطينيين إليها بحيث تنفرد هى بكل الغنيمة.. الضفة وغزة والقدس.. وكل فلسطين.. فلماذا لا يكون من بين مخططاتها الاستيلاء بالحرب على هذا الجزء من سيناء لإقامة الدولة الفلسطينية؟!.. بعد ذلك كله وربما قبله فإن إسرائيل يهمها أن تتحول مصر إلى دولة ضعيفة.. ويهمها أيضاً أن تحظى ثورة يناير بسمعة دولية سيئة.. إسرائيل تريد أن يقول العالم ويردد أن الثورة المصرية تخالف القانون الدولى ولا تحترم المواثيق والاتفاقيات الدولية.. ولذلك كان المجلس العسكرى حريصاً فى أول أيام الثورة على التأكيد على أن مصر تحترم اتفاقياتها الدولية.. وإذا كان الذين وقّعوا الاتفاقيات قد تغيروا وزالوا.. فإن مصر باقية لن تزول!.. * * * الفلسطينيون بانقسامهم قدموا لإسرائيل الحجة والذريعة على طبق من ذهب لكى تنفذ مخططاتها وتتنصل من السلام.. فهل نساعد إسرائيل ونلعب لصالحها ونقدم لها الذريعة لكى تتهرب من السلام فتضيع فلسطين للأبد؟.. مجرد سؤال!..