إنتهت الأجواء الاحتفالية الصاخبة التى صاحبت عملية إطلاق المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.. انفض المولد وبدأ الطرفان يدخلان أجواء الهم والغم استعدادا للمهمة الصعبة والثقيلة!.. ومنذ الآن وصاعدا سوف يجتهد الجميع فى التنبؤ بما سيقع والقفز فوق حاجز الزمن للتكهن بما ستسفر عنه نتائج هذه المفاوضات.. وعلى الرغم من أن الطرفين اتفقا على كتمان السر والاحتفاظ بتفاصيل ما يدور بينهما على مائدة المفاوضات داخل خزائن الأسرار.. إلا أن ذلك لن يمنع المجتهدين من الجرى وراء الاحتمالات والتكهن بالنتائج والتنبؤ بمسار الأحداث!.. وبقدر ما تبدو المفاوضات صعبة وشاقة بقدر ما يبدو التكهن بنتائجها والتنبؤ بما ستنتهى إليه صعبا ومستحيلا.. ذلك أن احتمالات النجاح تتساوى مع احتمالات الفشل.. لكن ماذا لو أن المفاوضات نجحت؟!.. ماذا لو اتفق الطرفان واستطاعا الوصول بقطار التسوية إلى المحطة التى يأمل الجميع أن يصلها؟!.. هل سيوافق الفلسطينيون على ما اتفق عليه الفلسطينيون؟!.. هل ستوافق حماس على النتائج التى ستتوصل إليها السلطة؟.. أم أن المفاوضات بين السلطة وإسرائيل لابد وأن يعقبها مفاوضات بين السلطة وحماس؟!.. وإذا كانت المفاوضات بين السلطة وإسرائيل هى مفاوضات بين أعداء.. وإذا كانت المفاوضات بين السلطة وحماس هى مفاوضات بين أخوة وأشقاء.. فأيهما سيكون أصعب.. مفاوضات الإخوة أم مفاوضات الأعداء؟!.. والحقيقة أن مفاوضات الأعداء صعبة لدرجة يصعب فيها أن تتفاءل أو تتشاءم!.. أو لعل التعبير الأكثر دقة هو أن التفاؤل بالنسبة لها يتساوى مع التشاؤم!.. المتفائلون من الجانب الفلسطينى يقولون إن هناك ارتياحا حقيقيا بسبب حرص أمريكا على طمأنة الجانب الفلسطينى إلى جدية واشنطن فى السعى إلى حل جميع قضايا الوضع النهائى.. كما أن تصريحات هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية نزلت بردا وسلاما على الفلسطينيين حيث أكدت التزام أمريكا بدولة فلسطينية قابلة للحياة.. وقالت إن القدس يمكن أن تتحول إلى رمز للسلام والتعاون بين الإسرائيليين والفلسطينيين فى حال تمكنوا من حل النزاع المزمن فى الشرق الأوسط.. فى إشارة واضحة إلى التزام أمريكا بأن تكون القدس عاصمة للدولتين.. أما المتفائلون من الجانب الإسرائيلى - مثل سفير إسرائيل فى العاصمة الأمريكية مايكل أورين.. فيؤكدون أن لقاءات واشنطن كانت جدية وصريحة وأن النوايا جيدة والرغبة قوية فى التوصل إلى اتفاق سلام.. لكن كيف نصدق هذا التفاؤل ونثق به ونعتمد عليه فى التكهن بنتائج المفاوضات والتنبؤ بمسارها وهناك من يرفع راية التشاؤم.. من الجانبين!.. *** أكد الرئيس الفلسطينى محمود عباس أنه لن يتنازل عن الثوابت الفلسطينية للتوصل لاتفاق سلام مع الجانب الإسرائيلى.. وقال بالحرف الواحد إذا طلبوا تنازلات عن حق اللاجئين وعن حدود 1967 فإننى سأرحل ولن أقبل على نفسى أن أوقع تنازلا واحدا!.. كلام الرئيس الفلسطينى واضح ولم يأت من فراغ ولابد أنه يعكس مخاوف من ضغوط تدفع للتنازل.. فى كل الأحوال كلام الرئيس الفلسطينى لا يدعو إلى التفاؤل ويعبر عن مخاوف.. المخاوف وعدم التفاؤل لا يهمان الجانب الإسرائيلى لكنه يرى فى كلام الرئيس محمود عباس نوعاً من التهديد لإسرائيل!.. وردا على هذا التهديد أصدر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو بيانا جاء فيه أن تصريحات محمود عباس وغيره من القادة الفلسطينيين فى اليومين الأخيرين تتضمن لغة تهديدات وكراهية لا تتماشى مع التصريحات التى أدلى بها خلال قمة واشنطن.. وأضاف البيان أن لإسرائيل مبادئ وثوابت مقدسة مثلما هو الوضع عليه بالنسبة للفلسطينيين.. وصنع السلام يتطلب إبداء الشجاعة والرؤية التاريخية والموافقة على المجازفة والتوصل إلى حلول وسط مؤلمة.. ومضى البيان إلى ما هو أبعد وأكثر تشاؤما فجاء فيه أن التهديد الفلسطينى يسد الباب كلما دار البحث حول حق تقرير المصير.. وهو ما يدل على التملص والتهرب والجبن (!!!).. ويجىء وزير الخارجية الإسرائيلى ليبرمان فيزيد الطين بلة ويدفعنا دفعا إلى الوقوف فى جانب المتشائمين!.. يقول ليبرمان: إن الآمال المعقودة على هذه المفاوضات مُبالغ فيها وخطيرة ولا يمكن التوصل إلى حل دائم خلال عام أو حتى خلال جيل!.. وأضاف ليبرمان أنه من غير الممكن حل قضايا معقدة مثل القدس واللاجئين والمستوطنات والاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودى.. خلال عام واحد.. وكأنه يؤكد تشاؤمه ويحاول أن يصيبنا بعداوه فيقول: إن تجديد المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية هو عملية سابقة لأوانها.. فالولادة المبكرة تعرض حياة الأم والجنين للخطر.. وأى محاولة لتسريع العملية السياسية بشكل اصطناعى سوف تعرض الطرفين للخطر ولذلك يتحتم على السياسيين أن يتحملوا المسئولية وألا يتعلقوا بالأوهام.. ويجب خفض سقف التوقعات إلى مستواها الحقيقى والعملى.. وكأن ليبرمان يريد منا أن نكفر تماما بفكرة تحقيق أى سلام فيقول: إن الأمر الوحيد الواقعى الذى يمكن إنجازه هو «تسوية مؤقتة طويلة المدى»!.. فنحن نتحرك بسرعة أكبر من اللازم فى حين أن الأمور يجب أن تتطور بشكل طبيعى.. ولم يفت وزير الخارجية الإسرائيلى.. المعروف عنه تطرفه وكرهه للفلسطينيين أن يوجه سهامه السامة للرئيس الفلسطينى محمود عباس.. فيقول: إنه لا يصلح شريكا فى مفاوضات السلام لأنه متطرف ولأنه لا يستطيع تمثيل الشعب الفلسطينى.. وأن سلطته مهتزة وغير مستقرة.. وأنه لم يأت للمفاوضات إلا بعد أن ضغطت عليه الولاياتالمتحدة. وتساءل ليبرلمان: من يمثل أبومازن.. حماس أم السلطة؟!.. الحقيقة أنه لا يمثل أحدا!.. وهكذا تسمع كلام المتشائمين فتجد أن السلام بعيد وأن تحقيقه وهم أكبر منه حقيقة.. لكن هناك من يتمسك بالتفاؤل ويدفعنا للتمسك به مثل وزيرة الخارجية الأمريكية التى أعلنت أنها ستكرس وقتا وجهدا أكبر لتسوية الصراع الإسرائيلى الفلسطينى خلال فترة المفاوضات التى تؤكد أنها لن تزيد على عام.. وأكثر من ذلك فقد أكدت هيلارى أنها ستحضر معظم اللقاءات الثنائية بين نتنياهو وأبو مازن وأنها ستسافر إلى إسرائيل خصيصا فى إطار السعى لإيجاد تسوية لموضوع تجميد البناء الاستيطانى.. هل نصدق المتفائلين.. أم نصدق المتشائمين؟!.. السؤال صعب والإجابة أصعب.. لكن ماذا لو حدثت المعجزة ونجح الطرفان الفلسطينى والإسرائيلى فى التوصل إلى اتفاق سلام؟.. هل سيوافق الفلسطينيون على ما اتفق عليه الفلسطينيون؟!.. هل ستوافق حماس على الاتفاق الذى توصلت إليه السلطة.. أم أن الأمر سيحتاج إلى مفاوضات بين السلطة وحماس؟!.. *** ليس خافيا على أحد أن إيران هى الحاضر الغائب فى المفاوضات المباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.. إيران أعلنت «يوم القدس» وراحت تردد مع حماس وحزب الله أن المفاوضات ولدت ميتة وأن المشاركين فيها من الفلسطينيين لا يمثلون شعبهم وقراراتهم لن تلزم أحداً.. إذا فشلت المفاوضات ربحت إيران.. هذا هو بيت القصيد وهذا هو ما تسعى إليه إيران لكى تظل القضية الفلسطينية ورقة ضغط تستخدمها إيران ضد أمريكا فى صراعهما على ملف طهران النووى.. حماس هى صوت إيران.. ولذلك وصفت المفاوضين الفلسطينيين بالخونة وحاولت إفشال المفاوضات من قبل أن تبدأ بعملية عسكرية قتلت خلالها أربعة من الإسرائيليين.. والمعضلة الحقيقية هى عدم اتفاق السلطة وحماس.. وسوف يزداد الخلاف بين «الإخوة» ويتعمق أكثر إذا ما توصلت السلطة إلى اتفاق مع الإسرائيليين.. فمهما كانت ملامح هذا الاتفاق وحتى مع افتراض أنه سيحقق طموحات الفلسطينيين فلن يكون مرضيا لحماس التى ستعترض وستعلن أنها غير ملزمة بما اتفقت عليه السلطة.. وقد يحتاج الأمر إلى مفاوضات أخرى بين السلطة وحماس للتوصل إلى حل.. وأغلب الظن أن هذه المفاوضات لن تصل إلى نتيجة..! أظننا نذكر أن «الإخوة» فشلوا فى التوصل إلى التوقيع على اتفاق المصالحة الفلسطينية.. وأظننا نذكر أن محاولات التوفيق بينهما استمرت سنوات طويلة.. وفى كل مرة يقترب فيها الطرفان من المصالحة.. تهب العواصف وتنطلق الأعاصير ويعود كل طرف فيطلق رصاص التصريحات على الطرف الآخر!.. فى كل مرة نتصور أن المصالحة وشيكة.. لكنها حماس التى كلما اقتربت من المصالحة.. ابتعدت!.. السلطة وحماس فشلا حتى الآن فى لم الشمل فهل تنجح المفاوضات بينهما للاتفاق على ما يتفق عليه المفاوضون الفلسطينيون مع المفاوضين الإسرائيليين؟!.. *** تبدو المسألة وكأن المفاوض الفلسطينى سيكون الخاسر الوحيد.. فهو يتفاوض حول اتفاق لا يضمن تنفيذه.. وهو فى موقف تفاوضى ضعيف لأن الفلسطينيين منقسمون حول أنفسهم.. وحتى إذا نجح واتفق مع «الأعداء».. فإن «الإخوة» سيفسدون هذا الاتفاق!.. ساعتها سيستأنف نتنياهو عملياته الاستيطانية ويسرع فى تهويد القدس.. ويكون اللوم من نصيب الفلسطينيين وحدهم!..